شرح زاد المستقنع فصل: يقف المأمومون خلف الإمام


الحلقة مفرغة

موقف المأموم من الإمام

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف عليه رحمة الله: [فصل: يقف المأمومون خلف الإمام]

تقدم في المواضع السابقة بيان جملة من الأحكام المتعلقة بالإمام، وما ينبغي أن يكون عليه من صفات قبل إمامته للناس، وكذلك حال إمامته.

وهنا شرع المصنف في مسألة مهمة من مسائل الإمامة وصلاة الجماعة، وهي التي تعرف بموقف المأموم مع الإمام، وذلك أن الجماعة تتحقق بواحد مع الإمام، ولا تكون الجماعة لواحد منفرد.

وعلى هذا يرد السؤال عن موقف الواحد مع الإمام، وعن موقف الاثنين، وعن موقف الثلاثة وأكثر.

ثم بعد ذلك يرد السؤال عن موقف الرجال وموقف النساء وموقف الصبيان والخناثى، ونحو ذلك من الأحكام المتعلقة بالمواقف.

قال رحمه الله: [يقف المأمومون خلف الإمام].

السنة للمأموم أن يقف وراء الإمام، وهذا إذا كان المأمومون أكثر من واحد، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إنما جعل الإمام ليؤتم به).

والإمام -كما يقول العلماء رحمهم الله-: مأخوذ من الأمام، وهو الخط الذي يخط في أول الدار؛ فكأنه ينبني عليه غيره، ولذلك يكون متقدماً متميزاً على غيره بهذا التقدم، ولا يكون مساوياً للمأمومين، فهذا في الأصل.

فقوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، معناه أن يكون المأموم تبعاً للإمام، وهذا يشمل ما يكون في الأفعال وما يكون في الصورة، فصورة المأموم في موقفه، فالأصل إذا كان المأمومون أكثر من واحد أن يكونوا وراء الإمام، أما لو كان المأموم واحداً فسيرد التفصيل في أحكامه، لكن الأصل في المأموم أن يقف وراء الإمام.

وقوله: [يقف المأمومون] عبر فيه بالجمع، وهذا يقتضي أن موقف الجماعة يكون وراء الإمام إذا كانوا اثنين فأكثر، وإذا وقف الاثنان عن جانبه الأيمن صحت صلاتهم؛ لأنه موقف معتبر.

وفي الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أنه لما قام عليه الصلاة والسلام بعد هوي من الليل وتوضأ ووقف قال ابن عباس : (فقمت فصنعت مثل ما صنع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جئت فقمت عن يساره فأدارني فجعلني عن يمينه).

فدل على أن ميمنة الإمام موقف، لكن إذا كان المأمومون أكثر من واحد فإنهم يقفون وراء الإمام، فلو وقف الاثنان عن يمينه فقد وقفا في موقف معتد به شرعاً فيصح ائتمامهم.

قال رحمه الله تعالى: [ويصح معه عن يمينه]

هذا يقع في الأحوال التي قد توجد فيها حاجة، أو توجد فيها ضرورة، كما لو كان المكان لا يتسع أن يتأخر المأمومون عن الإمام، فإذا كان المكان لا يتسع أن يتأخر المأمومون عن الإمام فإنهم يقفون ويصلون عن يمينه، ثلاثة كانوا أو أكثر، ولو كان صفاً طويلاً فلا حرج، كأن يكون هناك ممر وليس هناك متسع أن يكون الإمام متقدماً، فحينئذٍ يقفون عن يمينه.

وقال بعض العلماء: إنهم لو جعلوا الإمام أمامهم ثم تأخروا قليلاً عنه، وجعلوا فسحة بينهم وبينه فإنه لا حرج، واغتفروا هذا الفاصل اليسير، لكن شدد فيه بعض العلماء؛ لأنه بمثابة قطع الصف.

فالحاصل أنهم لو كانوا محتاجين ووقفوا عن يمينه فلا حرج، وهكذا إذا كانت ثَمَّ مشقة، بأن قطع الإنسان الصفوف وجاء ووقف عن يمين الإمام فلا حرج.

قال رحمه الله تعالى: [أو عن جانبيه].

يعني عن جانبي الإمام، فإنه لا حرج في أن يقف المأمومان أحدهما عن يمينه والثاني عن يساره، وهذا ثابت في حديثٍ أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صلى بـعلقمة والأسود صاحبيه، فأقام أحدهما عن يمينه والثاني عن يساره، ورفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وإن كان هذا الحديث فيه إشكال في رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه إن صح موقوفاً فـابن مسعود ناهيك به علماً وفقهاً، وهذا مذهب الحنفية رحمة الله عليهم، فيرون أن الاثنين يقف أحدهما عن يمينه والثاني عن يساره.

وخالفهم الجمهور رحمة الله عليهم فقالوا -وهو الصحيح-: إن الاثنين يقفان وراء الإمام؛ لحديث جابر وجبار فإنه لما قام جابر عن يمينه صلى الله عليه وسلم وجاء جبار دفع صلوات الله وسلامه عليه بصدورهما وراءه، كما في الحديث الصحيح، فدل على أن الاثنين يقفان وراء الإمام، ولا يقفان بحذاء الإمام عن يمينه وعن يساره.

وأما حديث ابن مسعود فالذي يظهر -والعلم عند الله، كما هو جواب طائفة من المحققين- أنه كان في أول الإسلام، وهي الصلاة المكية، ثم نسخت بالتشريع المدني.

والسبب في ذلك أن ابن مسعود لما صلى بـعلقمة والأسود رحمة الله عليهما ركع فطبق بين يديه، والتطبيق: هو أنه حينما يركع يجعل كفه اليمنى مع كفه اليسرى مجموعتين غير متداخلتين -أي: بدون تشبيك-، ويجعلهما بين الفخذين.

وكانت الصلاة بهذه الصفة كالتعظيم لله سبحانه وتعالى، ثم نُسِخت بوضع الكفين على الركبتين وإلقامهما، كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم معنا في صفة الركوع.

فكانت سنة مكية أنه إذا صلى الإمام يجعل أحد المأمومين عن يمينه والثاني عن يساره، ثم نسخ هذا بحديث جابر وجبار ، وكما يقول العلماء: إنه يستفاد من رواية الراوي ما يدل على النسخ، فلما كان ابن مسعود من أحفظ الناس للتشريع المكي، وهو من أسبق الصحابة رضوان الله عليهم وأعرفهم بالفقه المكي، وحديث جابر وجبار إنما كان بالمدينة قالوا: هذا يشير إلى أنه كان منسوخاً، بدليل أن جباراً لما جاء وقف عن اليسار، فدل على أنه كان معهوداً في أول الأمر أن يقف أحدهم عن يمينه والثاني عن يساره، وهذا هو أعدل الأوجه وأقواها في الجواب عن هذه السنة الواردة، والتي حفظها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه.

فالخلاصة أن الاثنين فأكثر يقفون وراء الإمام، والأصل في ذلك حديث أنس (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، فلو أنه وقف الإمام بينهم لم يكن ائتماماً بالصورة، ولذلك قالوا: يتقدم ويتأخران.

قال رحمه الله تعالى: [لا قدامه].

أي: لا يجوز للمأموم أن يتقدم على الإمام، وذلك لنص الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، فلو تقدم عليه لم يأتم به، وإنما صار المأموم كأنه إمام لإمامه، وهذا خلاف المقصود شرعاً.

ثم إنَّ تقدمَ المأموم على الإمام فيه مفاسد، ومن أعظمها أنه تختلف عليه أفعال الإمام، ولربما يحصل منه اختلاج في صلاته، والسبب في ذلك واضح، فلو صلى وراء الإمام رباعية وسها الإمام ولم يجلس للتشهد الأول فقام ووقف، فإن المأموم سيجلس للتشهد؛ لأن ظنه أن الإمام جلس للتشهد، فلا يشعر إلا والإمام راكع، وحينئذٍ تختلف صلاة المأموم مع إمامه.

قال رحمه الله تعالى: [ولا عن يساره فقط].

الدليل على أن اليسار ليس بموقف حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فإن ابن عباس لما بات عند خالته ميمونة رضي الله عنه وعنها قال: (فلما كان هوياً من الليل قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى إلى شنِّ فتوضأ، ثم قمت فصنعت مثلما صنع فقمت عن يساره فأدارني عن يمينه).

ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم حرك ابن عباس ، وحصل هذا الفعل لمصلحة الصلاة، فدل على أن يسار الإمام ليس بموقف، وأنه إذا وقف المأموم في يسار الإمام وجب أن يحوله إلى يمينه.

بطلان صلاة المنفرد خلف الصف غير المرأة

قال رحمه الله تعالى: [ولا الفذ خلفه أو خلف الصف إلا أن يكون امرأة].

أي: لا تصح صلاة الفذ إذا وقعت خلف الصف، فإنه إذا صلى منفرداً خلف الصف لم تصح صلاته، إلا المرأة، فإن النص ورد باستثنائها.

أما الدليل على أن المنفرد لا تصح صلاته خلف الصف فحديث وابصة بن معبد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) .

وكذلك حديث علي بن شيبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم انفتل من صلاته ورأى رجلاً يصلي وحده فقال له: (استقبل الصلاة -أي: أعد الصلاة- فإنه لا صلاة لمنفرد خلف الصف)، فدل على أن من صلى وراء الصف ركعة كاملة فأكثر أن صلاته باطلة وتلزمه الإعادة.

قوله: [إلا أن يكون امرأة]

أي: إلا أن يكون الواقف امرأة، وهذا الأصل فيه حديث أنس رضي الله عنه -وهو ثابت في الصحيحين- أن النبي صلى الله عليه وسلم زار أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها وأرضاها، قال أنس : فقال لنا: (قوموا فلأصلي لكم) -وهذا في الضحى- قال أنس : (فقمت إلى حصير قد اسود من طول ما لُبس فنضحته، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من خلفنا).

ووجه الدلالة أن العجوز -أي: المرأة- صلت وراءهم وهذا يدل على أن المرأة إذا انفردت فصلاتها صحيحة، وعلى هذا قالوا: إن عموم قوله: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) يخصص، وتستثنى منه المرأة لثبوت الحديث الصحيح باستثنائها، وللشرع في ذلك حكم، منها: دفع المفاسد باختلاط الرجال مع النساء.

موقف إمامة النساء

قال رحمه الله تعالى: [وإمامة النساء تقف في صفهن].

ذكرنا أن النساء يُشرع لهن أن تكون بينهن جماعة، وأن تكون إمامتهن منهن، ولا حرج في ذلك؛ لحديث أم ورقة الأنصارية رضي الله عنها، حيث أذن لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تصلي بأهل دارها.

فلما أذن لها عليه الصلاة والسلام أن تصلي بأهل دارها دل هذا على أن المرأة تكون إماماً، ولكن للنساء، وعلى هذا يرد السؤال: حيث عرفنا أن موقف المأموم يكون وراء الإمام فهل هذا الحكم عام للرجال والنساء؟

والجواب أنه يختص بالرجال دون النساء، أما النساء فلو كانت الإمامة منهن فإنها تقف بينهن ولا تقف أمامهن، وهذا فعل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وكذلك أم سلمة رضي الله عن الجميع، وروى ذلك سعيد بن منصور في السنن.

فقالوا: إنه لا يمكن أن تفعل أم المؤمنين رضي الله عنها وهي الفقيهة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها، لا يمكن أن تفعل هذا دون توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم إن مقاصد الشرع تؤكد هذا، حيث إن المرأة إذا صلّت بين النساء كان هذا أستر لها وأحفظ، بخلاف ما لو تقدمت عليهن، ولأن للرجال درجة على النساء، وفرق ما بين النساء والرجال، فقُدِّم الرجال لأمن الفتنة، وتأخرت النساء لوجود الفتنة.

ترتيب المأمومين خلف الإمام

قال رحمه الله تعالى: [ويليه الرجال ثم الصبيان ثم النساء كجنائزهم].

أي: يلي الإمام الرجال، والأصل قوله عليه الصلاة والسلام: (ليلني منكم أولو الأحلام).

فدل على أن السنة أن يلي الإمام الكبار والعقلاء، خاصة أهل العلم والحلم والعقل والفضل، ويكون هذا المكان -الذي هو خلف الإمام مباشرة- لأمثال هؤلاء.

والمطلوب أن يبكروا، وأن يبادروا بالحضور لا أن يتأخروا ويتخطوا رقاب الناس، أو تحجز لهم أماكن، فإن المساجد لا يجوز فيها حجز الأماكن إلا لمن خرج لضرورة وحاجة بعد أن يجلس وينال حق المكان، أما أن يحجز لأمثال هؤلاء الأماكن ويمنع منها من سبق فهذا لا يجوز، وهذا من الظلم الذي يعتبر أذية للناس، والله تعالى منع أن يمنع الإنسان أحداً أن يصلي في مساجده، فإذا جاء شخص إلى الصف الأول مبكراً فهذا حقه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من سبق إلى شيء فهو أحق به).

وبعض الناس يفهم من قوله: (ليلني منكم أولو الأحلام) أنه يحجز ما وراء الإمام للكبار وأهل العقل ونحوهم، وهذا ليس بصحيح، فإن الناس في المساجد على حد سواء.

ولذلك مَن سَبق فهو أحق، وإنما مراده عليه الصلاة والسلام في قوله: (ليلني منكم أولو الأحلام) أن يبادروا وأن يبكروا بالمضي، حتى يكون ذلك أدعى لحفظ صلاة الإمام.

والسبب في الأمر بأن يليه الرجال وأهل العقل أنه ربما طرأت أمور، بمعنى أن الإمام قد يسهو، وكذلك أيضاً ربما يصيبه السهو في القراءة، فيحتاج إلى من يرد عليه، وكذلك ربما التبس عليه الأمر ماذا يصنع في صلاته، فإذا كان وراءه من يعقل ويفهم فإنه ينبهه.

ثم إنه يكون على درجة من الوعي والإدراك لما يفعله الإمام، بخلاف العوام وهيشات الناس فإنهم دون ذلك لانشغالهم بمصالحهم، وبعدهم عن استشعار الصلاة مثل أولي الأحلام والنهى.

فيتقدم الرجال، ثم بعد الرجال الصبيان، كما ورد في حديث أنس وأبي موسى الأشعري رضي الله عن الجميع، فكان صلى الله عليه وسلم يكون الرجال وراءه، ثم وراءهم الصبيان، ثم من بعد ذلك النساء، فهذه هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

والخناثى يكونون بين الرجال والنساء، ولا يكون الخناثى مع النساء ولا مع الرجال؛ لأنهم لم يبلغوا درجة الرجال، وليس بمتحقق أنهم نساء، فهم بين الأمرين، ونظراً لهذا يكون موقفهم بينهما، أي بين الرجال والنساء.

وقوله: [كجنائزهم].

يعني مثلما تقدم في الجنائز.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف عليه رحمة الله: [فصل: يقف المأمومون خلف الإمام]

تقدم في المواضع السابقة بيان جملة من الأحكام المتعلقة بالإمام، وما ينبغي أن يكون عليه من صفات قبل إمامته للناس، وكذلك حال إمامته.

وهنا شرع المصنف في مسألة مهمة من مسائل الإمامة وصلاة الجماعة، وهي التي تعرف بموقف المأموم مع الإمام، وذلك أن الجماعة تتحقق بواحد مع الإمام، ولا تكون الجماعة لواحد منفرد.

وعلى هذا يرد السؤال عن موقف الواحد مع الإمام، وعن موقف الاثنين، وعن موقف الثلاثة وأكثر.

ثم بعد ذلك يرد السؤال عن موقف الرجال وموقف النساء وموقف الصبيان والخناثى، ونحو ذلك من الأحكام المتعلقة بالمواقف.

قال رحمه الله: [يقف المأمومون خلف الإمام].

السنة للمأموم أن يقف وراء الإمام، وهذا إذا كان المأمومون أكثر من واحد، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إنما جعل الإمام ليؤتم به).

والإمام -كما يقول العلماء رحمهم الله-: مأخوذ من الأمام، وهو الخط الذي يخط في أول الدار؛ فكأنه ينبني عليه غيره، ولذلك يكون متقدماً متميزاً على غيره بهذا التقدم، ولا يكون مساوياً للمأمومين، فهذا في الأصل.

فقوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، معناه أن يكون المأموم تبعاً للإمام، وهذا يشمل ما يكون في الأفعال وما يكون في الصورة، فصورة المأموم في موقفه، فالأصل إذا كان المأمومون أكثر من واحد أن يكونوا وراء الإمام، أما لو كان المأموم واحداً فسيرد التفصيل في أحكامه، لكن الأصل في المأموم أن يقف وراء الإمام.

وقوله: [يقف المأمومون] عبر فيه بالجمع، وهذا يقتضي أن موقف الجماعة يكون وراء الإمام إذا كانوا اثنين فأكثر، وإذا وقف الاثنان عن جانبه الأيمن صحت صلاتهم؛ لأنه موقف معتبر.

وفي الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أنه لما قام عليه الصلاة والسلام بعد هوي من الليل وتوضأ ووقف قال ابن عباس : (فقمت فصنعت مثل ما صنع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جئت فقمت عن يساره فأدارني فجعلني عن يمينه).

فدل على أن ميمنة الإمام موقف، لكن إذا كان المأمومون أكثر من واحد فإنهم يقفون وراء الإمام، فلو وقف الاثنان عن يمينه فقد وقفا في موقف معتد به شرعاً فيصح ائتمامهم.

قال رحمه الله تعالى: [ويصح معه عن يمينه]

هذا يقع في الأحوال التي قد توجد فيها حاجة، أو توجد فيها ضرورة، كما لو كان المكان لا يتسع أن يتأخر المأمومون عن الإمام، فإذا كان المكان لا يتسع أن يتأخر المأمومون عن الإمام فإنهم يقفون ويصلون عن يمينه، ثلاثة كانوا أو أكثر، ولو كان صفاً طويلاً فلا حرج، كأن يكون هناك ممر وليس هناك متسع أن يكون الإمام متقدماً، فحينئذٍ يقفون عن يمينه.

وقال بعض العلماء: إنهم لو جعلوا الإمام أمامهم ثم تأخروا قليلاً عنه، وجعلوا فسحة بينهم وبينه فإنه لا حرج، واغتفروا هذا الفاصل اليسير، لكن شدد فيه بعض العلماء؛ لأنه بمثابة قطع الصف.

فالحاصل أنهم لو كانوا محتاجين ووقفوا عن يمينه فلا حرج، وهكذا إذا كانت ثَمَّ مشقة، بأن قطع الإنسان الصفوف وجاء ووقف عن يمين الإمام فلا حرج.

قال رحمه الله تعالى: [أو عن جانبيه].

يعني عن جانبي الإمام، فإنه لا حرج في أن يقف المأمومان أحدهما عن يمينه والثاني عن يساره، وهذا ثابت في حديثٍ أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صلى بـعلقمة والأسود صاحبيه، فأقام أحدهما عن يمينه والثاني عن يساره، ورفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وإن كان هذا الحديث فيه إشكال في رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه إن صح موقوفاً فـابن مسعود ناهيك به علماً وفقهاً، وهذا مذهب الحنفية رحمة الله عليهم، فيرون أن الاثنين يقف أحدهما عن يمينه والثاني عن يساره.

وخالفهم الجمهور رحمة الله عليهم فقالوا -وهو الصحيح-: إن الاثنين يقفان وراء الإمام؛ لحديث جابر وجبار فإنه لما قام جابر عن يمينه صلى الله عليه وسلم وجاء جبار دفع صلوات الله وسلامه عليه بصدورهما وراءه، كما في الحديث الصحيح، فدل على أن الاثنين يقفان وراء الإمام، ولا يقفان بحذاء الإمام عن يمينه وعن يساره.

وأما حديث ابن مسعود فالذي يظهر -والعلم عند الله، كما هو جواب طائفة من المحققين- أنه كان في أول الإسلام، وهي الصلاة المكية، ثم نسخت بالتشريع المدني.

والسبب في ذلك أن ابن مسعود لما صلى بـعلقمة والأسود رحمة الله عليهما ركع فطبق بين يديه، والتطبيق: هو أنه حينما يركع يجعل كفه اليمنى مع كفه اليسرى مجموعتين غير متداخلتين -أي: بدون تشبيك-، ويجعلهما بين الفخذين.

وكانت الصلاة بهذه الصفة كالتعظيم لله سبحانه وتعالى، ثم نُسِخت بوضع الكفين على الركبتين وإلقامهما، كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم معنا في صفة الركوع.

فكانت سنة مكية أنه إذا صلى الإمام يجعل أحد المأمومين عن يمينه والثاني عن يساره، ثم نسخ هذا بحديث جابر وجبار ، وكما يقول العلماء: إنه يستفاد من رواية الراوي ما يدل على النسخ، فلما كان ابن مسعود من أحفظ الناس للتشريع المكي، وهو من أسبق الصحابة رضوان الله عليهم وأعرفهم بالفقه المكي، وحديث جابر وجبار إنما كان بالمدينة قالوا: هذا يشير إلى أنه كان منسوخاً، بدليل أن جباراً لما جاء وقف عن اليسار، فدل على أنه كان معهوداً في أول الأمر أن يقف أحدهم عن يمينه والثاني عن يساره، وهذا هو أعدل الأوجه وأقواها في الجواب عن هذه السنة الواردة، والتي حفظها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه.

فالخلاصة أن الاثنين فأكثر يقفون وراء الإمام، والأصل في ذلك حديث أنس (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، فلو أنه وقف الإمام بينهم لم يكن ائتماماً بالصورة، ولذلك قالوا: يتقدم ويتأخران.

قال رحمه الله تعالى: [لا قدامه].

أي: لا يجوز للمأموم أن يتقدم على الإمام، وذلك لنص الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، فلو تقدم عليه لم يأتم به، وإنما صار المأموم كأنه إمام لإمامه، وهذا خلاف المقصود شرعاً.

ثم إنَّ تقدمَ المأموم على الإمام فيه مفاسد، ومن أعظمها أنه تختلف عليه أفعال الإمام، ولربما يحصل منه اختلاج في صلاته، والسبب في ذلك واضح، فلو صلى وراء الإمام رباعية وسها الإمام ولم يجلس للتشهد الأول فقام ووقف، فإن المأموم سيجلس للتشهد؛ لأن ظنه أن الإمام جلس للتشهد، فلا يشعر إلا والإمام راكع، وحينئذٍ تختلف صلاة المأموم مع إمامه.

قال رحمه الله تعالى: [ولا عن يساره فقط].

الدليل على أن اليسار ليس بموقف حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فإن ابن عباس لما بات عند خالته ميمونة رضي الله عنه وعنها قال: (فلما كان هوياً من الليل قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى إلى شنِّ فتوضأ، ثم قمت فصنعت مثلما صنع فقمت عن يساره فأدارني عن يمينه).

ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم حرك ابن عباس ، وحصل هذا الفعل لمصلحة الصلاة، فدل على أن يسار الإمام ليس بموقف، وأنه إذا وقف المأموم في يسار الإمام وجب أن يحوله إلى يمينه.

قال رحمه الله تعالى: [ولا الفذ خلفه أو خلف الصف إلا أن يكون امرأة].

أي: لا تصح صلاة الفذ إذا وقعت خلف الصف، فإنه إذا صلى منفرداً خلف الصف لم تصح صلاته، إلا المرأة، فإن النص ورد باستثنائها.

أما الدليل على أن المنفرد لا تصح صلاته خلف الصف فحديث وابصة بن معبد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) .

وكذلك حديث علي بن شيبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم انفتل من صلاته ورأى رجلاً يصلي وحده فقال له: (استقبل الصلاة -أي: أعد الصلاة- فإنه لا صلاة لمنفرد خلف الصف)، فدل على أن من صلى وراء الصف ركعة كاملة فأكثر أن صلاته باطلة وتلزمه الإعادة.

قوله: [إلا أن يكون امرأة]

أي: إلا أن يكون الواقف امرأة، وهذا الأصل فيه حديث أنس رضي الله عنه -وهو ثابت في الصحيحين- أن النبي صلى الله عليه وسلم زار أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها وأرضاها، قال أنس : فقال لنا: (قوموا فلأصلي لكم) -وهذا في الضحى- قال أنس : (فقمت إلى حصير قد اسود من طول ما لُبس فنضحته، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من خلفنا).

ووجه الدلالة أن العجوز -أي: المرأة- صلت وراءهم وهذا يدل على أن المرأة إذا انفردت فصلاتها صحيحة، وعلى هذا قالوا: إن عموم قوله: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) يخصص، وتستثنى منه المرأة لثبوت الحديث الصحيح باستثنائها، وللشرع في ذلك حكم، منها: دفع المفاسد باختلاط الرجال مع النساء.

قال رحمه الله تعالى: [وإمامة النساء تقف في صفهن].

ذكرنا أن النساء يُشرع لهن أن تكون بينهن جماعة، وأن تكون إمامتهن منهن، ولا حرج في ذلك؛ لحديث أم ورقة الأنصارية رضي الله عنها، حيث أذن لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تصلي بأهل دارها.

فلما أذن لها عليه الصلاة والسلام أن تصلي بأهل دارها دل هذا على أن المرأة تكون إماماً، ولكن للنساء، وعلى هذا يرد السؤال: حيث عرفنا أن موقف المأموم يكون وراء الإمام فهل هذا الحكم عام للرجال والنساء؟

والجواب أنه يختص بالرجال دون النساء، أما النساء فلو كانت الإمامة منهن فإنها تقف بينهن ولا تقف أمامهن، وهذا فعل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وكذلك أم سلمة رضي الله عن الجميع، وروى ذلك سعيد بن منصور في السنن.

فقالوا: إنه لا يمكن أن تفعل أم المؤمنين رضي الله عنها وهي الفقيهة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها، لا يمكن أن تفعل هذا دون توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم إن مقاصد الشرع تؤكد هذا، حيث إن المرأة إذا صلّت بين النساء كان هذا أستر لها وأحفظ، بخلاف ما لو تقدمت عليهن، ولأن للرجال درجة على النساء، وفرق ما بين النساء والرجال، فقُدِّم الرجال لأمن الفتنة، وتأخرت النساء لوجود الفتنة.

قال رحمه الله تعالى: [ويليه الرجال ثم الصبيان ثم النساء كجنائزهم].

أي: يلي الإمام الرجال، والأصل قوله عليه الصلاة والسلام: (ليلني منكم أولو الأحلام).

فدل على أن السنة أن يلي الإمام الكبار والعقلاء، خاصة أهل العلم والحلم والعقل والفضل، ويكون هذا المكان -الذي هو خلف الإمام مباشرة- لأمثال هؤلاء.

والمطلوب أن يبكروا، وأن يبادروا بالحضور لا أن يتأخروا ويتخطوا رقاب الناس، أو تحجز لهم أماكن، فإن المساجد لا يجوز فيها حجز الأماكن إلا لمن خرج لضرورة وحاجة بعد أن يجلس وينال حق المكان، أما أن يحجز لأمثال هؤلاء الأماكن ويمنع منها من سبق فهذا لا يجوز، وهذا من الظلم الذي يعتبر أذية للناس، والله تعالى منع أن يمنع الإنسان أحداً أن يصلي في مساجده، فإذا جاء شخص إلى الصف الأول مبكراً فهذا حقه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من سبق إلى شيء فهو أحق به).

وبعض الناس يفهم من قوله: (ليلني منكم أولو الأحلام) أنه يحجز ما وراء الإمام للكبار وأهل العقل ونحوهم، وهذا ليس بصحيح، فإن الناس في المساجد على حد سواء.

ولذلك مَن سَبق فهو أحق، وإنما مراده عليه الصلاة والسلام في قوله: (ليلني منكم أولو الأحلام) أن يبادروا وأن يبكروا بالمضي، حتى يكون ذلك أدعى لحفظ صلاة الإمام.

والسبب في الأمر بأن يليه الرجال وأهل العقل أنه ربما طرأت أمور، بمعنى أن الإمام قد يسهو، وكذلك أيضاً ربما يصيبه السهو في القراءة، فيحتاج إلى من يرد عليه، وكذلك ربما التبس عليه الأمر ماذا يصنع في صلاته، فإذا كان وراءه من يعقل ويفهم فإنه ينبهه.

ثم إنه يكون على درجة من الوعي والإدراك لما يفعله الإمام، بخلاف العوام وهيشات الناس فإنهم دون ذلك لانشغالهم بمصالحهم، وبعدهم عن استشعار الصلاة مثل أولي الأحلام والنهى.

فيتقدم الرجال، ثم بعد الرجال الصبيان، كما ورد في حديث أنس وأبي موسى الأشعري رضي الله عن الجميع، فكان صلى الله عليه وسلم يكون الرجال وراءه، ثم وراءهم الصبيان، ثم من بعد ذلك النساء، فهذه هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

والخناثى يكونون بين الرجال والنساء، ولا يكون الخناثى مع النساء ولا مع الرجال؛ لأنهم لم يبلغوا درجة الرجال، وليس بمتحقق أنهم نساء، فهم بين الأمرين، ونظراً لهذا يكون موقفهم بينهما، أي بين الرجال والنساء.

وقوله: [كجنائزهم].

يعني مثلما تقدم في الجنائز.

قال رحمه الله تعالى: [ومن لم يقف معه إلا كافرٌ أو امرأة أو من علم حدثه أحدهما أو صبي في فرض ففذ].

هذا نوع من التسلسل في الأفكار، ومن عادة الفقهاء رحمة الله عليهم أنهم يذكرون لك الأصل، وبعد تقريرهم للأصل يبينون ما استُثني من الأصل، أي يبين الأصل الذي دلت عليه النصوص، ثم بعد ذلك يرد السؤال في الأحوال الطارئة.

فنحن لو قلنا: إن المنفرد لا تصح صلاته خلف الصف، فهذا يأتي على صور، فإن كان المنفرد جاء وصلى وحيداً وراء الصف فلا إشكال في أن هذا انفراد حقيقي.

وهناك نوع ثانٍ وهو الانفراد الحكمي، وصورة ذلك: أن يصلي معه صبي، أو يصلي معه كافر، أو يصلي معه محدِث يعلم بحَدَثه، فهؤلاء وإن كانت صورة حالهم أنهم مؤتمون، ولكنهم في الحقيقة وجودهم وعدمهم على حد سواء، فإن الكافر لا تصح صلاته، والصبي لا تعتبر مصافته على هذا القول الذي درج عليه المصنف رحمه الله، والمحدِث كذلك صلاته غير صحيحة لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ).

فمعنى ذلك أن المحدث الذي يصلي بجانبه لا صلاة له، وإذا كان لا صلاة له فإنه حينئذٍ لا تعتبر مصافّته، فوجوده وعدمه على حد سواء.

وأما الكافر فإنه لا إشكال أن الكافر وجوده وعدمه على حد سواء، والمحدث لا إشكال أن وجوده وعدمه على حد سواء، وبقي عندنا اثنان: أحدهما الصبي، والثاني المرأة. فلو فرضنا أنك جئت والإمام في ركعة من الركعات، فجئت وكبرت وبجوارك صبي ليس هناك غيره، وأنت وإياه دون الصفوف، فهل تعتد بهذه الركعة وتصح صلاتك، وتعتبر في حكم من دخل الصف، أم أن وقوف الصبي بجوارك وجوده وعدمه على حد سواء فأنت منفرد، ولو كنت في الظاهر مع غيرك؟

الجواب: هذه المسألة فيها قولان للعلماء:

فالجمهور على أن الصبي يُعتبر من صلى بجواره غير فذ وصلاته صحيحة.

وذهب بعض الحنابلة رحمة الله عليهم -ونص البعض أنه هو مذهب الإمام أحمد- إلى أنه لا يُعتد بالصبي، وأنه يلزمه أن يعيد صلاته إذا لم يأتِ بالغ يعتد بموقفه.

والصحيح مذهب الجمهور أن وقوف الصبي معك معتد به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع)، فدل على صحة الصلاة واعتبارها منهم، وأمر بضربهم عليها لعشر.

والدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف ابن عباس عن يساره أداره عن يمينه، فدل على أنه معتد بموقفه، إذ لو لم يكن لموقفه اعتداد لما كان لإدارته من فائدة؛ لأنه يستوي أن يقف هنا أو هنا إذا كان لا يُعتد به.

فدل على أن الصبي يُعتبر وقوفه مع الإنسان رافعاً لوصف الفردية، كذلك أيضاً مما يؤكده حديث أنس في الصحيحين: (وصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا) فقوله: (وصففت أنا واليتيم وراءه) يدل على أن الصبي يعتبر رافعاً لوصف الانفراد.

إذ لو لم يكن رافعاً لقدَّم النبي صلى الله عليه وسلم أنساً يصلي بجواره، فلو قال قائل: إن أنساً ربما كان صبياً، أو صغير السن، فجوابه: ولو قلنا بذلك! ألا تراه عليه الصلاة والسلام أخَّرهما، فدل على أنهما اثنان، وإذا كانا اثنين فمعنى ذلك أنه معتدُّ بوقوف اليتيم مع أنس، فبوقوف أنس مع اليتيم صارا بمثابة الصف، وعلى هذا فمن وقف بجوار صبي صحت صلاته، ولا يعتبر منفرداً على الصحيح.

وأما المرأة ففيها خلاف أيضاً:

فمن العلماء من قال: إن المرأة إذا وقفت بجوار الرجل وهو فذ فصلاته صحيحة، ويرتفع عنه الوصف المؤثر الموجب لبطلان صلاة الفذ؛ لأنه ليس بفذٍ. وهذا مذهب المالكية والشافعية وطائفة من أصحاب الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.

والقول الثاني يقول: إن وقوف الرجل بجوار المرأة لا يعتبر رافعاً لوصف الفذ، بل هو فذ وشدد الحنفية وقالوا: لو وقف الرجل بجوار امرأة، أو صف الرجل بجوار النساء ولو كان معه رجال من الطرف ونساء من الطرف، ولو امرأة واحدة بالغة بطلت صلاة الرجال الذين صفوا والنساء.

وقد ذكرنا هذه المسألة من قبل، وبينا أن الصحيح أن الرجال إذا حاذوا النساء لا تبطل صلاة الرجال؛ لأنه ليس ثم دليل على أن المرأة إذا وقفت بجوار الرجل تُبطِل صلاته، لكن المسألة التي معنا هي أنه لو وقفت المرأة مع الرجل فإنه فذ على الصحيح، وهو المذهب، والسبب في ذلك واضح، وهو أن الشرع أمر المرأة في هذه الحالة أن تتأخر، فإن تقدمت وصافت الرجل فإن هذا التقدم منهي عنه شرعاً، والمنهي عنه شرعاً لا يُعتد به ولا يُحتسب، فصار وجوده وعدمه على حد سواء.

الدخول في الفرجة والتفصيل فيه

قال رحمه الله تعالى: [ومن وجد فرجة دخلها وإلا عن يمين الإمام].

أي: من وجد فرجة في الصف فمن حقه أن يدخل، بل يجب عليه أن يسد ما بين الصفوف من الفرج، وهذا هو الأصل، حتى لا يتخلل الشيطان.

وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإلزاق الكعب بالكعب والمنكب بالمنكب، وكل ذلك حتى لا يتخلل الشيطان، وبناءً عليه فمن وجد فُرجة فإنه يُحاول أن يتمكن منها ويدخل.

والفرجة فيها تفصيل، فالفرجة في بعض الأحيان تكون دون الشخص، فلو وجد فرجة ولكنها دونه بحيث لو دخل في الصف فإنه يضايق الناس فهذا لا يدخل في الصف لوجود الحرج والأذية، والذين سبقوا أحق بذلك.

والحل في هذه الحالة أنه إذا وُجِدت الفرجة سحب بعضهم بعضاً، والعبرة بجهة الإمام، فإن كانت الفرجة عن اليمين والإمام في المنتصف فإن معنى ذلك أن ينسحبوا إلى جهة اليسار؛ لأن العبرة بجهة الإمام، وإن كانت الفرجة في اليسار والإمام في المنتصف فإنهم ينسحبون إلى جهة اليمين، فيسحب بعضهم بعضاً إلى جهة اليمين حتى تصير الفرج في الأطراف.

فإن صارت الفرجة في الطرف ففيها تفصيل: فإن كانت الفرجة تسع الرجل أثم من تأخر من الرجال في الصف الذي يليه، وإن كانت الفرجة لا تسع بأن كانت لا يمكن دخول الرجل فيها فإنهم يُعذرون في ذلك، ولا تؤثر شيئاً، كما لو صلوا وانتهى حد الصف عند هذا القدر.

قوله: [وإلا عن يمين الإمام].

أي: إن وجد الفُرجة دخل حتى لا يصلي منفرداً، وإلا صلى عن يمين الإمام حتى تصح صلاته، ويصح له أن يأتي عن يمين الإمام، ولا حرج عليه.

حكم جذب المنفرد لشخص من الصف

قال رحمه الله تعالى: [فإن لم يمكنه فله أن ينبه من يقوم معه]

إذا جئت فوجدت الصفوف مكتملة بينك وبين الإمام، ولا تستطيع أن تتخطى هذه الصفوف، ولم تجد فرجة أمامك، فلك أن تنبه من أمامك، قالوا: فإذا أمسك الساحب بطرف ثوبه يتراجع، وإذا رجع كان هذا من التعاون على البر والتقوى، ولا إثم عليه.

وقالوا: إنه إذا رجع فقد أعان على صحة صلاةٍ، خاصة إذا لم يوجد شخص آخر، فإعانته على صحة الصلاة له فيها الأجر؛ لأن الصلاة لهذا المنفرد لا تصح إلا مع وجود من يقوم معه، وهذا قد فعل السبب الذي صحّت به صلاته فكان له كأجره؛ لأنه أعان على خير.

وقد ورد في هذا حديث عند الحاكم ، ولكن تُكلِّم في إسناده ولم يخل من مقال، ففي هذا رواية معضلة، وفيه رواية مرسلة وهي رواية الجذب: أي أنه يجذب أحداً من الصف، وقال بعض العلماء: إنه لا يجذب، وإذا جذب أحداً فإنه يأثم، ولا ينبغي للمجذوب أن يستجيب لمن يجذبه.

وإن كان الأقوى والأشبه أنه إن جذبه واستجاب فبها ونعمت، وإن لم يجذبه فإنه يُصلي، فإن جاء أحد فبها ونعمت، وإن لم يجئ أحد فإنه يستقبل صلاته ويصليها.

وشدد بعض العلماء حتى قال ابن حزم الظاهري : إنه إذا لم يجد أحداً فإنه يرجع إلى بيته، وهذا أمر الصعوبة منه بمكان؛ فإن المساجد بنيت لإقامة الجماعة، وكونه يؤمر بالرجوع إلى بيته فيه مخالفة لمقصود الشرع.

والذي يظهر -والله أعلم- أنه يحاول الجذب حتى يجد من يستجيب، فإن رجع الإنسان بالجذب فعلى حالات:

الحالة الأولى: أن تمكث معه بقية الصلاة ولا يأتي أحد فلا إشكال، فتصير الفرجة التي حدثت في الصف يمكن سدها بجذب بعض الناس لبعض حتى تصير في طرف الصف، ويصير الناس معذورين بهذا، وأنت معذور بتصحيح صلاة من معك.

قالوا: إن مفسدة الفرجة أهون من مفسدة فساد الصلاة وهذا صحيح؛ فإنك لو تأمَّلت أنه لو سُحِب صارت فرجة فإن هذه الفرجة يمكن سدها لو حضر شخص معه، وإذا لم يمكن سدها وبقيت فإن مفسدتها أهون من مفسدة فوات الصلاة على هذا المصلي.

وعلى هذا فإن لم يجئ أحد وبقيت معه فلا إشكال، فلك أجر إعانته على صحة صلاته، وإن جاء أحد تقدمت إلى الفرجة وسددتها؛ لأن القاعدة تقول: (ما شرع لعذر بطل بزواله)، وبعضهم يقول: (ما جاز لعذر بطل بزواله)، وهذا جاز لعذر -وهو تصحيح صلاته معك- وقد صحت، ثم لما جاء الثاني زال العذر، فحينئذٍ يبطل تأخرك عن الصف، فتتقدم للصف الذي كنت فيه.

قال رحمه الله تعالى: [فإن صلى فذاً ركعة لم تصح].

قيل: لم تصح صلاته، وقيل: لم تصح الركعة التي صلاها دون الصف، وعلى هذا لو أدركه أحد في الركعات الباقية فإنه يقضي هذه الركعة وحدها، فتبطل الركعة التي دون الصف ويلزم بإتمامها، وقال بعض العلماء: بل تبطل جميع الصلاة.

حكم الركوع فذاً قبل الدخول في الصف

قال رحمه الله تعالى: [وإن ركع فذاً ثم دخل في الصف، أو وقف معه آخر قبل سجود الإمام صحت].

هذه مسألة اعترض بها الجمهور على القائلين بأن صلاة الفذ لا تصح، فالإمام أحمد رحمة الله عليه يقول: من صلى فذاً أو منفرداً دون الصف بطلت صلاته إلا المرأة.

فاعتُرض عليه بحديث أبي بكرة ، وحاصل حديث أبي بكرة أنه (دخل والنبي صلى الله عليه وسلم راكع، فخاف أن يرفع النبي صلى الله عليه وسلم فكبر دون الصف، ثم دب ودخل في الصف، فلما سلّم عليه الصلاة والسلام قال: من فعل كذا وكذا؟ قال أبو بكرة : أنا. قال: زادك الله حرصاً ولا تَعُد)، فروي في لفظ الحديث: (لا تَعُد)، (ولا تُعِد)، (ولا تعدُ).

وأقوى الروايات: (ولا تَعُد) قيل معناها: لا تعد إلى التأخر عن الصلاة حتى لا تضطر إلى مثل هذا الفعل. وهذا عند من يرى صحة هذا الفعل وبقاء التشريع به.

وقيل: ولا تعد إلى مثل هذا الفعل مرة ثانية. وقيل: لا تَعُد إلى الإسراع؛ لأنه كأنه أسرع بعد ركوعه فصار فيه تشويش؛ لأن المساجد كانت في الرمال، ومشي الناس بسرعة يزعج المصلين.

ولذلك قالوا: هذا هو المقصود من قوله (ولا تَعُد)، وأما (ولا تُعِد)، و(ولا تَعْدُ)فلا إشكال فيهما.

فعلى هذا اعترض الجمهور، فقالوا: أنتم تقولون: إن المنفرد إذا صلى خلف الصف بطلت صلاته، وهذا أبو بكرة قد كبر تكبيرة الإحرام وركع ودب إلى الصف، فانعقد ركنه دون الصف! فلو كانت صلاة الفذ لا تصح لبطلت صلاته، ولأمره عليه الصلاة والسلام بإعادتها.

والجواب عن ذلك ما قاله الإمام أحمد حيث قال: أُبقي حديث (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) على عمومه، وأستثني من فَعل فِعل أبي بكرة وهذا هو الفقه، وهو الجمع بين النصوص على حسب دلالتها، فأعمل رحمة الله عليه عموم قوله: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف)، واستثنى حالة أبي بكرة ، وقال: لا إشكال فيمن فَعل فِعل أبي بكرة، فإني أصحح صلاته، بمعنى أنه يكبر ثم يدب إلى الصف.

قال: وفي حكمه ما لو ركع وجاء رجل معه وركع قبل أن يرفع الإمام فإنه تصح صلاته وتجزيه.

وهذا القول لا شك أن السنة تدل عليه، خاصة أنه مسلك أصولي صحيح، فأنت إذا تأملت حديث (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) وجدت أن هذا العموم دخله التخصيص، والدليل على ذلك أنه استثني منه المرأة فيما ذكرناه من حديث أنس ، فإذا استثنيت المرأة فمعنى ذلك أنه عام مخصص، فلا مانع أن تخصص منه الأحوال في جنس ما قيل بالعموم فيه، أعني الرجال.

قال رحمه الله تعالى: [ومن وجد فرجة دخلها وإلا عن يمين الإمام].

أي: من وجد فرجة في الصف فمن حقه أن يدخل، بل يجب عليه أن يسد ما بين الصفوف من الفرج، وهذا هو الأصل، حتى لا يتخلل الشيطان.

وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإلزاق الكعب بالكعب والمنكب بالمنكب، وكل ذلك حتى لا يتخلل الشيطان، وبناءً عليه فمن وجد فُرجة فإنه يُحاول أن يتمكن منها ويدخل.

والفرجة فيها تفصيل، فالفرجة في بعض الأحيان تكون دون الشخص، فلو وجد فرجة ولكنها دونه بحيث لو دخل في الصف فإنه يضايق الناس فهذا لا يدخل في الصف لوجود الحرج والأذية، والذين سبقوا أحق بذلك.

والحل في هذه الحالة أنه إذا وُجِدت الفرجة سحب بعضهم بعضاً، والعبرة بجهة الإمام، فإن كانت الفرجة عن اليمين والإمام في المنتصف فإن معنى ذلك أن ينسحبوا إلى جهة اليسار؛ لأن العبرة بجهة الإمام، وإن كانت الفرجة في اليسار والإمام في المنتصف فإنهم ينسحبون إلى جهة اليمين، فيسحب بعضهم بعضاً إلى جهة اليمين حتى تصير الفرج في الأطراف.

فإن صارت الفرجة في الطرف ففيها تفصيل: فإن كانت الفرجة تسع الرجل أثم من تأخر من الرجال في الصف الذي يليه، وإن كانت الفرجة لا تسع بأن كانت لا يمكن دخول الرجل فيها فإنهم يُعذرون في ذلك، ولا تؤثر شيئاً، كما لو صلوا وانتهى حد الصف عند هذا القدر.

قوله: [وإلا عن يمين الإمام].

أي: إن وجد الفُرجة دخل حتى لا يصلي منفرداً، وإلا صلى عن يمين الإمام حتى تصح صلاته، ويصح له أن يأتي عن يمين الإمام، ولا حرج عليه.

قال رحمه الله تعالى: [فإن لم يمكنه فله أن ينبه من يقوم معه]

إذا جئت فوجدت الصفوف مكتملة بينك وبين الإمام، ولا تستطيع أن تتخطى هذه الصفوف، ولم تجد فرجة أمامك، فلك أن تنبه من أمامك، قالوا: فإذا أمسك الساحب بطرف ثوبه يتراجع، وإذا رجع كان هذا من التعاون على البر والتقوى، ولا إثم عليه.

وقالوا: إنه إذا رجع فقد أعان على صحة صلاةٍ، خاصة إذا لم يوجد شخص آخر، فإعانته على صحة الصلاة له فيها الأجر؛ لأن الصلاة لهذا المنفرد لا تصح إلا مع وجود من يقوم معه، وهذا قد فعل السبب الذي صحّت به صلاته فكان له كأجره؛ لأنه أعان على خير.

وقد ورد في هذا حديث عند الحاكم ، ولكن تُكلِّم في إسناده ولم يخل من مقال، ففي هذا رواية معضلة، وفيه رواية مرسلة وهي رواية الجذب: أي أنه يجذب أحداً من الصف، وقال بعض العلماء: إنه لا يجذب، وإذا جذب أحداً فإنه يأثم، ولا ينبغي للمجذوب أن يستجيب لمن يجذبه.

وإن كان الأقوى والأشبه أنه إن جذبه واستجاب فبها ونعمت، وإن لم يجذبه فإنه يُصلي، فإن جاء أحد فبها ونعمت، وإن لم يجئ أحد فإنه يستقبل صلاته ويصليها.

وشدد بعض العلماء حتى قال ابن حزم الظاهري : إنه إذا لم يجد أحداً فإنه يرجع إلى بيته، وهذا أمر الصعوبة منه بمكان؛ فإن المساجد بنيت لإقامة الجماعة، وكونه يؤمر بالرجوع إلى بيته فيه مخالفة لمقصود الشرع.

والذي يظهر -والله أعلم- أنه يحاول الجذب حتى يجد من يستجيب، فإن رجع الإنسان بالجذب فعلى حالات:

الحالة الأولى: أن تمكث معه بقية الصلاة ولا يأتي أحد فلا إشكال، فتصير الفرجة التي حدثت في الصف يمكن سدها بجذب بعض الناس لبعض حتى تصير في طرف الصف، ويصير الناس معذورين بهذا، وأنت معذور بتصحيح صلاة من معك.

قالوا: إن مفسدة الفرجة أهون من مفسدة فساد الصلاة وهذا صحيح؛ فإنك لو تأمَّلت أنه لو سُحِب صارت فرجة فإن هذه الفرجة يمكن سدها لو حضر شخص معه، وإذا لم يمكن سدها وبقيت فإن مفسدتها أهون من مفسدة فوات الصلاة على هذا المصلي.

وعلى هذا فإن لم يجئ أحد وبقيت معه فلا إشكال، فلك أجر إعانته على صحة صلاته، وإن جاء أحد تقدمت إلى الفرجة وسددتها؛ لأن القاعدة تقول: (ما شرع لعذر بطل بزواله)، وبعضهم يقول: (ما جاز لعذر بطل بزواله)، وهذا جاز لعذر -وهو تصحيح صلاته معك- وقد صحت، ثم لما جاء الثاني زال العذر، فحينئذٍ يبطل تأخرك عن الصف، فتتقدم للصف الذي كنت فيه.

قال رحمه الله تعالى: [فإن صلى فذاً ركعة لم تصح].

قيل: لم تصح صلاته، وقيل: لم تصح الركعة التي صلاها دون الصف، وعلى هذا لو أدركه أحد في الركعات الباقية فإنه يقضي هذه الركعة وحدها، فتبطل الركعة التي دون الصف ويلزم بإتمامها، وقال بعض العلماء: بل تبطل جميع الصلاة.