شرح زاد المستقنع باب صلاة الجماعة [1]


الحلقة مفرغة

مشروعية صلاة الجماعة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [باب صلاة الجماعة].

وهذه الترجمة تشتمل على مضاف ومضاف إليه، وذلك في قوله [صلاة الجماعة]، وقد تقدم معنا تعريف الصلاة لغة واصطلاحاً.

وأما الجماعة فإنها مأخوذة من قولهم: جمع الشيء إلى الشيء إذا ضمه إليه، فأصل الاجتماع الانضمام، وسميت الجماعة جماعة لانضمام أفرادها بعضهم إلى بعض.

وقد ائتسى العلماء والفقهاء رحمة الله عليهم في هذه الترجمة برسول الله صلى الله عليه وسلم في تسميته لهذا النوع من الصلوات التي تقع على صورة الاجتماع، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين) وفي رواية : (بخمس وعشرين درجة)، فقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصلاة بهذا الوصف، فمن الفقهاء من يقول: (باب صلاة الجماعة) مراعاة لهذا الحديث، ومنهم من يقول: (باب الإمامة) وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح لـمالك بن حويرث وأخيه الذي كان معه من قومه: (إذا حضرت الصلاة فأذنا وليؤمكما أكبركما)، فقال: (وليؤمكما)، وقال كما في الصحيح من حديث ابن مسعود : (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) فعبر بالإمامة.

فبعض العلماء يقول: (باب صلاة الجماعة)، وبعضهم يقول: (باب الإمامة) والمعنى واحد، أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بصلاة الجماعة، وتقوم الجماعة على ربط المأموم صلاته بالإمام، فيتابعه قولاً وفعلاً كما يتابعه مكاناً، فلا يتقدم على الإمام من جهته، وذلك مراعاة لهذا الائتمام.

والإمامة مأخوذة من أمَّ الشيء يؤمه إذا قصده. وهي هنا: ربط المأموم صلاته بالإمام، ويقع هذا الربط بصورة مخصوصة بيّن الشرع حكمها كما في دليل الكتاب في صلاة الخوف، وكذلك أدلة السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد شرع الله صلاة الجماعة في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وبفعله عليه الصلاة والسلام، وكذلك أجمع العلماء رحمة الله عليهم على مشروعيتها.

أما دليل الكتاب على مشروعية هذا النوع من الصلاة فقوله سبحانه وتعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء:102]، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أن الله تبارك وتعالى أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقوم بالطائفة، وذلك في صلاة الخوف، وإذا كانت الجماعة مشروعة في حال الخوف فمن باب أولى وأحرى أن تشرع حال الأمن والطمأنينة، ولذلك دلت هذه الآية الكريمة على مشروعية صلاة الجماعة، كما يقول العلماء، واحتج بعض أهل العلم بدليل الكتاب في قوله سبحانه: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43]، ووجه الدلالة أن هذه الآية الكريمة أمرت بني إسرائيل أن يركع بعضهم مع بعض، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، وهنا ورد شرعنا بما يوافقه.

وأما دليل السنة فأحاديث صحيحة، منها حديث ابن عمر في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)، فقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم مشروعية صلاة الجماعة، وأنها أفضل من صلاة الفذ، وذلك لما ذكر من الدرجات، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث مالك بن حويرث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكما أحدكما، وليؤمكما أكبركما)، فدلت هذه الأحاديث وغيرها من الأحاديث الصحيحة على مشروعية صلاة الجماعة، وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجماعة، بل إنه حين وطئت قدمه طيبة الطيبة بعد نزوله من قباء كان أول ما فعل أن اختط مسجده صلوات الله وسلامه عليه تأكيداً لأهمية الصلاة في المساجد وفي بيوت الله عز وجل.

فالصلاة إذا ثبتت مشروعيتها، وتبين لنا أنها مشروعة بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فينبغي أن يعلم أنه قد أجمع العلماء رحمة الله عليهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على مشروعيتها.

وهذه المشروعية لها فضائل ونوائل تعود على الإنسان بالخير في دينه ودنياه وآخرته، ولذلك قال العلماء رحمهم الله: شرع الله صلاة الجماعة وجعل فيها الخير للفرد وللمجتمع وللأمة كلها، وهذا الخير لا يقتصر على خير الدين بل يشمل حتى خير الدنيا، ويقولون: إن صلاة الجماعة تعود على الإنسان بالخير في دينه، فمن خيراتها في دينه أن الله يكفر بها سيئاته ويرفع بها درجاته، والدليل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا أنبئكم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ كثرة الخطا إلى المساجد)، وإنما يأتي الإنسان إلى المساجد تحصيلاً لصلاة الجماعة، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الرجل في مسجده تضعف على صلاته في بيته وسوقه خمساً وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأسبغ الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لم يخط خطوة إلا كتبت له بها حسنة، ورفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة)، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الفضل من كونها تكفر خطايا العبد وترفع درجاته، وكفى بذلك فضلاً ونبلاً للإنسان، مع أن فيها إيماناً واهتداءً، ولذلك يعمر المسلم بيوت الله بشهود صلاة الجماعة، وأثنى الله عز وجل على من كان متخلقاً بذلك ومتصفاً به بقوله: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التوبة:18]، فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه من أهل الإيمان، وأن مآله إلى الاهتداء، وكان العلماء رحمة الله عليهم إذا لمسوا من الإنسان ضعفاً في دينه سألوه عن الصلاة مع الجماعة.

فصلاة الجماعة جعل الله فيها هذه الخيرات الدينية للفرد والمجتمع، فبها يتواصل الناس ويتراحمون؛ لأن الإنسان إذا غاب عن المسجد لمرض أو عاهة أو بلاء علم الناس ذلك واطّلعوا عليه وأدركوه بتخلفه عن الصلاة مع الجماعة، خاصة إذا كان من المحافظين والمداومين عليها، ومع ما فيها من جوار لله عز وجل، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله حتى يمسي)، فهذه نعم عظيمة وخيرات كثيرة، وبشهود الناس لصلاة الجماعة تتحقق أواصر المحبة للمجتمع، فهذا يلقى أخاه يسلم عليه، ويسأله عن حاله، ويعين الضعيف، ويفرج كربة المكروب، إلى غير ذلك من الخيرات التي جعلها الله عز وجل في هذه الصلاة.

حكم صلاة الجماعة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [تلزم الرجال للصلوات الخمس لا شرط].

قوله: (تلزم) الضمير عائد إلى صلاة الجماعة، أي: تجب. والمراد بالتعبير باللزوم الدلالة على أنها واجبة لازمة في ذمة المكلف، لكنه قال: (تلزم الرجال)، ومفهوم قوله: (الرجال) أنها لا تلزم النساء، وهذا بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، ولذلك كان من تعبير العلماء أن قالوا: ليس على النساء جمعة ولا جماعة. أي: ليس على النساء أن يشهدن الجمعة ولا الجماعة، وهذا من باب درء المفاسد؛ إذ إنه لو أذن للنساء كلهن بالخروج لكان في ذلك مفاسد عظيمة وأضرار كثيرة لوجود العبء عليهن بالخروج.

و

قوله: (تلزم الرجال) هذه الجملة ظاهرها أن كل مسلم بالغ من الرجال يجب عليه أن يشهد الصلاة مع الجماعة، والمراد بذلك الصلوات الخمس، وهذا الحكم اختلف العلماء رحمة الله عليهم فيه على قولين:

فذهب الإمام أحمد وداود الظاهري -وهو قول مأثور عن جمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان- إلى أن صلاة الجماعة واجبة على كل بالغٍ ذكر، وأنه إذا تخلف عنها من غير عذر يعتبر آثماً. ووافقه على هذا القول بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة والشافعي رحمة الله على الجميع، فعند أصحاب هذا القول أن صلاة الجماعة لازمة، ولا يجوز للمسلم أن يتخلف عنها إلا إذا وجد عنده عذر من مرض يحبسه أو نحو ذلك.

القول الثاني: أن الصلاة ليست واجبة على الرجل. وبهذا قال جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية رحمة الله على الجميع.

وقد استدل أصحاب القول الأول الذين قالوا بالوجوب بدليل الكتاب والسنة والأثر:

أما دليلهم من الكتاب فقوله سبحانه وتعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء:102]، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أن الله عز وجل قال: (فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) وهذا أمر، والأمر للوجوب، ثم أمر الطائفة الثانية التي تخلفت بالشهود فقال تعالى: وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ [النساء:102]، قالوا: فدلت هذه الآية الكريمة على وجوب صلاة الجماعة، وذلك في حال الخوف، فلأن تجب في حال الأمن والسلامة من باب أولى وأحرى.

وكذلك استدلوا بدليل السنة، وذلك بأحاديث:

الأول: حديث أبي هريرة رضي الله الثابت في صحيح مسلم: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال: يا رسول الله! إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد. فرخص له، فلما ولّى دعاه، فقال: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم. قال: فأجب، فإني لا أجد لك رخصة) رواه مسلم .

ووجه الدلالة من هذا الحديث أن هذا الرجل الأعمى مع وجود المشقة والعناء عليه بشهود الجماعة أمره النبي صلى الله عليه وسلم بها، فدل على أنها واجبة لازمة، خاصة وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : (فأجب)، وهذا أمر، والأمر للوجوب، وقال : (فإني لا أجد لك رخصة)، فدل على اللزوم، وأن من تخلف عن الجماعة آثم.

الدليل الثاني: حديث أبي هريرة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الجماعة فأحرّق عليهم بيوتهم).

ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم بين في هذا الحديث أنه سيعاقب من تخلف عن الجماعة، وأنه همَّ بمعاقبة من لا يشهد هذه الصلاة، ولا ترد العقوبة إلا على ترك واجب أو على فعل محرم، فدل على أن شهود الجماعة واجب، وأن التخلف عنها من غير ضرورة ولا عذر محرم.

الدليل الثالث: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (من سمع النداء فلم يأتِ فلا صلاة له إلا من عذر) رواه ابن ماجة وغيره.

ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم بين في هذا الحديث أن من لم يشهد الجماعة فلا صلاة له إلا من عذر، فدل على أنها واجبة لازمة، فهذا حاصل ما احتج به أصحاب القول الأول من دليل الكتاب والسنة.

وأما دليلهم من الأثر فما ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هذه الصلوات حيث ينادى بهن؛ فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو تركتموها لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين فيقام في الصف.

ووجه الدلالة من هذا الأثر أن هذا الصحابي الجليل الموسوم بالفقه والعلم والعمل أخبر عن أهمية هذه الصلاة، وأنها بمثابة اللازم الواجب الذي لو ترك لضل العبد بتركه، وهذا كله يؤكد وجوبها ولزومها؛ لأنه لا يوصف بالضلالة إلا على ترك الهدى اللازم والواجب على المكلف.

فهذا حاصل ما استدل به أصحاب القول الأول القائلين بالوجوب.

أما من قال بعدم الوجوب فقد استدلوا بحديث ابن عمر في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين)، وفي رواية : (بخمس وعشرين درجة).

ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر كلتا الصلاتين، وجعل لصلاة الفرد فضلاً، فدل على أن صلاة الجماعة ليست بواجبة؛ إذ لو كانت واجبة لما ورد الفضل لضدها، أعني صلاة الفرد.

والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بوجوب صلاة الجماعة، وذلك لصحة دلالة الكتاب والسنة على هذا القول.

وأما ما استدل به من قال بعدم الوجوب فإن حديث ابن عمر رضي الله عنهما غاية ما دل عليه إثبات الأجر لصلاة الفذ، وذلك لا يستلزم عدم وجود الإثم المترتب على التخلف عن صلاة الجماعة.

ووجه ذلك أن يقال: إن الأحاديث التي أمرت بصلاة الجماعة دلت على وجوبها، وحديث أبي هريرة دل على المفاضلة بين صلاة الجماعة وصلاة الفذ، فكأن حديث أبي هريرة خرج عن موضع النزاع؛ لأن موضع النزاع في الدلالة على الوجوب أو عدم الوجوب، وكون الأجر يرد على هذا أقل من غيره، أو يرد على هذا أكثر من غيره فهذا خارج عن موضع النزاع، والقاعدة في الأصول أن النص إذا خرج عن موضع النزاع لم يصلح دليلاً على عين المسألة المختلف فيها. وبهذا يترجح القول القائل بالوجوب.

وقوله: [للصلوات الخمس] أي: تلزم في الصلاة المكتوبة، وهي الصلوات الخمس: الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ولذلك قيد المصنف رحمه الله إطلاق الوجوب واللزوم بهذه الصلوات الخمس على ظاهر النصوص؛ لأنها إنما وردت في الصلاة المفروضة والمكتوبة، وأما جماعة النوافل كصلاة التراويح والصلاة على الجنازة إذا كانت جماعة فهذه ليست بلازمة ولا واجبة على المكلف.

وقوله: [لا شرط] أي: صلاة الجماعة شهودها مع الجماعة واجب ولازم، ولكن ليس شرطاً في صحة الصلاة.

ونحن ذكرنا أن العلماء رحمة الله عليهم -الظاهرية والحنابلة وبعض الحنفية والشافعية- الذين قالوا بوجوب صلاة الجماعة انقسموا إلى طائفتين:

فطائفة أوجبت صلاة الجماعة، وقالت: لو صلى لوحده صحت صلاته.

وطائفة قالت بوجوب صلاة الجماعة، وقالت: لو صلى فرداً من دون عذر لم تصح صلاته.

وإذا ثبت أن صلاة الجماعة واجبة، فهل وجوبها وشهودها شرط في صحة الصلاة أو ليس شرطاً؟

في المسألة قولان عند من يقول بالوجوب:

قال الحنابلة، والحنفية والشافعية الذين يوافقونهم على وجوب صلاة الجماعة: إنها ليست بشرط في صحة الصلاة، فمن صلى منفرداً صحت صلاته وأجزأت ويأثم؛ لأنه لم يشهد الجماعة.

وقال الظاهرية -وهو رواية عن الإمام أحمد، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله على الجميع- إنها واجبة وشرط في الصحة. فلو صلى منفرداً بدون عذرٍ فإن صلاته باطلة على هذا القول.

وقد استدل الذين قالوا بالوجوب وأنها ليست بشرطٍ في الصحة بأدلة الوجوب التي ذكرناها؛ لأن الأصل أن من أدى صلاته كاملة بأركانها وشرائطها وواجباتها فصلاته صحيحة حتى يدل الدليل على البطلان.

فلو سألك سائل: ما الدليل على أن الأصل فيمن أدى الصلاة بأركانها وواجباتها أن يحكم بصحة صلاته تقول: حديث المسيء صلاته؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن بين له ما يجب في الصلاة قال له: (إذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك)، فإذا صلى المنفرد وأدى الصلاة بأركانها وواجباتها انطبق عليه ما ورد في هذا الحديث.

أما فقهاء الظاهرية ومن وافقهم فقد استدلوا على بطلان صلاة المنفرد بدون عذر بما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (من سمع النداء فلم يأتِ فلا صلاة له إلا من عذر) رواه ابن ماجة، وهذا الحديث مختلف في إسناده وفيه كلام، ولكن على القول بصحته، قالوا: إن قوله : (فلا صلاة له) أي: فلا صلاة صحيحة. فدل هذا الحديث على بطلان صلاة المنفرد؛ لأنه صلى بدون عذر.

وأما الذين قالوا بصحتها فإنهم يقولون: إن قوله: (فلا صلاة له) أي: كاملة، والذين يقولون بعدم صحتها يقولون : فلا صلاة صحيحة، فأصبح حديث ابن عباس متردداً بين نفي الكمال ونفي الصحة.

والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بصحة صلاة المنفرد ولو كان تاركاً للجماعة بدون عذر، وذلك لما يلي:

أولاً: لصحة ما احتج به أصحاب هذا القول.

ثانياً: أن استدلال أصحاب القول الثاني بحديث ابن عباس يجاب عنه من وجهين:

الوجه الأول: من جهة السند، فإنه معارض لما هو أصح منه، مع ما فيه من الطعن في روايته.

الوجه الثاني: من جهة المتن، فإن قوله عليه الصلاة والسلام: (فلا صلاة له) يتردد بين نفي الصحة ونفي الكمال، والقاعدة في الأصول أن النفي المسلط على الحقائق الشرعية إن تردد بين نفي الصحة ونفي الكمال، وكان حمله على الصحة معارضاً لأصول أو أدلة صحيحة وجب صرفه على الكمال. وهنا قد عارض نفي الصحة أحاديث صحيحة، منها حديث عبد الله بن عمر في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام : (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ)، فهذا يدل على أن صلاة الفذ صحيحة؛ لأنه لا يفاضل بين صحيح وفاسد؛ إذ الفاسد لا فضل له أصلاً، فلما قال عليه الصلاة والسلام : (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ) أثبت الصحة لصلاة الفذ، فلو قال قائل: الفذ هنا المعذور. نقول: هذا باطل؛ لأن المعذور أجره كامل، فمن ترك صلاة الجماعة بعذر كأنه قد صلى وصلاته كاملة، كما في الحديث الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل)، فدل على أن الفذ في حديث ابن عمر إنما هو الفذ غير المعذور، وإذا كان الفذ غير معذور فإنه يدل هذا الحديث على أن صلاته صحيحة، فثبت في السنة صحة صلاة الفذ، فكان قوله عليه الصلاة والسلام : (فلا صلاة له إلا من عذر) أي: لا صلاة كاملة. وعلى هذا فإن صلاة الجماعة تكون واجبة على الرجال وليست شرطاً في صحة صلاتهم.

صلاة الجماعة في البيت

قال رحمه الله تعالى: [وله فعلها في بيته].

قوله: (وله) أي: للمكلف، (فعلها) أي: فعل صلاة الجماعة في بيته، بأن يجمع أهله، فيصلي بامرأته أو ببناته، أو يصلي بإخوانه وأخواته، أو يصلي بأبنائه وبناته، وقس على هذا، فلا حرج عليه على هذه الرواية.

ومن الأصحاب من قال: إن كان تخلفه عن المسجد لا يؤدي إلى ضعف الجماعة فإنه يجوز له أن يتخلف ويصلي مع جماعته في المنزل، واحتجوا بحديث الرحل -وهو ثابت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام-: أنه صلى بالناس بخيف منى، فرأى رجلين لم يصليا، فقال: (ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: قد صلينا في رحالنا. قال: فلا تفعلا. إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما الإمام ولم يصل فصليا معه؛ فإنها لكما نافلة).

ووجه الدلالة أنهما تركا جماعة المسجد لجماعة الرحل والبيت، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهما ذلك.

وهناك من العلماء من قال: إن هذا لا يشمل صلاة الرجل في أهله، وإنما هو وارد في صلاة السفر، والجماعة في السفر ساقطة عن المسافر لهذا الحديث، فلا تشمل من جمع في أهله. وهذا القول من القوة بمكان، أعني أنه لا يشرع للإنسان أن يتخلف عن الصلاة مع الجماعة ويجمع بأهله؛ لأنه لو فتح هذا الباب لفات كثير من مقاصد الشريعة بإيجاب الجماعة، ولذلك يحمل حديث الرحل على المسافرين؛ لأنهما كانا بخيف منى فكانا في حكم المسافرين، ولذلك صلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم قصراً، فالحديث وارد في المسافرين، وأحاديث الجماعة إنما هي في المقيم، وعلى هذا نقول: إن المسافر لا تجب عليه الجماعة إن كان يصلي في رحله رفقاً وتوسعةً من الله عز وجل على هذا النوع من المكلفين.

صلاة أهل الثغور في مسجد جامع

قال رحمه الله تعالى: [وتستحب صلاة أهل الثغر في مسجد واحد].

أهل الثغور: هم الذين يكونون في الجهاد، ويوصف الجهاد بكونه ثغراً، فيقال: ثغور الإسلام؛ لأنها منافذ يدخل منها على المسلمين، ويقف المجاهدون المرابطون عليها صيانة لثغور الأمة.

فيستحب لأهل الثغر -أي: الذين يكونون في الجهاد -أن لا يتفرقوا في جماعات متعددة؛ لأنهم إذا اجتمعوا في جماعة واحدة كان أمكن في إظهار هيبة الإسلام وعزة أهله وتآلف أصحابه، وإذا رآهم العدو وهم بهذه الكثرة العظيمة يصلون مع بعضهم ويركعون وراء إمام واحد وينضبطون انضباطاً كاملاً كان ذلك أبلغ في الهيبة، حتى إن الأوزاعي قال: لقد هممت أن أحرق المساجد في الثغور من أجل أن يجتمع المجاهدون على إمام واحد، وهذا لا شك أنه أبلغ في الجماعة، وفي الألفة والمحبة، وفي قوة الأخوة وتحقيق الأواصر، وأبلغ في النكاية بالعدو وإرهابه من شوكة المسلمين، فلذلك استحب العلماء أن تكون جماعتهم واحدة، ولكن نظراً لأن الثغور يعتريها ما يعتريها من وجود التفرق خوفاً من دهم العدو ومباغتته فلا حرج أن تكون هناك أكثر من جماعة، ولا حرج أن يتفرقوا جماعات، ويكون الأمر مرتبطاً بمصلحة الجهاد على حسب ما يراه إمامهم.

صلاة الرجل في المسجد القريب منه

قال رحمه الله تعالى: [والأفضل لغيرهم في المسجد الذي لا تقام فيه الجماعة إلا بحضوره ثم ما كان أكثر جماعة].

بعد أن بين لنا لزوم الجماعة ووجوبها، وأنها ليست شرطاً في الصحة شرع الآن في بيان أفضل الجماعات. فمنها: أن الرجل الذي تتوقف الجماعة عليه في مسجده، ويكون مسجده محتاجاً إليه لحصول الكثرة، فهذا الأفضل له أن يصلي في جماعة مسجده.

مثال ذلك: أن يكون لحيك جماعة، وهذه الجماعة قليلة العدد، وبشهودك يكثر العدد ويعرف الناس هذا المسجد ويقبلون عليه وتقوى جماعتهم، فحينئذ تصلي معهم، ولا تنصرف إلى غيره؛ لما فيه من تقوية هذه الجماعة ودعوة الناس لشهودها، وهذا يحقق مقصود الشرع.

قال: (ثم ما كان أكثر جماعة).

إن كان مسجدك لا تتوقف جماعته عليك يرد السؤال: لو أن عندك أكثر من مسجد، فهل الأفضل أن تصلي في هذا المسجد، أو في ذاك المسجد؟

والجواب: أن المساجد قد فاضل الشرع بينها، فما كان من المساجد منصوصاً على فضله فمقدم على غيره، فيقدم المسجد الحرام على سائر المساجد على وجه الأرض، فمسجد الكعبة أفضل المساجد على الإطلاق، والصلاة فيه أشرف وأكمل وأعظم أجراً وحظاً، وذلك من كل الوجوه، خاصة وجود المضاعفة التي تصل إلى مائة ألف صلاة، وكذلك الجمعة فإنها آكد، والحض عليها في مسجد الكعبة آكد، ولو كان الإنسان يرجح القول الذي يقول: إن كل مكة يعتبر من المسجد الحرام فلا ينبغي له أن يذهب الفضل بعدم شهود الصلاة في المسجد الحرام؛ فإن دخوله وشهوده وتكثير سواد المسلمين فيه من الخير بمكان، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن صلاة الرجل مع الرجل أفضل وأزكى من صلاته وحده، وأنها مع الثلاثة أزكى من الاثنين، وما كان أكثر كان أفضل، كما في حديث أحمد، فصلاة الجماعة في المسجد الحرام فيها فضيلة المكان، وفضيلة العدد -الكثرة-، وفضيلة القدم؛ لأن الله يقول: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة:108]، فقدم هذا المسجد، وشهود الله عز وجل بقدمه يدل على فضله وبركة الصلاة فيه؛ لأن كل شيء شهد الشرع بفضله فهو مبارك.

ويلي ذلك المسجد النبوي، وذلك لشهود النبي صلى الله عليه وسلم له بالفضل في قوله : (صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الصلاة فيه أفضل، ثم يليه المسجد الأقصى، فإنه بخمسمائة صلاة فيما سواه إلا ما ذكرنا من المسجدين، فهذه المساجد الثلاثة هي أفضل المساجد على وجه الأرض، والصلاة فيها أكمل وأعظم أجراً، ويليها مسجد قباء، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه كان له كأجر عمرة) رواه النسائي وغيره بسند صحيح.

ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت الفضل لمسجد قباء، وأما الصلاة فيه فمطلقة، سواءٌ أكانت نافلة أم فريضة، وأما رواية : (فصلى فيه ركعتين)فضعيفة، لكن الرواية القوية : (فصلى فيه) بإطلاق، ولذلك لو صلى فيه فريضة أو نافلة فإنه ينال أجر العمرة.

فهذه المساجد أفضل، وشهود الجماعة فيها أكمل، وفي مكة لا شك أن الإنسان ينبغي له الحرص على الصلاة في المسجد الحرام، خاصة في يوم الجمعة؛ فإن الجمعة فيه بمائة ألف جمعة، فهي الفضل بمكان، ولو أن الإنسان حسبها لوجدها تعادل قروناً من العمر، فهذا فضل عظيم خص الله عز وجل به أهل مكة، فلا ينبغي -خاصة لأهل العلم وطلاب العلم- البعد عن هذا الفضل، خاصة وأن المسجد الحرام -مع ما في شهوده من الخير- فيه تعليم الجاهل وإحياء السنة؛ لأنه إذا كثر شهود أهل السنة الصلاة في هذا المسجد ائتسى الناس، وأحييت السنن، وكان في ذلك من الخير ما الله به عليم، ولذلك ينبغي الحرص على هذه الفضيلة.

وبعد هذه المساجد للعلماء تفصيل في تفضيل الجماعات:

- فمنهم من يقول: يلي هذه المساجد أقدم المساجد، فلو كان عندك مسجدان، أو جماعتان إحداهما مسجدها أقدم فإنه تقدم الجماعة على المسجد الذي يلي ذلك المسجد في القدم، واحتجوا بقوله تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة:108]، فقد أخبر الله تعالى أن قدم المسجد دال على فضله، فأثبت الأحقية للأقدم، وعلى هذا كلمة جماهير العلماء، فالمسجد القديم أفضل من المسجد الجديد وأحق، حتى قالوا: لو وجد مسجد قديم ثم جاء إنسان وأحدث مسجداً جديداً من دون حاجة لصلاة جماعة وإنما لقصد جذب الناس إلى مسجده فإنه يعتبر مسجد ضرار، ولو أُحدث مسجد للجمعة بعد مسجد قديم فإن العبرة في الجمعة بالمسجد القديم، ولا تصح الجمعة في المسجد الجديد إذا لم توجد حاجة، وهذا على ظاهر آية التوبة التي ذكرناها.

وعلى هذا جمع من أهل العلم رحمة الله عليهم من الفقهاء، فالمسجد القديم أحق لنص كتاب الله عز وجل على تفضيله، ولأنه أكثر طاعة وشهوداً للخير، وذلك لفضل الزمان الذي امتاز به على المسجد الذي هو دونه في الزمان.

فقوله: [ثم ما كان أكثر جماعة] أي: ثم ينظر إلى المسجد الذي هو أكثر جماعة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أفضل)، وهذا الحديث المسند يدل على أن الجماعة الأكثر عدداً أفضل من الجماعة الأقل عدداً.

قال رحمه الله تعالى: [ثم المسجد العتيق].

اختلف العلماء فيما لو كان هناك مسجدان أحدهما قديم وجماعته قليلة، والثاني جديد وجماعته أكثر، فهل الأفضل أن تشهد القديم مع قلة الجماعة، أو تشهد الجديد مع كثرة الجماعة؟

فمنهم من يقول: أقدم فضيلة المكان -أي: فضيلة المسجد القديم-، وذلك لورود النص بها من القرآن.

ومنهم من قال: أقدم فضيلة الجماعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين مسجد قديم وجديد، والذي يظهر -والله أعلم- أن المسجد القديم ولو كان أقل جماعة أفضل؛ وذلك لأن حديث النسائي فيه كلام في سنده، ودلالة نص الآية أقوى من دلالة السنة.

قال رحمه الله تعالى: [وأبعد أولى من أقرب].

أي أن أبعد المساجد أفضل من أقربها. فلو كان عندك جماعة بعيدة وجماعة قريبة، فالجماعة البعيدة أفضل؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا بني سلمة! دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم) أي: الزموا دياركم تكتب آثاركم. وذلك لأنهم أرادوا أن يتحولوا إلى جوار المسجد، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم إليها ممشى)، ووجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن أعظم الناس أجراً في صلاة الجماعة أبعدهم إليه ممشى، فدل على أن المسجد البعيد أفضل من المسجد القريب، ولذلك قالوا: الأفضل أن يذهب إلى ما هو أبعد لما فيه من المشقة والعناء. وفي الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه أن رجلاً كانت لا تخطئه صلاة في المسجد، فقيل له: لو أنك اتخذت دابة تقيك حر الرمضاء وهوام الليل؟ فقال: ما أحب لو أن بيتي معلقاً بطنب بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. إني أحتسب أن يكتب الله لي الأجر في ذهابي ورجعتي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد جمع لك بين ذلك)، فمن كان بعيداً واحتسب الخطا إلى المسجد فإن ذلك أفضل وأكمل، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ كثرة الخطا إلى المساجد، وإسباغ الوضوء على المكاره، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)، فدل هذا على أن من كان أبعد فهو أفضل ممن كان أقرب، ولذلك قالوا: إذا وجد مسجدان أحدهما أبعد والثاني أقرب فإن الأبعد أحب وأفضل من الأقرب.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [باب صلاة الجماعة].

وهذه الترجمة تشتمل على مضاف ومضاف إليه، وذلك في قوله [صلاة الجماعة]، وقد تقدم معنا تعريف الصلاة لغة واصطلاحاً.

وأما الجماعة فإنها مأخوذة من قولهم: جمع الشيء إلى الشيء إذا ضمه إليه، فأصل الاجتماع الانضمام، وسميت الجماعة جماعة لانضمام أفرادها بعضهم إلى بعض.

وقد ائتسى العلماء والفقهاء رحمة الله عليهم في هذه الترجمة برسول الله صلى الله عليه وسلم في تسميته لهذا النوع من الصلوات التي تقع على صورة الاجتماع، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين) وفي رواية : (بخمس وعشرين درجة)، فقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصلاة بهذا الوصف، فمن الفقهاء من يقول: (باب صلاة الجماعة) مراعاة لهذا الحديث، ومنهم من يقول: (باب الإمامة) وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح لـمالك بن حويرث وأخيه الذي كان معه من قومه: (إذا حضرت الصلاة فأذنا وليؤمكما أكبركما)، فقال: (وليؤمكما)، وقال كما في الصحيح من حديث ابن مسعود : (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) فعبر بالإمامة.

فبعض العلماء يقول: (باب صلاة الجماعة)، وبعضهم يقول: (باب الإمامة) والمعنى واحد، أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بصلاة الجماعة، وتقوم الجماعة على ربط المأموم صلاته بالإمام، فيتابعه قولاً وفعلاً كما يتابعه مكاناً، فلا يتقدم على الإمام من جهته، وذلك مراعاة لهذا الائتمام.

والإمامة مأخوذة من أمَّ الشيء يؤمه إذا قصده. وهي هنا: ربط المأموم صلاته بالإمام، ويقع هذا الربط بصورة مخصوصة بيّن الشرع حكمها كما في دليل الكتاب في صلاة الخوف، وكذلك أدلة السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد شرع الله صلاة الجماعة في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وبفعله عليه الصلاة والسلام، وكذلك أجمع العلماء رحمة الله عليهم على مشروعيتها.

أما دليل الكتاب على مشروعية هذا النوع من الصلاة فقوله سبحانه وتعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء:102]، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أن الله تبارك وتعالى أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقوم بالطائفة، وذلك في صلاة الخوف، وإذا كانت الجماعة مشروعة في حال الخوف فمن باب أولى وأحرى أن تشرع حال الأمن والطمأنينة، ولذلك دلت هذه الآية الكريمة على مشروعية صلاة الجماعة، كما يقول العلماء، واحتج بعض أهل العلم بدليل الكتاب في قوله سبحانه: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43]، ووجه الدلالة أن هذه الآية الكريمة أمرت بني إسرائيل أن يركع بعضهم مع بعض، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، وهنا ورد شرعنا بما يوافقه.

وأما دليل السنة فأحاديث صحيحة، منها حديث ابن عمر في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)، فقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم مشروعية صلاة الجماعة، وأنها أفضل من صلاة الفذ، وذلك لما ذكر من الدرجات، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث مالك بن حويرث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكما أحدكما، وليؤمكما أكبركما)، فدلت هذه الأحاديث وغيرها من الأحاديث الصحيحة على مشروعية صلاة الجماعة، وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجماعة، بل إنه حين وطئت قدمه طيبة الطيبة بعد نزوله من قباء كان أول ما فعل أن اختط مسجده صلوات الله وسلامه عليه تأكيداً لأهمية الصلاة في المساجد وفي بيوت الله عز وجل.

فالصلاة إذا ثبتت مشروعيتها، وتبين لنا أنها مشروعة بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فينبغي أن يعلم أنه قد أجمع العلماء رحمة الله عليهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على مشروعيتها.

وهذه المشروعية لها فضائل ونوائل تعود على الإنسان بالخير في دينه ودنياه وآخرته، ولذلك قال العلماء رحمهم الله: شرع الله صلاة الجماعة وجعل فيها الخير للفرد وللمجتمع وللأمة كلها، وهذا الخير لا يقتصر على خير الدين بل يشمل حتى خير الدنيا، ويقولون: إن صلاة الجماعة تعود على الإنسان بالخير في دينه، فمن خيراتها في دينه أن الله يكفر بها سيئاته ويرفع بها درجاته، والدليل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا أنبئكم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ كثرة الخطا إلى المساجد)، وإنما يأتي الإنسان إلى المساجد تحصيلاً لصلاة الجماعة، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الرجل في مسجده تضعف على صلاته في بيته وسوقه خمساً وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأسبغ الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لم يخط خطوة إلا كتبت له بها حسنة، ورفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة)، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الفضل من كونها تكفر خطايا العبد وترفع درجاته، وكفى بذلك فضلاً ونبلاً للإنسان، مع أن فيها إيماناً واهتداءً، ولذلك يعمر المسلم بيوت الله بشهود صلاة الجماعة، وأثنى الله عز وجل على من كان متخلقاً بذلك ومتصفاً به بقوله: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التوبة:18]، فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه من أهل الإيمان، وأن مآله إلى الاهتداء، وكان العلماء رحمة الله عليهم إذا لمسوا من الإنسان ضعفاً في دينه سألوه عن الصلاة مع الجماعة.

فصلاة الجماعة جعل الله فيها هذه الخيرات الدينية للفرد والمجتمع، فبها يتواصل الناس ويتراحمون؛ لأن الإنسان إذا غاب عن المسجد لمرض أو عاهة أو بلاء علم الناس ذلك واطّلعوا عليه وأدركوه بتخلفه عن الصلاة مع الجماعة، خاصة إذا كان من المحافظين والمداومين عليها، ومع ما فيها من جوار لله عز وجل، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله حتى يمسي)، فهذه نعم عظيمة وخيرات كثيرة، وبشهود الناس لصلاة الجماعة تتحقق أواصر المحبة للمجتمع، فهذا يلقى أخاه يسلم عليه، ويسأله عن حاله، ويعين الضعيف، ويفرج كربة المكروب، إلى غير ذلك من الخيرات التي جعلها الله عز وجل في هذه الصلاة.