نداءات الرحمن لأهل الإيمان 88


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان. اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وارض عنا كما رضيت عنهم. آمين.

هذا هو [ النداء الثالث والثمانون ] فنحن مازلنا فيه؛ حيث إننا لم نستوفه بالأمس شرحاً وبياناً، ولذلك ها نحن نعود إليه مرة أخرى. والله أسأل أن يجعلنا من أهله.

وقد عرفنا أن مضمون هذا النداء وما يحمله من هدى هو: [ في عرض بضاعة ] وسلعة هي [ أغلى بضاعة، إذ هي الجنة ] دار السلام [ و] في [ بيان الثمن المحصل لها ] والذي به نحصل على هذه البضاعة [ و] هذا الثمن [ هو الإيمان ] الحق بالله [ والجهاد ] في سبيل الله، لا في سبيل الدنيا وأوضارها.

قال: [ الآيات (10 - 11 - 12) من سورة الصف

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الصف:10-12] ] وليس في هذا النداء كلمة: ( خالدين فيها).

الترغيب في التجارة مع الله

[ الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم! ] الذي يقرأ هذا النداء، والمستمع المستفيد! أيضاً، الذي يصغي ويستمع إليه [ أن هذا عرض ] كما تعرض البضائع في الأسواق، فهو عرض [ وترغيب ] في الحصول عليها وشرائها والظفر بها [ وتشويق إلى ما يذكر بعده ] أي: بعد هذا النداء، وهذا [ كقول المرء للآخر: هل لك في كذا؟ أو هل لك إلى كذا؟ ] إذا أراد أن يرغبه ويشوقه ويحرك باطنه [ فالاستفهام ] هنا [ في هذا النداء ] و[ هو: ] هو [ أدلكم على تجارة وصفها كذا؟ ... من هذا الباب ] أي: باب التشويق والترغيب في السلعة التي تعرضها [ وذلك لأنهم ] أي: الأصحاب [ قالوا ] في مجلس خاص: [ لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لفعلناها. فناداهم الرب تبارك وتعالى قائلاً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10]! أي: يا من آمنتم بالله ولقائه، والقرآن وما فيه ] أي: من شرائع وأحكام [ والرسول محمد عليه الصلاة والسلام وما جاء به ] من الشرائع والأحكام [ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف:10] ] أي: موجع [ وهو عذاب الدنيا من تسلط العدو عليكم وقهركم ] لأن المسلمين إذا تركوا الجهاد وتركوا الاستعداد وإعداد العدة تسلط عليهم العدو. والعدو إذا دخل ديارهم سامهم الخسف، وصب عليهم ألوان العذاب، وقد حصل هذا ووقع عدة مرات في العالم الإسلامي من إندونيسيا إلى موريتانيا، ولهذا قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60]. وقال أهل البصيرة: السلم المسلح هو الذي يرهب العدو. فإذا أنت أعددت قواتك وآلاتك ورجالك خافك العدو، ولن يغزوك أو يفكر في غزوك، وإذا رآك بلا عدة ولا عتاد ولا رجال انفتح الباب أمامه. فالسلم المسلح أفضل من الحرب بلا سلاح.

قال: [ وهو أيضاً من الفقر والخوف ] فالعذاب قد يكون فقراً أيضاً، وقد يكون خوفاً [ ومن عذاب الآخرة، وهو النار وبئس المصير ] والعياذ بالله.

قال: [ والعذاب ] تعريفه [ هو: كل ما يقطع عذوبة الحياة ولذاذتها ] فكل ما يقطع ويفصل ويبعد عنك لذة الحياة هو العذاب، والفقر والخوف يفعلان هذا، وتعذيب الكافر لك يفعل هذا، بل ويزيل طعم الحياة من فمك. وقد سمي العذاب عذاباً لأنه يزيل العذوبة في الحياة الدنيا والآخرة.

قال: [ و] معنى [ الأليم: الموجع أشد إيجاع ] وكلنا نعرف الوجع ما هو، فالضرس إذا آلمك يدلك على ذلك، وكذلك المغص في بطنك يدلك عليه، وإذا حدث لك شيء من هذا فقد تبيع الدنيا وما فيها من أجل إبعاده.

ثمن التجارة مع الله

قال: [ بعد هذا الترغيب بين لهم ما يدفعونه من مال ليستلموا البضاعة ] وقد قلت لكم: إنه من فضل الله علينا أنه وهبنا المال والنفس، ثم اشترى منا ذلك، واقرءوا قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة:111]. فاشتراهما منهم كسلعة، والثمن الجنة. فهو تعالى الذي أعطانا السلعة ثم اشتراها منا.

وأهل الكرم يفعلون هذا، فـجابر بن عبد الله لما عجز بعيره في الغزو والسير مع القافلة اشتراه منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشترط جابر أن يحمل عليه متاعه إلى المدينة، ثم نخسه رسول الله فأصبح أسرع جمل في القافلة، فركبه جابر بن عبد الله ، ولما وصل إلى المدينة قدم الجمل للرسول صلى الله عليه وسلم، فأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم الثمن الذي اشترى به الجمل، ثم أعطاه الجمل والثمن؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلم هذا الكمال من الله. فالله عز وجل هو الذي أعطانا أبدننا وقوانا، وملأ جيوبنا بالنقود، ثم اشترى منا ذلك بالجنة. وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

قال: [ فقال في بيان الثمن المطلوب للحصول على السلعة الغالية: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [الصف:11] ] هذا أولاً [ أي: بألوهيته ] وليس معنى الإيمان بالله الإيمان بوجوده، وأنه موجود؛ لأن المشركين لا ينكرون وجود الله، فقد قال تعالى عنهم: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]. وقال: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [العنكبوت:61] لا يقولون: اللات أو هبل، فهم ليسوا مجانين، بل لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [العنكبوت:61]. ومع ذلك لم يدخلهم هذا في الإيمان.

إذاً الإيمان بالله هو الإيمان بألوهيته، وأن لا يعبد إلا هو أبداً [ ولقائه ] بعد الموت [ ووعده ] لأوليائه بالنعيم المقيم في دار السلام [ ووعيده ] لأعدائه بالعذاب الأليم في دار البوار [ وتؤمنون ] أيضاً [ برسوله ] محمد صلى الله عليه وسلم [ وما جاء به ] من الشرائع والأحكام والعبادات [ و] بما [ يدعو إليه ] البشرية، وهو يدعو إلى الإسلام، وهو الاستسلام لله والانقياد له. وهذا نصف الثمن.

والنصف الباقي هو: [ وَتُجَاهِدُونَ [الصف:11] أي: أعداء الله تعالى وأعداءكم، وهم كل مشرك وكافر يعلن الحرب عليكم، ويعاديكم ويعادي ربكم سبحانه وتعالى، بأن يعبد غيره، ويتبع سبيلاً غير سبيله ] فهذا هو العدو وإن كان أباك أو أمك.

من يجب على المسلمين عداوته

ما زال الكفار في العالم يفهمون أن المسلمين يعادونهم هم فقط، وهذا لغفلتهم، وإلا فنحن نعادي كل من كفر بربنا، وفسق عنه، وخرج عن طاعته، ولو كانوا آباءنا أو أبناءنا أو إخواننا، فمن أصبح عدواً لربنا فهو عدو لنا. وعدو سيدك هو عدوك إن كنت عاقلاً. والكفر سواء كان من عربي أم عجمي، أم من أبيض أم أسود، أم من قريب أم بعيد فهو كفر، يجب أن نعلن معاداته؛ لأن الله عدوه. وقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي [الممتحنة:1] أولاً وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة:1]. وهم يفهمون أن الإسلام يعادي الكفار الأوربيين والصينيين واليابانيين فقط، وهذا ليس صحيحاً أبداً، بل إنه يعادي كل من كفر بالله وحارب أولياءه، ولو كانوا حتى أهل البيت في الكعبة.

دعوة الكفار إلى الإسلام وكيفية معاملة من رفض الإسلام منهم

الكافر إذا كان في دولة أخرى أو إقليم آخر ولم يعلن الحرب علينا، ولا حاربنا ولا آذانا ولا عادانا فإن الإسلام لا يعلن الحرب عليه أبداً، وإنما رحمة بالكفار وشفقة عليهم ننزل بساحتهم، ونراسلهم بأدب واحترام، ونقول لهم: نحن عبيد الله، نحمل رسالة الله ربنا وربكم إليكم، وقد جئناكم بالنور الإلهي، ونريد أن تطهر قلوبكم وبيوتكم وبلادكم؛ حتى يختفي الظلم والشر، والفساد والخبث، وينشر الله بينكم العدل والرحمة والنور، فادخلوا في الإسلام؛ فهو دين الله، وما أنتم عليه دين الشيطان وهوى ودنيا، وليس بدين الله، فقد نسخ الله كل الأديان وجاء بالدين الخاتم، فادخلوا في رحمة الله، فإن استجابوا فالله أكبر، فقد طلعت الشمس في ديارهم، وغمرها نور الله وهداه، ولا يمضي إلا ثلاثة أيام وإذا بهم أعز ما يكونون، وأطيب وأطهر، وإن رفضوا وقالوا: لا نريد أن نترك دين آبائنا وأجدادنا لدينكم أبداً، وقد يقول هذا المسئولون؛ لأنهم يريدون المحافظة على مناصبهم وأموالهم، فنقول لهم: إذاً: اسمحوا لنا بالدخول بعلمائنا ورجالنا؛ لتشاهدوا آثار نور الله وهدايته، واسمحوا لنا أن ندخل ونحكم بينكم بالعدل، ونقضي بينكم بقضاء الله، وابقوا على دينكم. ونقول لهم: ومما يدل على قبولكم لهذه الحماية أو الولاية دفع غرامة سنوية، درهم فما فوق على الرجال دون النساء، وعلى الأغنياء دون الفقراء، وعلى القادرين دون العجزة. وهذا رمز على أنكم في حمايتنا، ولو هاجم بلادكم العدو فنحن الذين سنقاتله دونكم؛ لأننا ملتزمون بحمايتكم، ونحن الذين سنموت ونستشهد، وأما أنتم ففي ذمتنا، فالزموا أماكنكم. فإن قالوا: ما دمتم أبقيتم لنا ديننا فادخلوا. فإذا دخل المسلمون بحق - الذين ليسوا مثلنا، فنحن متمسلمين فقط- تجلت أنوار العدل والرحمة، والطهر والصفاء، وتختفي مظاهر الكذب والباطل، والخيانة والتكالب على الدنيا، فيشاهدوننا بينهم كالملائكة، فيدخلون في رحمة الله بنسائهم وأطفالهم. وهذا هو الذي حصل في العالم الإسلامي. وأقسم بالله أني لا أعلم رجلاً ولا امرأة أكره على الدخول في الإسلام، وأنهم ما دخلوا إلا باختيارهم ورضاهم.

وإن رفضوا وحملوا السلاح وقالوا: سيقاتلون حتى يموتوا دون دينهم وبلادهم فحينئذ نعلن الحرب الربانية عليهم؛ من أجل أن يعبد الله؛ ليسعد ويكمل عباد الله في الأرض، وفي الدنيا والآخرة.

ونقاتلهم بشرط: ألا نقتل صبياً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة، ولا من التزم كنيسة أو ديراً، بل يبقى كل هؤلاء آمنون.

من مظاهر هبوط المسلمين

الآن المسلمون يقتل بعضهم بعضاً، بل ويقتلون النساء والأطفال والشيوخ. ولا إله إلا الله. وعندنا خبرة عظيمة عن سجون العالم الإسلامي؛ إذ إن الناس يأتوننا، ويشتكون لنا. وأقول: والله إنه ليوجد عذاب في سجون العرب لا يوجد في عذاب النار. وأعني بهذا: أنهم يرتكبون فاحشة اللواط مع المساجين بالقوة؛ إهانة لهم وتعذيباً. والعياذ بالله. وهذا لا يقع يوم القيامة. وأعوذ بالله أن يقع هذا. وإلى هذا الحد قد هبط المسلمون.

ولا يمكننا ونحن هكذا أن نرتفع ونسود البشرية، ونقودها إلى الكمال؛ لأننا في حاجة إلى من يقودنا ويسودنا؛ لنكمل ونسعد.

وقد دارت الحرب عشر سنوات بين المؤمنين تحت راية قائدهم الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم وبين المشركين في غزوة بدر والخندق، وغزوة الفتح وحنين، وغيرها، وكان جميع القتلى ألفان وخمسمائة من المشركين والمؤمنين. والآن في اليوم الواحد يموت من العرب عشرة آلاف أو عشرين ألفاً. ولست واهماً ولا كاذباً في هذا. وانزع من ذهنك يا عبد الله! أن يقف مؤمن في بيت رسول الله ومسجده ويكذب على الناس.

الفرق بيننا وبين المؤمنين الأولين: أنهم كانوا ربانيين نورانيين، يعيشون على العدل والرحمة والصفاء، ونحن همج شهوانيون، نتكالب على الدنيا وأوساخها.

وإذا حدثت مظاهرات في بلد إسلامي وأطلق فيها الرصاص يموت سبعة آلاف، أو أربعة آلاف، أو عشرة آلاف. وهذا يدل على أننا بعدنا عن ساحة الكمال بعد السماء عن الأرض.

طريق العودة إلى كمالنا وعزنا

هيا نعود ونرجع إلى كمالنا. ولا نقول: لا نستطيع، فهناك والله طريق سهل للعودة لا يكلفنا ريالاً ولا درهماً ولا قطرة دم، وهيا نبدأ من الآن، فإذا رجعت إلى قريتك أيها المسلم! فاجتمع مع رجالها وكبارها في بيتك، واصنع لهم طعاماً ملائماً، وقل لهم: سمعنا في المسجد النبوي هداية إلى الحق وإلى طريق إلى الكمال، فهيا نتعاون في تطبيقه، ويقول الخطيب يوم الجمعة لأهل القرية في المسجد: من الليلة لا يبقى رجل ولا امرأة ولا ولد عند غروب الشمس إلا وهو في المسجد، وبمجرد ما تدق الساعة السادسة مساء نتوضأ، ويرمي الفلاحون بالمساحي من أيديهم، ويرمي الكتاب بالأقلام، ويغلق التجار أبواب دكاكينهم، ويتجهون إلى بيت مولاهم، ويجلس النساء وراء الستارة، ومكبر الصوت بينهن، ويجلس الأطفال صفوفاً منتظمة أمام النساء، ويجلس الفحول أمام الجميع، والمربي بين أيديهم، ويتعلمون ليلة آية يتغنون بها ويحفظونها، ويفهمون مراد الله ومطلوبه منها، ويلتزمون به وبتطبيقه، ويتعلمون في الليلة الأخرى حديثاً من أحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ويحفظون ويفهمون مراد الرسول منه، ويعزمون على تطبيقه، ثم يعودون إلى بيوتهم مقتنعين، منشرحي الصدور، طيبي الخواطر؛ لأنهم كانوا مع الله في بيت الله، يتلون كتاب الله، ويهتدون بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا يوماً بعد يوم، ولا تمر أربعون يوماً أو أربعة أشهر سنة إلا وقد ظهرت نتائج ذلك، وهي: أنه لا يبق في القرية من يفكر في أن يزني بامرأة أخيه أو بنته نهائياً، ولا يبق في القرية من يجرؤ أو يقدر على أن يسب أو يشتم أو يعير أخاه في القرية، ولا يبق خائن ولا سارق، ولا من يمد يده إلى مال أخيه، ولا يبق رجل ولا امرأة ينسى الله وذكره، ويقبل على الباطل وفنونه، ولا يبق من يغني ولا من يرقص ولا من يلعب، وفوق ذلك لا يبقى مؤمن يتضور جوعاً ولا يجد من يسد جوعته، ولا يبقى عار في الشارع ولا يجد من لا يستره، ولا يبقى من لا يجد مأوى إلا ويؤوونه؛ لأنهم أصبحوا كنفس واحدة. ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ). و( المسلم أخو المسلم، لا يكذبه ولا يظلمه، ولا يخذله لا يسلمه، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وعرضه وماله ). وتصبح هذه القرية وكأنها كوكب من كواكب السماء، تتلألأ نوراً والظلام حولها في الأرض، ويحدث هذا الكمال يحدث في القرية. ولو طبقت فيها قوانين البشر كلها فوالله لن تحصل على هذه النور، ولن تفوز به أبداً.

وهذا الاجتماع في بيت الله لتلقي الكتاب والحكمة لا يكلفنا شيئاً من الريالات، ووالله إن الحكومة ترضى بهذا، وتفرح به، وأقسم بالله، فهي على الأقل تستريح من مؤنة البوليس والأموال التي يصوفونها من أجلكم، حتى لا يأكل بعضكم بعضاً. والحكومة تستريح من هذا لأنه لم يبق من يسرق ولا من يفجر، ولا من يكذب ولا من يسب ولا من يشتم؛ لأنهم أصبحوا كأسرة واحدة، يكفيهم القليل من الطعام، ومرتب الشخص الواحد يكفي عشرة، ولا تظنوا أن هذا الكلام هراء.

وكل هذا لأن دين الله دين العزة والرفعة، والطهر والكمال، ويستحيل أن تتخلف هذه السنة في جماعة أو أمة تقبل على الله، وتطبق شريعته، فهي رحمة الله.

وليس هناك مانع من أن نطبق هذا، وليس هناك خوف ولا ضياع وقت، ولا شيء من هذا، ووقت هذا من غروب الشمس إلى صلاة العشاء، ساعتان فقط في المسجد ونستريح، وإذا جلسنا كلنا ساعتين في المسجد يتوقف أكثر من خمسين علبة سجائر، وهذه أقل فائدة، والفائدة الأخرى: ألا يبقى في البيت عاهرة ترقص، ولا من يتفرج عليها، ثم تعودون من المسجد وقلوبكم ممتلئة بالنور، فلا تتفرجون عليها أبداً. فلنبلغ هذا الكلام، ولنعمل به.

سبب تقديم المال على النفس في قوله تعالى: (وتجاهدون في سبيله بأموالكم وأنفسكم)

قال: [ وقوله تعالى: بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [الصف:11] قدم جهاد المال على جهاد النفس ] فقال: بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [الصف:11]. ولم يقل: بأنفسكم وبأموالكم. ومنزل هذا الكلام حكيم، وهو خالق الحكمة وواجدها. و[ قدم جهاد المال على جهاد النفس لأن العدة مقدمة على من يحملها في هذا الباب ] فأولاً: أعد العدة، ثم انظر من يحملها، ولا تأتي بمن يحمل العدة وهي غير موجودة، فهذا لعب [ فالمال لإعداد عدة الحرب، والعدة سلاح على اختلافه ] وقد كان الرمح والسيف والنبل، والآن المدفع والصاروخ والطائرة النفاثة وعابرات القارات، ولكل زمان سلاحه، وإن السلاح الآن بيد الجبناء، الذين ليس فيهم شجاعة. والشجاع هو الذي يدخل المعركة بسيفه ورمحه والصفوف متراصة، ويموت وهو مقبل، ولكن الآن أجبن الناس مليون مرة يرمي القذيفة بالطائرة ويعود. فليس هناك شجاعة اليوم.

فالعدة هي: سلاح على اختلافه [ وطعام وشراب ومركوب للغزاة المجاهدين ] وهم لن يمشوا ويخرجوا بدون طعام وشراب، وإلا لما بقوا أحياء، بل يخرجون ومعهم الطعام والشراب، والسلاح والعدة.

قال: [ وثنى بجهاد النفس، وهو: بذل أقصى الجهد والطاقة البدنية ] أي: أن تجاهد وتدافع بنفسك وقدرتك ما استطعت.

الجهاد المشروع هو الجهاد في سبيل الله

قال: [ وقوله: فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الصف:11] ] وهذا هو بيت القصيد، وهو أن يكون الجهاد في سبيل الله، وليس في سبيل تحرير الوطن. وقد حرر المسلمون أوطانهم من بريطانيا وإيطاليا، وإسبانيا وفرنسا، ثم والله ما أقاموا الصلاة، وكأنه لا يوجد بينهم مفكرون ولا بصراء ولا عقلاء، فقد طردوا بريطانيا وغيرها، ولم يستطيعوا أن يلزموا المواطنين - عسكريين ومدنيين، وشرفاء ووضعاء- أن يقيموا الصلاة، ووالله لو أقيمت الصلاة بمعناها الحقيقي في أي إقليم استقل لما وقع هذا الباطل، ولا الشر ولا الفساد.

وهم لم يقيموا الصلاة لأنهم لم يقاتلوا في سبيل الله، ولا حملوا السلاح من أجل الله، ولا من أجل أن يعبد الله في الأرض وفي البلاد، ولو فعلوا ذلك لأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر. ولكنهم بمجرد ما ينتصرون تلقائياً يقيمون حفلات الرقص والخلاعة والدعارة، وكأنهم لم يعرفوا الله بعد. ونحن والله لا نلومهم؛ لأنهم لم يعرفوا والله؛ لأنهم لم يربوا في حجور الصالحين، وهو كذلك.

ولا طريق إلى السمو والكمال إلا من طريق تعلم الكتاب والحكمة، والباب مفتوح، وهو لا يكلف شيئاً، وحتى الكتاب لم تكلفوا حتى ريالاً لطباعته، ولا ربع ريال.

قال: [ وقدمه على المال والنفس ] أي: قوله: فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الصف:11] [ إذ قال تعالى: وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [الصف:11]، لأن الجهاد إذا لم يرد به إعلاء كلمة الله فهو لغير الله، وهو باطل مذموم ] وقد أشرت إلى هذا.

وأزيد: كانت فرنسا تحكم: شمال إفريقيا وسوريا ولبنان، وبريطانيا تحكم ممالك الهند بكاملها، وهولندا كانت تحكم إندونيسيا، ولما استقلت هذه البلدان وخرجت بريطانيا وغيرها لم يقيموا الصلاة، ولم يجبوا الزكاة، ولم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر، وإنما أقاموا دولهم ضد الله.

الدعائم التي تقوم عليها الدولة الإسلامية

يقول الله تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41]. ومعنى مكناهم أي: وليناهم الحكم والسيادة، وملكناهم زمام الأمر. فهم إن مكناهم لم يغنوا ولم يرقصوا، وإنما أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41]. وهذه الآية في سورة الحج يا أهل القرآن! ولا تقولوا: هذا خيال يقوله الشيخ.

إذاً: الدولة الإسلامية تقوم على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبهذا يتحقق الأمن والطهر والصفاء. ولا تقولوا: ليس هذا معقولاً. بل قولوا كما قال الله.

وعندنا آية من آيات الله، أوجدها الله في هذه الديار - ديار الحجاز ونجد، وشمالهما وجنوبهما- فهذه الديار كانت أسوأ ما تكون، فقد كانت كبقية بلاد العرب والمسلمين، فيها الشركيات الخرافات، والتلصص والإجرام، والحيل وغيرها، وما زال الناس الذين أعمارهم ثمانين سنة يذكرون هذا، وما إن دخلها عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - غفر الله له ورحمه- حتى ساد فيها الأمن والأمان. والله هو الذي نصبه؛ لتقوم الحجة على البشرية كلها مؤمنها وكافرها، إذ كان قد بلغ بهم الكفر والباطل إلى أن يقولوا: إن الإسلام لا يطهر ولا يعز، ولا يسمو بأحد ولا يسعده؛ لأنه قد انتهى شأنه. فولى الله عبد العزيز في بلاد صحراء معروفة، لا يملك أهلها إلا حفنة التمر وصاع الشعير، وشاة من العنز، ولم يكونوا يملكون من نجد إلى البحر الأحمر مصنعاً ولا مالاً، ولا آلات ولا طيارات، ولا سيارات، ولكنه فقط أقام الصلاة، فكان إذا نادى المنادي يدور رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القرية والبلد حتى لا يتخلف أحد أبداً، وكان عند الإمام قائمة بأسماء أهل الحي أو القرية، وما إن يسلم حتى يقوم يقرأ الأسماء، فإذا كان أحدهم غائباً ذهبوا إليه، فإن كان مريضاً عادوه، وإن كان غائباً حفظوا أهله، وإن كان متمرداً أدبوه.

وإياكم أن يقول لكم أبو مرة: هذا الشيخ يتملق للحكومة السعودية. والذين يفكرون هذا التفكير مجانين؛ لأنه يجب أن يقال الحق للهداية والبصيرة، وحتى لا نعيش في العمى، والله يقيم آياته للهداية، ونحن نعرض عنها، وكأننا لسنا بشراً. ووالله الذي لا إله غيره لقد تحقق في هذه الديار من الطهر والصفاء والأمن ما لم يتحقق في العالم إلا أيام القرون الذهبية.

ولم يكن عند عبد العزيز من الأجهزة واحد إلى ألف مما عند فرنسا، ومع ذلك ففرنسا مع قدرتها تسجل تسجيلاتها الرسمية عشرة آلاف جريمة يومياً، وهنا يمر عامان إلى عشرة أعوام ولا يثبت فيها عشر جرائم. السر هو: إن الله عز وجل قال: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41]. فليفهم السامعون والسامعات هذا، فهذه آيات الله، وقد رد الله بها على الذين يزعمون أن الإسلام تخلف، وأن من رضي به قد رضي أن يتخلف، وأنه من المستحيل أن يحقق أمناً، أو يوجد طهارة أو صفاء؛ لأنه قد انتهى أمره. فأكذبهم الله.

وأقول لكم: إن أي قرية في إسبانيا أو في بريطانيا أو في أي بلاد في العالم يجتمع أهلها على الكتاب والسنة من المغرب إلى العشاء لن تمر عليهم سنة واحدة حتى تتجلى لك آيات الله في هذه القرية، وستجد أنه لم يبق في هذه القرية عهر ولا فساد، ولا خبث ولا ظلم؛ لأن لله سنناً قال عنها: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر:43]. فالطعام يشبع، والماء يروي، والحديد يقطع، والنار تحرق. فهذه سنن لا تتبدل. وكذلك الإيمان الصحيح وتطبيق شرع الله لا بد وأن يتحقق به الكمال البشري، ولن يتخلف هذا أبداً.

المقصود بإعلاء كلمة الله

قال: [ والمراد ] والمقصود [ من إعلاء كلمة الله أن يعبد الله وحده ] ولا يعبد معه عيسى ولا البتول، ولا جبريل ولا الرسول، ولا فاطمة ولا الحسين ، ولا عبد القادر ولا سيدي فلان، بل لا يعبد إلا الله، أي: لا يحب ولا يبجل ولا يعظم ولا يذعن له وينحنى بين يديه وتعفر الوجوه بالتراب له إلا الله، وبذلك تتم حرية الإنسان واستقلاله، ولا يصبح ممزقاً بين هذا وهذا. فالتوحيد معناه: إيجاد عزة لا يدانيها ولا يشاركها عزة، حيث لا يُخاف إلا الله، ولا يُحب إلا في الله، لا يُعطى ولا يُمنع إلا من أجل الله، وهذه هي الحياة البشرية الكاملة.

قال: [ ويحكم شرعه في عباده، ويرفع الظلم عن أوليائه، وهم المؤمنون المتقون ].

فضل التجارة مع الله عز وجل

قال: [ وقوله عز من قائل: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الصف:11] ] ما ينفعكم وما يضركم، وما يسعدكم وما يشقيكم، وما يرفعكم وما يضعكم. والذين لا يعلمون بهائم أو حجارة، فبلغوا: أن البشر الذين لم يعرفوا الله، ولم يعرفوا كتاب ذي الجلال والكمال، ولم يعرفوا وعداً له ولا وعيداً، ولا شرعاً له ولا قوانين هؤلاء أجهل من الحيوانات. وأنهم وإن طاروا في السماء أو غاصوا في الماء، وإن رقصوا في المراقص فهم بهائم. فهو هنا يذكرنا بالعلم.

ولا يحل أبداً لبلد مؤمن أن يوجد فيه جاهل أو جاهلة؛ لأن الله تعالى قال: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]. فإن كنت لا تكتب ولا تقرأ فقبل أن ترمي مسحاتك وتريد أن تصوم ائت العالم واسأله كيف تصوم فقط، وقبل أن تصلي اسأله كيف تصلي، وقبل أن تتزوج اسأله كيف تتزوج، وقبل أن تفتح دكاناً للتجارة اسأله عن كيفية التجارة المشروعة، واستمع لكلماته وقلبك مشرق مقبل، وطبقها، واسأله هكذا يوماً بعد يوم كما قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، حتى تصبح عالماً. والله لم يكلفنا أبداً بأن ننقطع في المدرسة ندرس عشرين سنة.

قال: [ يريد تعالى أن الدخول في هذه الصفقة التجارية خير لكم من تركها والإعراض عنها؛ حرصاً على بقائكم، وبقاء أموالكم، مع أنه لا بقاء لشيء في هذه الحياة الدنيا ] بل كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26].

جزاء التجارة مع الله عز وجل

قال: [ بعد أن بين لهم الثمن - وهو الإيمان والجهاد- بين لهم الجزاء، فقال: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ [الصف:12] ] فالثمن هو: الإيمان والجهاد، والبضاعة هي: أولاً: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الصف:12]. وثانياً: وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [الصف:12]. وثالثاً: وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ [الصف:12]. وقد بدأ بمغفرة الذنوب قبل دخول لأنك إذا أردت دخول المسجد أو المجلس أولاً: تغتسل وتنظف وتلبس الملابس ثم تدخل المسجد أو المجلس. فلا بد وأن يطهر العبد أولاً ثم يدخل دار السلام. وهذا كقوله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران:133]. فأولاً: سارعوا إلى المغفرة، ثم إلى الجنة؛ لأنكم لن تدخلوا الجنة بأنجاسكم وأوضاركم أبداً. والعلماء يقولون في هذا: التخلية قبل التحلية. ومعنى هذا الكلام: تخل أولاً عن الأوساخ والقاذورات، ثم تحل بالثياب الجميلة والطِّيب الطَّيب، ولا تلبس الثوب الجديد وتتطيب وعليك أدران وأوساخ البول، فهذا عبث؛ لأنك توسخ ثوبك، وتمسح الطيب عنه. ولذلك كانت التخلية قبل التحلية.

واذكر لذلك أيضاً قول الله عز وجل: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ [البقرة:256]. فأولاً: يكفر بالطاغوت، وهو كل ما عبد مع الله، أو عبد دون الله، ثم يؤمن بالله. هذه الآية فهم منها البصراء: أن التخلية يجب أن تكون قبل التحلية. والتخلية هي: التخلي عن الشيء والابتعاد عنه، والتحلية هي: أن تتحلى لتكون حلواً في منظرك باللباس وبغيره.

ولهذا قال هنا: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الصف:12]. أولاً. وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [الصف:12]. وقد جاء عدد هذه الأنهار في قول الله تعالى في بيان أنهار الجنة من سورة محمد صلى الله عليه وسلم: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد:15]. وأنهار الآخرة ليست كأنهار الدنيا، فأنهار الخمر لذة للشاربين، وأنهار العسل ليس فيها غش ولا وسخ ولا فضلات النحل.

ومعنى قوله: جَنَّاتِ عَدْنٍ [الصف:12] أي: جنات إقامة دائمة، وأنها ليست جنات نزهة، ترفهون فيها على أنفسكم ثم تعودون إلى بلادكم، بل هي جنات إقامة دائمة. هذا معنى عدن، فعدن في المكان إذا أقام به ولم يفارقه.

قال: [ وأوقع بيان السلعة موقع الجزاء، إذ قوله: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ [الصف:11] ... إلخ، فالفعلان مرفوعان، وفعلا البضاعة: ( يغفر لكم) و( يدخلكم) مجزومان على تقدير: إن تؤمنوا وتجاهدوا يغفر لكم ذنوبكم، ( ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار) على تقدير: إن تعطوا الثمن المطلوب تعطوا البضاعة الموضوعة لذلك والمهيأة له.

وقوله تعالى: وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ [الصف:12] هذا من أجزاء السلعة التي عرضت للبيع بثمن غال، ألا وهو الإيمان والجهاد، الإيمان الحق والجهاد في سبيل الله تعالى لا غيره.

وقوله تعالى في هذا النداء: ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الصف:12] أي: الحصول على السلعة المذكورة بالثمن المذكور هو الفوز العظيم. وخلاصة هذا الربح العظيم الذي لا يعادل ربحاً والله إنه النجاة من النار، ودخول الجنة دار الأبرار، مع رضوان الرحمن.

وهناك ربح دنيوي آخر ذكره تعالى في قوله: وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ [الصف:13] ] على أعدائكم [ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ [الصف:13] ] لمكة وعواصم العالم. وقد أعطاهم هذا [ وهذا فائدة زائدة على السلعة، وهي نصرهم على أعدائهم وأعداء ربهم، وفتح قريب لأم القرى وغيرها من عواصم الدنيا.

وختم عز وجل هذا الإنعام والإكرام بقوله: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [الصف:13]، أي: وبشر يا رسولنا! الذين آمنوا بنا وبرسولنا وبدعوتنا ] فابشروا أيها المؤمنون! إن كنتم صادقين [ بشرهم بحصول ما ذكرناه كاملاً غير منقوص. وقد تم لهم كاملاً والحمد لله، فقد نصرهم على أعدائهم، وفتح لهم مكة، وكثيراً من عواصم العالم، كعاصمتي الفرس والروم ] وقد حصل هذا مع أنه لم يكن عندهم صواريخ ولا طائرات، بل كانوا يركبون الإبل ويمشون على أرجلهم، وكانوا بالنسبة إلى الروم وفارس واحد إلى ألف.

فضل الجهاد في سبيل الله عز وجل

قال: [ وأخيراً: اذكر أيها القارئ الكريم! ] والمستمع المستفيد! [ ما قد بين لك، واذكر أخيراً ما يلي:

أولاً: ] بيان [ فضل الجهاد بالمال والنفس، وأنه أعظم تجارة رابحة في هذه الحياة ] والآن يقول إخواننا: الجهاد، مع أنهم لا يجاهدون بريطانيا ولا غيرها.

وأقول: علينا أولاً: أن نجاهد أنفسنا بأن نتعلم ونعمل بما نعلم ونعلمه غيرنا، حتى تصبح ديارنا كلها نوراً، لا ظلم فيها ولا خبث، ولا شر ولا فساد، ومن دخلها من الغربيين أو الشرقيين يبهره ذلك النور، ويقول: آمنت بالله. هذا هو الإسلام.

وأما أن نغزو بريطانيا أو العالم لندخلهم في إسلام وهم يشاهدون ظلمنا وفسقنا، وعجزنا وباطلنا فإنهم يتقززون ويهربون منا. وليس هذا هو الجهاد. بل الجهاد أولاً: أن نجاهد أنفسنا، بأن نتعلم الآداب والأخلاق، وحسن الآداب والعقائد، وأن نستقيم في ديارنا؛ حتى نمثل الإسلام تمثيلاً حقيقياً، وبعد ذلك نجاهد، ويقودنا إمام المسلمين للجهاد.

وأما الذين يزعمون أن الحكام كفار؛ لأنهم عطلوا الشريعة، ويدعون إلى جاهدهم فإنهم سيحترقون احتراق الجراد، ولن يظفروا بشيء؛ لأنهم لم يعرفوا الطريق بعد، ولو حكموا فإنهم والله سيكونون كحكامهم؛ لأنه لا يوجد أرضية ولا أهلية ولا شيء لتطبيق الإسلام، وقد شاهدنا بعض الحكام يزعمون أنهم سيطبقون الإسلام ثم لما يتولون الحكم يهبطون، ويسحرهم اليهود.

إذاً: ليكن إعدادنا للجهاد الآن بتزكية أنفسنا، وتطهير قلوبنا وعقولنا، فإذا لاحت الأنوار في ديارنا فحينئذ من العار أن نترك الناس تأكلهم النار والشقاء والخبث ونحن نتنعم، بل نزحف إليهم، وما إن نحل في ديارهم حتى يدخلون في رحمة الله عز وجل. فافهموا هذا الكلام، واذكروه ولا تنسوه.

تحقق ما بشر الله به المؤمنين

[ ثانياً: تحقيق بشرى الله للمؤمنين التي أمر رسوله أن يبشرهم بها ] فهو قد بشرهم بفتح قريب ونصر، وقد تحقق هذا [ فكان هذا دليلاً وبرهانا ساطعاً ] قاطعاً [ على صحة الإسلام وسلامة دعوته، وفوز أهله ونجاحهم إذا هم أقاموه ديناً، وعبدوا به الله تعالى، عقائد وعبادات، وآداباً وأخلاقاً، وأحكاماً وقوانين ثابتة، محققة للأمن والرخاء والصفاء ] فقد وعدهم وأنجز لهم وعده، وبشر المؤمنين بالنصر القريب والفتح القريب، وفتح عليهم مكة وبلاد العالم، ونصرهم على أعدائهم [ وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين ].

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.