شرح زاد المستقنع باب إزالة النجاسة [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

حكم زوال النجاسة بالشمس

فيقول المصنف رحمه الله: [ولا يطهر متنجس بشمس ولا ريح ولا دلك].

(ولا يطهر متنجس بشمس) صورة المسألة: لو أنك رأيت النجاسة قد أصابت طرفاً من الأرض الذي تصلي عليه، ثم هذا الموضع أصابته الشمس أياماً أو فترة من الزمن، وجئت ووقفت عليه فلم ترَ أثراً للنجاسة فهذا يسميه العلماء: (المكان المتطهر بالشمس) أي: زال أثر النجاسة عنه بالشمس، وللعلماء فيه قولان:

قال بعض العلماء: إذا زالت النجاسة بالشمس ولم يبقَ لها أثر في الموضع؛ فإنه يحكم بطهارة ذلك المكان، ويرجع إلى أصله. وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية .

والقول الثاني يقول: إنه لابد من صب الماء ولو زال أثر النجاسة بالشمس، وبه قال جمهور العلماء، ويستوي في ذلك أن يكون أرضاً أو يكون ثوباً، فلو أن إنساناً أصابت النجاسة ثوبه ثم عرض ثوبه للشمس، وجاء بعد أيام فلم يجد لا لون النجاسة ولا ريحها ولا أثرها، فقال أصحاب القول الأول: نحكم بالطهارة، وهم الحنفية.

والقول الثاني يقول: لا نحكم بالطهارة بل لابد من الغسل، وهو مذهب الجمهور.

والذين قالوا: إنه يحكم بطهارة الموضع، استدلوا بدليل العقل، فقالوا: القاعدة في الشرع: (أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً)، فلما كان حكمنا بنجاسة الثوب مبنياً على وجود النجاسة في الثوب؛ فإنه ينبغي أن يزول هذا الحكم بزوال النجاسة، وقد زالت بالشمس، فيستوي عندنا أن تزول بالشمس أو بغير الشمس.

وأصحاب القول الثاني -الذين قالوا بعدم طهارة الموضع بالشمس- استدلوا بما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة من قصة الأعرابي، أنه لما بال في المسجد قال عليه الصلاة والسلام: (أريقوا على بوله سَجلاً من ماء) قالوا: لو كانت الأرض تطهر بالشمس إذا زال أثر النجاسة أو ذهب ما يدل عليها لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بأن يتكلفوا صب الماء على الموضع.

والقول الراجح في هذه المسألة والأقوى والأقرب للأصول: أنه لابد من صب الماء؛ وذلك لأمرين:

الأمر الأول: أنه إذا اختلف في شيء هل هو لازم أو غير لازم؟ فإنه يرجع إلى الأصل، فهل الأصل في النجاسة أنها تغسل أو تشمس؟ الأصل أنها تغسل، وبناءً على ذلك: نحن شككنا في زوالها بالشمس: هل هو موجب لرجوعها إلى كونها طاهرة أو نبقى على اليقين من كونها نجسة؟ فكان هذا بمثابة القرينة على رجحان القول الذي يعتمد الغسل لإزالة تلك النجاسة.

والنبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بصب الماء على ذلك الموضع، وقد كان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم منه ما هو في الشمس ومنه ما هو في الظل.

فلو قال قائل: يحتمل أن هذا الموضع الذي أُمر بصب الذنوب عليه كان في الظل، لقلنا: هذا مردود؛ لأن الأعرابي -كما في الصحيح- دخل والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في الحلقة، ومما هو معلوم أنه لو أراد أن يقضي حاجته فإنه سيتلمس أبعد المواضع عن الجلاس، وهذا أمر واضح بدليل الاستقراء للعرف، فإنه لن يأتي ويبول قريباً منهم، ومن عادته عليه الصلاة والسلام أن يكون في أقرب المواضع للظل أو في الظل، وبناءً على ذلك: فإن الغالب من صورة الحال أن يكون بوله في موضع لا ظل فيه، وهذا هو الأرفق والأقرب، وإذا ثبت هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصب الماء عليه، فلو كانت إصابة الشمس تطهر الموضع، لما أمر الصحابة أن يتكلفوا إحضار السجل وصبه على ذلك الموضع ولتركه للشمس تطهره؛ ولذلك لا شك أن الأصل هو كون الماء مطهراً لم يرد دليل صحيح يدل على أن الشمس تطهر، فنبقى على دلالة الأصل خاصةً على مسلك الجمهور الذين يقولون: إن تطهير النجاسة في بعض المواضع فيه شبهة التعبد، فتطهير النجاسة في بعض المواضع ألفنا من الشرع فيه شبهة التعبد، ومثل هذا يقوى فيه البقاء على الأصل، وإلغاء الأوصاف المعللة بالقياس والنظر.

حكم زوال النجاسة بالريح

وقوله: (ولا ريح، ولا دلك).

أي: إذا أصابت النجاسة موضعاً وحكمت بنجاسته؛ فإنه إذا طهر بالريح لابد من غسله (ولا ريح) أي: لا يطهر الموضع بالريح، وصورة ذلك: لو أن إنساناً أصاب ثوبه نجاسة فنشره، فجاءت الريح وعبثت بالثوب حتى لم يبق للنجاسة أثر في الثوب؛ فحينئذٍ نقول: إن جريان الريح لا يوجب زوال الوصف المستيقن كونه نجساً، بل لابد من الغسل.

حكم زوال النجاسة بالدلك

وقوله: (ولا دلك)

الدلك له حالتان:

الحالة الأولى: ثبت الشرع باعتباره مطهراً فيها.

الحالة الثانية: البقاء على الأصل من كون الموضع لا يطهر إلا بالغسل.

أما الحالة التي ثبت الشرع باعتبار الدلك فيها مطهراً: فهي في نجاسة الحذاء وثوب المرأة؛ ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالصلاة بالنعال ومخالفة اليهود فقال: (صلوا في نعالكم) ثم قال: (فإن وجد أحدكم فيها أذى -يعني: نجاسة- فليدلكهما بالأرض ثم ليصلِّ فيهما) فدل هذا على أن النجاسة تطهر بالدلك.

ومن السُّنة للمرأة إذا لبست العباءة -وهذه سنة أضاعها كثير من نساء المؤمنين خاصةً في هذا الزمان- أن تجر عباءتها في الأرض، وألا تكون هذه العباءة مرتفعة؛ وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم النساء المؤمنات بجر الثوب؛ وسئل عما يصيبه ذلك الثوب من النجاسة فقال: (يطهره ما بعده) يعني: لو مرت المرأة بعباءتها على نجاسة ثم مرت على موضع يابس أو على تراب يابس؛ فإن احتكاك هذا الثوب بالتراب يعتبر منظفاً لـه كما لو صب الماء عليه، والصحابة يعلمون أن الثوب سيمر على تراب، ولكنهم واستنكروا بقاء هذه النجاسة مع كونه يمر على تراب، فدل ذلك على أن الأصل في النجاسات أنها تُغسل، إِذْ لو كانت تزول بكل طاهر لما استشكل الصحابة كون المرأة تمر بعباءتها وتجرها على الأرض اليابسة، فإذا ثبت هذا فإن الدلك لا يطلق أنه غير مزيل للنجاسة بل يفصل فيه، فما ورد الشرع باعتبار الدلك فيه مزيلاً للنجاسة؛ فيحكم بكونه مطهراً، وما لم يرد فيه دليل فلا يعتبر مطهراً.

لكن بعض العلماء يقول: أنا أسلم بكون حذاء الرجل وثوب المرأة إذا مر على النجاسة ثم على الأرض فإنه يطهر، ولكن من باب الرخصة لا من باب الأصل، فيقول: هذا الثوب نجس؛ ولكن الشرع حكم بزوال النجاسة لا حقيقة وإنما اعتباراً من جهة الشرع، ولا أرى الدلك مطهراً. لأنه وإن كان هنا بمثابة المطهّر لكنه لا يحُكم بحقيقة زوال النجاسة، وإنما يرتفع حكمها، وفرق بين ارتفاع حكم النجاسة وبين ارتفاع النجاسة بذاتها وزوال عينها.

حكم زوال النجاسة بالاستحالة

قال رحمه الله: [ولا استحالة غير الخمرة]

لو أن هذه النجاسة الموضوعة في الإناء تغيرت واستحالت فإنه لا يحكم بطهارتها.

واستحالة النجس إلى طاهر لها أحوال:

الحالة الأولى: أن يُكاثر بطاهر.

والحالة الثانية: أن يستحيل بنفسه، فالظاهر من إطلاق المصنف العموم.

لكن الأمر فيه تفصيل: فإن كانت استحالة النجس بتكثير، كأن يكون عندك سطل من الماء وقع فيه بول، فتغير لون الماء، فجئت بثلاثة سطول وصببتها على هذا السطل حتى ذهب عين النجاسة وأثرها فلم يبق لها أثر، لا طعم ولا رائحة ولا لون، فحينئذٍ نقول: إن الماء قد أصبح طاهراً، وإذا كان الماء الذي صب طهوراً فقد حكمنا باستحالة هذا الماء من كونه نجساً إلى كونه طاهراً أو طهوراً بحسب ما خالطه، وهذا لا يعنيه المصنف هنا، وإن كان الإطلاق يدل عليه؛ لكن المراد الاستحالة الذاتية، والاستحالة المؤثرة بنفسها، وصورة ذلك كما قلنا: أن يكون في إناء أو وعاء شراب، وهذا الشراب تنجس بنجاسة، وبعد أيام تبخرت هذه النجاسة أو وضعت في موضع فأصابته الشمس وبخرت ما فيه من النجاسة وأصبح ماءً نقياً، أو بالتقطير كما هو موجود الآن، فهل يحكم بكونه طاهراً بناءً على أنه رجع إلى أصله أو لا يحكم؟ للعلماء قولان في ذلك:

القول الأول: يحكم بكونه طاهراً.

القول الثاني: لا يحكم بكونه طاهراً، واختار المصنف الحكم بعدم كونه طاهراً، أي: يبقى على أصله من كونه نجساً، فإن النجاسة قد تتحلل في أجزاء الشيء، فتخفى بعض الخفاء، ولما كان الأصل واليقين أنه نجس، فنبقى على هذا الأصل واليقين حتى يُستحال بمكاثرة الطهور عليه.

فيقول المصنف رحمه الله: [ولا يطهر متنجس بشمس ولا ريح ولا دلك].

(ولا يطهر متنجس بشمس) صورة المسألة: لو أنك رأيت النجاسة قد أصابت طرفاً من الأرض الذي تصلي عليه، ثم هذا الموضع أصابته الشمس أياماً أو فترة من الزمن، وجئت ووقفت عليه فلم ترَ أثراً للنجاسة فهذا يسميه العلماء: (المكان المتطهر بالشمس) أي: زال أثر النجاسة عنه بالشمس، وللعلماء فيه قولان:

قال بعض العلماء: إذا زالت النجاسة بالشمس ولم يبقَ لها أثر في الموضع؛ فإنه يحكم بطهارة ذلك المكان، ويرجع إلى أصله. وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية .

والقول الثاني يقول: إنه لابد من صب الماء ولو زال أثر النجاسة بالشمس، وبه قال جمهور العلماء، ويستوي في ذلك أن يكون أرضاً أو يكون ثوباً، فلو أن إنساناً أصابت النجاسة ثوبه ثم عرض ثوبه للشمس، وجاء بعد أيام فلم يجد لا لون النجاسة ولا ريحها ولا أثرها، فقال أصحاب القول الأول: نحكم بالطهارة، وهم الحنفية.

والقول الثاني يقول: لا نحكم بالطهارة بل لابد من الغسل، وهو مذهب الجمهور.

والذين قالوا: إنه يحكم بطهارة الموضع، استدلوا بدليل العقل، فقالوا: القاعدة في الشرع: (أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً)، فلما كان حكمنا بنجاسة الثوب مبنياً على وجود النجاسة في الثوب؛ فإنه ينبغي أن يزول هذا الحكم بزوال النجاسة، وقد زالت بالشمس، فيستوي عندنا أن تزول بالشمس أو بغير الشمس.

وأصحاب القول الثاني -الذين قالوا بعدم طهارة الموضع بالشمس- استدلوا بما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة من قصة الأعرابي، أنه لما بال في المسجد قال عليه الصلاة والسلام: (أريقوا على بوله سَجلاً من ماء) قالوا: لو كانت الأرض تطهر بالشمس إذا زال أثر النجاسة أو ذهب ما يدل عليها لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بأن يتكلفوا صب الماء على الموضع.

والقول الراجح في هذه المسألة والأقوى والأقرب للأصول: أنه لابد من صب الماء؛ وذلك لأمرين:

الأمر الأول: أنه إذا اختلف في شيء هل هو لازم أو غير لازم؟ فإنه يرجع إلى الأصل، فهل الأصل في النجاسة أنها تغسل أو تشمس؟ الأصل أنها تغسل، وبناءً على ذلك: نحن شككنا في زوالها بالشمس: هل هو موجب لرجوعها إلى كونها طاهرة أو نبقى على اليقين من كونها نجسة؟ فكان هذا بمثابة القرينة على رجحان القول الذي يعتمد الغسل لإزالة تلك النجاسة.

والنبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بصب الماء على ذلك الموضع، وقد كان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم منه ما هو في الشمس ومنه ما هو في الظل.

فلو قال قائل: يحتمل أن هذا الموضع الذي أُمر بصب الذنوب عليه كان في الظل، لقلنا: هذا مردود؛ لأن الأعرابي -كما في الصحيح- دخل والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في الحلقة، ومما هو معلوم أنه لو أراد أن يقضي حاجته فإنه سيتلمس أبعد المواضع عن الجلاس، وهذا أمر واضح بدليل الاستقراء للعرف، فإنه لن يأتي ويبول قريباً منهم، ومن عادته عليه الصلاة والسلام أن يكون في أقرب المواضع للظل أو في الظل، وبناءً على ذلك: فإن الغالب من صورة الحال أن يكون بوله في موضع لا ظل فيه، وهذا هو الأرفق والأقرب، وإذا ثبت هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصب الماء عليه، فلو كانت إصابة الشمس تطهر الموضع، لما أمر الصحابة أن يتكلفوا إحضار السجل وصبه على ذلك الموضع ولتركه للشمس تطهره؛ ولذلك لا شك أن الأصل هو كون الماء مطهراً لم يرد دليل صحيح يدل على أن الشمس تطهر، فنبقى على دلالة الأصل خاصةً على مسلك الجمهور الذين يقولون: إن تطهير النجاسة في بعض المواضع فيه شبهة التعبد، فتطهير النجاسة في بعض المواضع ألفنا من الشرع فيه شبهة التعبد، ومثل هذا يقوى فيه البقاء على الأصل، وإلغاء الأوصاف المعللة بالقياس والنظر.

وقوله: (ولا ريح، ولا دلك).

أي: إذا أصابت النجاسة موضعاً وحكمت بنجاسته؛ فإنه إذا طهر بالريح لابد من غسله (ولا ريح) أي: لا يطهر الموضع بالريح، وصورة ذلك: لو أن إنساناً أصاب ثوبه نجاسة فنشره، فجاءت الريح وعبثت بالثوب حتى لم يبق للنجاسة أثر في الثوب؛ فحينئذٍ نقول: إن جريان الريح لا يوجب زوال الوصف المستيقن كونه نجساً، بل لابد من الغسل.

وقوله: (ولا دلك)

الدلك له حالتان:

الحالة الأولى: ثبت الشرع باعتباره مطهراً فيها.

الحالة الثانية: البقاء على الأصل من كون الموضع لا يطهر إلا بالغسل.

أما الحالة التي ثبت الشرع باعتبار الدلك فيها مطهراً: فهي في نجاسة الحذاء وثوب المرأة؛ ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالصلاة بالنعال ومخالفة اليهود فقال: (صلوا في نعالكم) ثم قال: (فإن وجد أحدكم فيها أذى -يعني: نجاسة- فليدلكهما بالأرض ثم ليصلِّ فيهما) فدل هذا على أن النجاسة تطهر بالدلك.

ومن السُّنة للمرأة إذا لبست العباءة -وهذه سنة أضاعها كثير من نساء المؤمنين خاصةً في هذا الزمان- أن تجر عباءتها في الأرض، وألا تكون هذه العباءة مرتفعة؛ وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم النساء المؤمنات بجر الثوب؛ وسئل عما يصيبه ذلك الثوب من النجاسة فقال: (يطهره ما بعده) يعني: لو مرت المرأة بعباءتها على نجاسة ثم مرت على موضع يابس أو على تراب يابس؛ فإن احتكاك هذا الثوب بالتراب يعتبر منظفاً لـه كما لو صب الماء عليه، والصحابة يعلمون أن الثوب سيمر على تراب، ولكنهم واستنكروا بقاء هذه النجاسة مع كونه يمر على تراب، فدل ذلك على أن الأصل في النجاسات أنها تُغسل، إِذْ لو كانت تزول بكل طاهر لما استشكل الصحابة كون المرأة تمر بعباءتها وتجرها على الأرض اليابسة، فإذا ثبت هذا فإن الدلك لا يطلق أنه غير مزيل للنجاسة بل يفصل فيه، فما ورد الشرع باعتبار الدلك فيه مزيلاً للنجاسة؛ فيحكم بكونه مطهراً، وما لم يرد فيه دليل فلا يعتبر مطهراً.

لكن بعض العلماء يقول: أنا أسلم بكون حذاء الرجل وثوب المرأة إذا مر على النجاسة ثم على الأرض فإنه يطهر، ولكن من باب الرخصة لا من باب الأصل، فيقول: هذا الثوب نجس؛ ولكن الشرع حكم بزوال النجاسة لا حقيقة وإنما اعتباراً من جهة الشرع، ولا أرى الدلك مطهراً. لأنه وإن كان هنا بمثابة المطهّر لكنه لا يحُكم بحقيقة زوال النجاسة، وإنما يرتفع حكمها، وفرق بين ارتفاع حكم النجاسة وبين ارتفاع النجاسة بذاتها وزوال عينها.

قال رحمه الله: [ولا استحالة غير الخمرة]

لو أن هذه النجاسة الموضوعة في الإناء تغيرت واستحالت فإنه لا يحكم بطهارتها.

واستحالة النجس إلى طاهر لها أحوال:

الحالة الأولى: أن يُكاثر بطاهر.

والحالة الثانية: أن يستحيل بنفسه، فالظاهر من إطلاق المصنف العموم.

لكن الأمر فيه تفصيل: فإن كانت استحالة النجس بتكثير، كأن يكون عندك سطل من الماء وقع فيه بول، فتغير لون الماء، فجئت بثلاثة سطول وصببتها على هذا السطل حتى ذهب عين النجاسة وأثرها فلم يبق لها أثر، لا طعم ولا رائحة ولا لون، فحينئذٍ نقول: إن الماء قد أصبح طاهراً، وإذا كان الماء الذي صب طهوراً فقد حكمنا باستحالة هذا الماء من كونه نجساً إلى كونه طاهراً أو طهوراً بحسب ما خالطه، وهذا لا يعنيه المصنف هنا، وإن كان الإطلاق يدل عليه؛ لكن المراد الاستحالة الذاتية، والاستحالة المؤثرة بنفسها، وصورة ذلك كما قلنا: أن يكون في إناء أو وعاء شراب، وهذا الشراب تنجس بنجاسة، وبعد أيام تبخرت هذه النجاسة أو وضعت في موضع فأصابته الشمس وبخرت ما فيه من النجاسة وأصبح ماءً نقياً، أو بالتقطير كما هو موجود الآن، فهل يحكم بكونه طاهراً بناءً على أنه رجع إلى أصله أو لا يحكم؟ للعلماء قولان في ذلك:

القول الأول: يحكم بكونه طاهراً.

القول الثاني: لا يحكم بكونه طاهراً، واختار المصنف الحكم بعدم كونه طاهراً، أي: يبقى على أصله من كونه نجساً، فإن النجاسة قد تتحلل في أجزاء الشيء، فتخفى بعض الخفاء، ولما كان الأصل واليقين أنه نجس، فنبقى على هذا الأصل واليقين حتى يُستحال بمكاثرة الطهور عليه.

وقوله: (غير الخمرة).

(غير) استثناء (الخمرة) والخمر أصله: التغطية، ومنه الخمار؛ لأنه يغطي الوجه، وسميت الخمر خمراً؛ لأنها -والعياذ بالله- تغطي عقل الإنسان وتذهب إدراكه وشعوره، والخمرة تكون مائعة في الأصل، ولكن يلتحق بها كل ما كان مؤثراً في العقل ولو كان جامداً، سواء كان مصنعاً كما هو الموجود الآن في بعض حبوب المخدرات، أو كان طبيعياً كبعض النباتات كالشيكران، فإنه إذا أكل أثر في العقل، أو الخشخاش الذي هو أصل الأفيون، فكل ذلك يعتبر في حكم الخمر، لكن العلماء إذا أطلقوا الخمر فمرادهم به: الشراب المائع الذي يكون من العنب أو من التمر أو من الزبيب أو من غيرها من سائر الثمار، فهذه الخمرة محكوم بنجاستها، وقد تكلمنا على هذه المسألة غير مرة، وفصلنا القول فيها في شرح بلوغ المرام، فإن الذين قالوا بنجاستها -وهم جماهير العلماء- حكموا بالنجاسة لظاهر القرآن في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ [المائدة:90] والرجس: هو القذر في أصل اللغة، والقذر في الشرع أصله النجس، وقالوا: خرجت الأزلام، أما الأنصاب فإنها نجسة؛ لأنها كانت حجارة يذبح عليها، فيكون الدم المسفوح النجس قد أصابها فهي بذلك نجسة بلا إشكال. أما الأزلام فقال العلماء: خرجت بدلالة الحس وبقي ما عداها على الأصل، وأما بالنسبة للخمر فليس هناك دلالة حس على طهارتها، فإنها مستقذرة، فتبقى على وصف الرجس في الشرع من كونها نجسة، وهذا الدليل نوزع بإراقة النبي صلى الله عليه وسلم لوعاء الخمر كما في قصة المزادتين، فإنه أمر الصحابي أن يريق الخمر من المزادتين، قالوا: ولم يأمره بغسلهما، وهذا استدلال فيه نظر كما نبه عليه غير واحد من أهل العلم، فإن سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن أمره بغسل مزادة الخمر إنما هو للعلم به بداهة، فإنك إذا وضعت في هذه المزادة لبناً وأرقت اللبن فمعلوم بداهة أنك ستغسلها، فسكت عليه الصلاة والسلام لعلم الصحابي بذلك بداهة.

وقال بعض العلماء في جوابه: لو قيل: إن ظاهر سكوت النبي صلى الله عليه وسلم يدل على طهارتها لاحتج بذلك محتج وقال: يجوز لمن أخذ مزادة الخمر بعد تفريغها أن يصب فيها لبناً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بغسلها، فيكون الجواب بأنه سكت عن الأمر بغسلها للعلم به بداهة، وكما أننا في المشروبات نقول: سكت عنه للعلم به بداهة، كذلك في العبادات نقول: سكت عنه للعلم به بداهة، فهي نجسة، وأما صبها في سكك المدينة فقد بين العلماء أن هذا لا يدل على طهارتها؛ وذلك لأن الصحابة إذا صبوها في سكك المدينة ومشوا عليها بالنعال، فإن المشي على الأرض اليابسة يطهر النعال كما ذكرنا، ولو أن امرأة جرّت ثوبها على خمرة مراقة ثم مضت بعد ذلك إلى أرض يبسة؛ فإنها تطهره بذلك الجر، وبناءً على ذلك: لا يعتبر هذا دليلاً قوياً كما نبه عليه الشيخ الأمين رحمة الله عليه، وله فيه بحث نفيس في تفسير آية المائدة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ [المائدة:90] فأقوى الأقوال وأعدلها القول بنجاستها.

وقال بعض العلماء مستدلاً على طهارة الخمر: إن الله تعالى يقول: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:21] فوصف الخمر بكونها طهور؛ وقد فاته أن الله حكم بأن خمر الآخرة لا غول فيها، والغَول: هو أساس نجاسة الخمر في الدنيا، فنجاسة الخمر في الدنيا مبنية على وجود هذه المادة التي تستحيل عند الخل، ولذلك لما استحالت هذه المادة في الخمر حكمنا بطهارتها، ولما كانت خمر الآخرة طاهرة من جهة عدم وجود الغول فيها قال تعالى: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:21] وقلب بعض العلماء هذا الاستدلال فقال: بل هو دليل على نجاستها؛ لأنه لو كانت خمر الدنيا والآخرة مستويان لما قال: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:21].

حكم تخلل الخمر

قال رحمه الله: [فإن خُلّلت أو تنجس دهن مائع لم يطهر].

لو أن إنساناً علم أن هذا الوعاء فيه خمر، فتخللت هذه الخمر -بمعنى: استحالت وصارت خَلاً- فلا تخلو صيرورتها إلى الخَل من حالتين:

الحالة الأولى: أن تتخلل بنفسها.

والحالة الثانية: أن تتخلل بفعل المكلف.

فإن تخللت بنفسها؛ فإنها تطهر وتعتبر طاهرة؛ لدليل الشرع، كما في الصحيح من حديث مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نعم الإدام الخَل) فأثنى عليه، والثناء يدل على أصل الإباحة، فأجاز لك أن تأتدم بالخل، والخل أصله خمر، وإذا ثبت هذا فإنها إذا تخللت بنفسها طهرت على ظاهر هذا الحديث.

وقد يقول قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم أثنى على الخل مطلقاً، سواء تخلل بنفسه أو تخلل بفعل المكلف؛ فجوابه ما رواه أحمد وأبو داود : (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تخليل الخمر، فإنه لما سُئل عن تخليلها نهى عن ذلك، وقال: لا) وأمر أبا طلحة في خمر الأيتام أن يريقها وأن يكسر الدِّنَّان -وهي: أوعية الخمر- ومعلوم أن هذا مال أيتام، فلو كانت الخمر تتخلل بفعل المكلف لقال له: خللها؛ لأنه مال يتيم يحفظ ولا يراق إذا أمكن استصلاحه، فإذا ثبت هذا فيقال في الخمر في تخللها: إنها لا تخلو من حالتين:

إن تخللت بنفسها حكم بطهارتها على ظاهر السُّنة، وإن تخللت بفعل المكلف فلا يحكم بطهارتها ولا بجواز الانتفاع بها على ظاهر حديث السنن.

قال رحمه الله: [فإن خُلّلت أو تنجس دهن مائع لم يطهر].

لو أن إنساناً علم أن هذا الوعاء فيه خمر، فتخللت هذه الخمر -بمعنى: استحالت وصارت خَلاً- فلا تخلو صيرورتها إلى الخَل من حالتين:

الحالة الأولى: أن تتخلل بنفسها.

والحالة الثانية: أن تتخلل بفعل المكلف.

فإن تخللت بنفسها؛ فإنها تطهر وتعتبر طاهرة؛ لدليل الشرع، كما في الصحيح من حديث مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نعم الإدام الخَل) فأثنى عليه، والثناء يدل على أصل الإباحة، فأجاز لك أن تأتدم بالخل، والخل أصله خمر، وإذا ثبت هذا فإنها إذا تخللت بنفسها طهرت على ظاهر هذا الحديث.

وقد يقول قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم أثنى على الخل مطلقاً، سواء تخلل بنفسه أو تخلل بفعل المكلف؛ فجوابه ما رواه أحمد وأبو داود : (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تخليل الخمر، فإنه لما سُئل عن تخليلها نهى عن ذلك، وقال: لا) وأمر أبا طلحة في خمر الأيتام أن يريقها وأن يكسر الدِّنَّان -وهي: أوعية الخمر- ومعلوم أن هذا مال أيتام، فلو كانت الخمر تتخلل بفعل المكلف لقال له: خللها؛ لأنه مال يتيم يحفظ ولا يراق إذا أمكن استصلاحه، فإذا ثبت هذا فيقال في الخمر في تخللها: إنها لا تخلو من حالتين:

إن تخللت بنفسها حكم بطهارتها على ظاهر السُّنة، وإن تخللت بفعل المكلف فلا يحكم بطهارتها ولا بجواز الانتفاع بها على ظاهر حديث السنن.


استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3704 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3620 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3441 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3374 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3339 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3320 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3273 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3228 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3185 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3169 استماع