شرح زاد المستقنع باب إزالة النجاسة [1]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [باب إزالة النجاسة]

الإزالة: المحو، وزوال الشيء: ذهابه.

(النجاسة) النجاسة: مأخوذة من النجس، وهو الشيء المستقذر، والمراد بها: النجاسة الشرعية، أي: التي حكم الشرع بقذارتها ووجوب أو لزوم إزالتها لعبادة الصلاة ونحوها كالطواف بالبيت.

ما مناسبة هذا الباب للباب الذي قبله؟ الجواب: تكلمنا عن الوضوء ونواقضه، ثم عن الغسل، ثم تكلمنا عن التيمم، فنلاحظ في هذه الأبواب الماضية أنها اشتملت على عبادة الوضوء والغسل، ثم على البدل عنهما وهو التيمم، ثم بعد ذلك شرع رحمه الله بقوله: (باب إزالة النجاسة) وهذا نوع جديد من الطهارة، فالنوع الأول الذي هو الوضوء والغسل والتيمم هو طهارة الحدث، والنوع الثاني الذي معنا الآن هو طهارة الخبث، فعلى المكلف أن يعتني بهذا الباب؛ لأمر الشرع بإزالة النجاسة للصلاة ونحوها مما يشترط له الطهارة كالطواف بالبيت، والأصل في هذا الباب دليل الكتاب والسُّنة وإجماع الأمة.

الأدلة على وجوب إزالة النجاسة

أما دليل الكتاب: فإن الله عز وجل قال لنبيه: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4] فأمره بتطهير ثيابه عند قيامه للصلاة أو إرادته القيام للصلاة، قالوا: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4] أمر، والأمر للوجوب، فدل على وجوب تطهير الثياب والملبوس للعبادة وهي الصلاة، هذا بالنسبة لطهارة الثوب.

وكذلك إزالة النجاسة دل عليها دليل السُّنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغسلي عنك الدم وصلي) وقال في بول الأعرابي: (أريقوا عليه سَجْلاً من ماء) وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاثاً) فهذه النصوص كلها قصد منها إزالة النجاسة، وإزالة النجاسة إما من ثوب أو من بدن أو من مكان، فالشرع ألزم المكلف إذا أراد أن يصلي أن يكون طاهر الثوب والبدن والمكان، ولذلك يَنْصَب كلام العلماء ومسائل الناس في النجاسات على نجاسة الثوب أو البدن أو المكان.

أما نجاسة البدن: فدل على لزوم إزالتها قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه -لشبهة- فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده) فأمر بتطهير البدن والثوب: دليله ظاهر قوله تعالى: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4] وقوله عليه الصلاة والسلام: (حُتيه ثم اقرصيه بماء) يدل على تطهير الثوب، وكذلك يدل على تطهير الملبوس من حذاء ونحوه، أنه لما صلى النبي عليه الصلاة والسلام في النعلين ثم قام بخلعهما أثناء الصلاة قال: (أتاني جبريل فأخبرني أنهما -أي: النعلين- ليستا بطاهرتين) فدل على أنه لا يُصلى إلا في حذاء طاهر.

وثبت أيضاً في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (فإن جاء إلى المسجد فليصل فيهما -يعني: في نعليه- فإن وجد بهما أذى فليدلكهما بالأرض ثم ليصل فيهما) فهذا يدل على تطهير الملبوس، ولكنه بنوع آخر من الطهارة وهي الطهارة الترابية الجامدة.

أما تطهير المكان الذي يصلي عليه الإنسان: فيدل على لزوم طهارته قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين من حديث أبي هريرة لما بال الأعرابي في المسجد: (أريقوا عليه سَجلاً من ماء) فأمر بتطهير المكان، فهذه النصوص تدل على إزالة النجاسة في الثلاثة المواضع: البدن، والثوب، والمكان.

الماء أصل في إزالة النجاسة

أصل الطهارة بالماء، وتكون إزالة النجاسة إما بالماء أو بما في حكم الماء في صور مخصوصة، فإزالة النجاسة بالماء هي الأصل؛ لأن الله تعالى بيّن في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن الماء أصل المطهرات؛ فقال تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48] أي: طاهراً في نفسه مطهراً لغيره، وقال عليه الصلاة والسلام في ماء البحر: (هو الطهور ماؤه) فدل هذا على أن الماء هو الأصل في التطهير، ويدل على ذلك جلياً قوله عليه الصلاة والسلام: (واغسله بماء وثلج وبرَد) فجعل حتى التطهير بالماء مقدماً على غيره، فدل على أن التطهير في الأصل بالماء، ثم قد يكون التطهير بشيء في حكم الماء في صور مخصوصة، ومثال ذلك: طهارة الخارج من السبيلين تكون بالتراب أو بالحصى، أو تكون بالمنديل، وذلك في الاستجمار، فإن الإنسان إذا قعد فبال أو تغوط جاز له أن يأخذ منديلاً ويزيل ما ثمّ، فإذا فعل ذلك طَهُرَ الموضع؛ لأن طهارته بغير الماء في هذه الصورة المخصوصة أذن الشرع بها، فعلى العموم: الطهارة إما أن تكون بماء، وإما أن تكون بما في حكم الماء في صوره المخصوصة.

إزالة النجاسة من الأرض بغسلة واحدة

قال رحمه الله: [يجزئ في غسل النجاسات كلها إذا كانت على الأرض غسلة واحدة تذهب عين النجاسة]

(يجزئ) أي: يكفي المكلف وتعتبر ذمته بريئة إذا فعل ذلك، ويجزئه هذا في تطهير النجاسة إذا كانت على الأرض، مثال ذلك: لو وقع بول على أرض مسجد وكانت الأرض من تراب، فإنه يجزئ في إزالة تلك النجاسة أن يصب المكلف صبة من ماء تكون أكثر من النجاسة، أما إذا كانت مثلها أو دونها فإنها لا تجزئ، وإنما تزال النجاسة بالمكاثرة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أريقوا عليه سَجلاً من ماء) أي: على بول الأعرابي، وفي رواية: (دلواً من ماء) فوجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال: أريقوا عليه ماءً ولكن قال: (سجلاً) فدل على أن المكاثرة مطلوبة، وأنه لا يكفي أن تصب أي ماء، فلو بال إنسان -مثلاً- في مسجد، وجاء رجل بمغراف من ماء، فإن المغراف إذا صب على النجاسة فإنه سيتأثر بملاقاتها، ولذلك لا يعتبر مجزئاً في تطهير هذه النجاسة، بل لا بد أن يكون الماء أكثر من النجاسة المصبوب عليها، ووجه ذلك في قوله: (سجلاً) فإن السجل هو الدلو، وقال بعضهم: إنه دلو كبير، وإن كان ظاهر الحديث أن السجل هو الدلو المعتاد، فإن الدلو إذا صببته على بول سيكون أضعاف البول، وهذا يدل على أن النجاسة تزال بالمكاثرة وليس بمجرد صبة واحدة مطلقاً، بل لابد أن تكون مكاثرة بحيث يغلب على ظنك أنها تزيل النجاسة، وهذا من سماحة الشريعة ويسرها ورحمة الله عز وجل بالعباد، فإنك إذا نظرت إلى النجاسة وقد أصابت الأرض الترابية في مسجد أو في غرفة والأرض ترابية فلا يمكن للمكلف أن يقتلع الأرضية ويغسلها كما يغسل ثوبه، فإن في ذلك مشقة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أريقوا عليه سجلاً من ماء) فدل هذا على سماحة الشريعة ويسرها، وهذا النوع من النجاسات يجزئ فيها صب الماء صبة واحدة، لكن بشرط أن يكون على سبيل المكاثرة.

وقوله: (غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة).

(غسلة واحدة) لقوله عليه الصلاة والسلام: (أريقوا عليه سجلاً من ماء) فلم يشترط سجلين أو ثلاثة.

(تذهب بعين النجاسة) فلو صب أقل من النجاسة أو مثلها بحيث لا يغلب على الظن زوالها، فيلزمه أن يزيد حتى تكون أكثر من صبة؛ لأن الشرع قصد إزالة النجاسة، فإن بقي أثرها كان صب الماء وعدمه على حد سواء، ولذلك لابد أن يكون الماء المصبوب أكثر من النجاسة حتى تحصل غلبة الظن، وهذا كله إذا كانت الأرض ترابية، أما لو كانت الأرض من القماش فإنه لابد من إزالة النجاسة مثل إزالتها من الثوب، فيرفع القدر الذي أصابته النجاسة، ويصب عليه الماء على نفس الطريقة، ثم يعصره إذا أمكن عصره، وإذا لم يمكن عصره مثل ما هو موجود الآن من السجاد فحينئذٍ نقول: يصب الماء على البساط ثم يسحب ويشفط ثم يصب مرة أخرى ويجفف حتى يغلب على الظن أن النجاسة قد زالت، لأن مكاثرة الصب تذهب عين النجاسة وأثرها.

كيفية تطهير الإناء إذا ولغ فيه كلب

قال رحمه الله: [وعلى غيرها سبع، إحداها بتراب في نجاسة كلب وخنزير].

عندنا النجاسات إما مخصوصة وإما عامة، فالنجاسة التي تقع على أرض المسجد صورة مخصوصة يصب عليها الماء صباً، ولا يشترط عصر ذلك كما ذكرناه.

ثم يليها من المخصوصات نجاسة الكلب والخنـزير: أما نجاسة الكلب؛ فورد فيها حديثا أبي هريرة وعبد الله بن مغفل الثابتان في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات) في رواية (إحداهن) وفي رواية: (أولاهن بالتراب) وفي رواية: (وعفروه الثامنة بالتراب) وهذا الحديث دل على مسائل:

المسألة الأولى: إذا ولغ الكلب في الإناء -والولوغ: هو إدخال رأسه وشربه من الإناء- وشرب منه، وكذلك لو لم يكن في الإناء ماء وجاء كلب ولحس والرطوبة موجودة بلسانه فنقول: لقد ولغ فيه، فطهارة الإناء بفعل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب) وفي رواية: (إحداهن) وفي رواية: (وعفروه الثامنة بالتراب) ثلاث روايات.

أما رواية: (أولاهن) فصورتها: فإن تأخذ كفاً من تراب وترميه في هذا الإناء الذي أدخل الكلب رأسه وولغ فيه، ثم إذا رميت هذا الكف من التراب صببت الصبة الأولى من الماء ثم الثانية ثم الثالثة... إلى السابعة، فبذلك يطهر الإناء.

أما رواية: (إحداهن) فهي مطلقة، فإن شئت صببت الماء في الأولى ثم رميت التراب في الثانية وصببت الصبة الثانية من الماء.

أما رواية: (عفروه الثامنة) فهي محل إشكال، فقال بعض العلماء: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (عفروه الثامنة) معناه: أنه بعد غسله سبع مـرات يصب التراب ثم يحتاج إلى ماء بعد التراب، وهذا قول شاذ قال به بعض السلف، والصحيح: أن قوله صلى الله عليه وسلم: (عفروه الثامنة بالتراب) أنها ليست غسلة ثامنة في الترتيب، وإنما هي ثامنة من حيث العدد، فإنك إذا وضعت التراب في الأولى ثم صببت الماء سبع مرات، فإن حسبت وضع التراب صبة مستقلة صارت ثامنة، وهذا هو الصحيح، وليس المراد بالثامنة أنها تقع في الترتيب ثامنة، وبناءً على ذلك أخذنا من الحديث أموراً:

الأمر الأول: وجوب غسل الإناء سبعاً وتعفيره الثامنة بالتراب على الصفة التي ذكرناها، وذلك عند حصول الولوغ، أما لو أن كلباً أدخل رأسه فقط ولم يحرك لسانه، فإنه لا يجب الغسل ويبقى الإناء على أصله من كونه طاهراً، أي: ليست القضية أن يدخل رأسه فقط، لا بل لا بد من أن يلغ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ) فقيّد ذلك بوجود الولوغ، وبناءً على ذلك: إذا أدخل رأسه ولم يحرك لسانه فهذا لا يعتبر ولوغاً ولا يوجب الغسل سبعاً والثامنة بالتراب.

إذا ثبت أن الكلب يجب غسل ما ولغ فيه سبعاً والثامنة بالتراب، فهنا يرد السؤال: هل الحكم مخصوص بالكلب فقط أو يقاس عليه غيره؟

قال بعض العلماء: يقاس على الكلب غيره، فلو أن خنـزيراً أدخل رأسه وولغ في الإناء فإنه يغسل سبعاً والثامنة بالتراب، وهذا مذهب الحنابلة وهو قول مرجوح، والصحيح: أن الحكم -كما يقول الجمهور- يختص بالكلب، وأما الخنـزير فإنه لا يأخذ هذا الحكم، والمصنف عمل بالقول المرجوح، والراجح أن الحكم ورد في الكلب، وأما الخنزير فلا يأخذ حكمه، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم -رغم أن الخنزير كان موجوداً في زمانه- قال: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب) وما قال: والخنزير وإنما قال: الكلب، وهذا يدل على أن الحكم يختص بالكلاب ولا يقاس عليها غيرها.

حكم استخدام الأشنان في التطهير من ولوغ الكلب

قال رحمه الله: [ويجزئ عن التراب أشنان ونحوه]

(ويجزئ عن التراب) قد قررنا أنه لا بد من التراب في الغسل، فلو أنه لم يجد تراباً، كمن يكون في أرض جبلية، وأراد أن ينتفع من هذا الإناء المولوغ فيه وليس عنده تراب، فما هو الحكم في ذلك؟

الحكم: أن يُنَزَّل الأُشنان منزلة التراب، فيغسله بالأُشنان مع الماء، وهذا على القول بأن الحكم معلل، فإن في الكلب جراثيم يبالغ في تطهيرها على هذا الوجه، ولذلك قالوا: إن الأشنان يقتل الجراثيم كقتل التراب لها وإن كان هناك فرق بين قتل التراب وقتل الأشنان، فإن التراب أبلغ وأقوى في قتل الجراثيم، ولذلك يقولون: إن تخصيص الشرع به أقوى، حتى أن الأطباء الآن يعتبرون التطهير مع الماء من إعجاز الشرع؛ لأن التراب معرض للشمس، وطهارة التراب ونقاؤه من الجراثيم من أكثر الموجودات على سطح الأرض، فإن التراب أبلغ طهارة والماء أقل منه، ولذلك تجد الشرع قد جعل التراب أبلغ في تطهير أو قتل الجراثيم من الماء، وهذا من إعجاز الشرع.

وللعلماء في تنزيل الأشنان منزلة التراب ثلاثة أقوال:

القول الأول: لا يُجزئ عن التراب غيره سواءً وجد التراب أو لم يوجد، وبهذا القول قال طائفة من العلماء رحمة الله عليهم، وهو قول في مذهب الشافعية والحنابلة رحمة الله على الجميع.

القول الثاني: يُجزئ عن التراب غيره من سائر المنظفات، فلو أردت أن تغسله بماء وصابون أجزأت غسلة الصابون -وكذلك بقية المطهرات- عن التراب كما ذكر المصنف رحمه الله: (الأُشنان) بالضم، والأشنان المراد به: نوع من المنظفات، وفي حكمه المطهرات الموجودة الآن، فعند أصحاب هذا القول أنه يُجزئ أن تغسل الإناء سبع مرات بالماء، وأن تكون ضمن هذه الغسلات غسلة بمنظف، سواءً كان صابوناً أو غيره من المنظفات، وهذا القول هو الوجه الثاني عند الشافعية، وكذلك عند الحنابلة رحمة الله عليهم، وقد درج عليه المصنف حيث قال: (يُجزئ عن التراب أُشنان وغيره).

والقول الثالث: أنه إن وجد التراب فلا يُجزئ غيره عنه، وإن لم يوجد فإنه يُجزيء غيره عنه، وهو أعدل الأقوال وأولاها بالصواب -إن شاء الله تعالى- وهو وجه عند الشافعية رحمة الله عليهم، فإذا ثبت هذا فيستوي في الحكم بالمطهر سائر المنظفات سواء كانت من صابون أو أُشنان قديم، فما دام أنه يُنظف ويُنقي؛ فإنه يُجزئ عن التراب إذا فُقد التراب، وهذا محصل أقوال العلماء رحمة الله عليهم في إجزاء غير التراب عن التراب في مسألة ولوغ الكلب.

كيفية إزالة النجاسة غير الكلب والخنزير

قال رحمه الله: [وفي نجاسة غيرهما سبع بلا تراب]

أي: غير الكلب والخنزير، فلو أن إنساناً كان عنده ثوب فوقعت عليه نجاسة من غير كلب أو خنـزير؛ فكيف يتم تطهير هذه النجاسة؟

للعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال:

القول الأول يقول: كل شيء وقعت عليه النجاسة من غير الكلب والخنزير فيجزئ أن تصب عليه صبةً واحدة تذهب عين النجاسة وأثرها ويجزئك ذلك، وهذا القول اختاره غير واحد من أهل العلم، ونُسب إلى جمهور العلماء واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله على الجميع أن العبرة في إزالة النجاسة إذا وقعت على الشيء من غير الكلب أن تصب صبةً واحدة منقية منظفة؛ فحينئذٍ يجزئك ذلك.

القول الثاني: لا يجزئ أقل من ثلاث غسلات، وهذا القول اختاره جمع من العلماء وهو وجه عند الحنابلة، واختاره الإمام الموفق ابن قدامة كما هو ظاهر عمدته، وأصحاب هذا القول يقولون: إذا وقعت النجاسة على الثوب وأردت أن تطهره فلابد من ثلاث غسلات: تصب الغسلة الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، فإذا أتممت الثلاث حكم بطهارة المحل، بشرط أن يذهب عين النجاسة وأثرها.

القول الثالث يقول: لابد في التطهير من سبع غسلات، فلو غسلت بأقل فإن المحل يبقى نجساً، وهذا كما درج عليه صاحب الزاد هنا، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد : أنك تغسل كل شيء تنجس سبع مرات.

ولكن عند النظر في أدلة هذه الأقوال الثلاثة يتخلص ما يلي:

الذين قالوا: تجزئ صبة واحدة، احتجوا بحديث بول الأعرابي، فإن الأعرابي لما بال في المسجد قال عليه الصلاة والسلام: (أريقوا على بوله سجلاً من ماء) فأمر بصبة واحدة، فقالوا: إنه إذا صب صبةً واحدة على الماء كان كمثل صب الماء على بول الأعرابي، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: صبوا عليه ثلاثاً ولم يقل: صبوا عليه سبعاً، وبناءً على ذلك يبقى المطلق على إطلاقه، فيجزئ في سائر النجاسات أن يصب عليها صبةً واحدة.

كذلك أيضاً استدلوا بدليل العقل، قالوا: الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فنحن نحكم بنجاسة الثوب لوجود النجاسة، فإذا صببت صبة واحدة وذهبت النجاسة؛ فقد زالت العلة التي من أجلها حكم بتنجس الثوب، فينبغي أن يزول الحكم، ونقول: الثوب طاهر بصبة واحدة.

والذين قالوا: لابد من الثلاث لهم دليلان:

الدليل الأول: وهو حديث أبي هريرة : (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاثاً قبل أن يدخلها في الإناء) كما هي رواية مسلم في صحيحه، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل اليدين ثلاثاً قبل إدخالهما الإناء؛ فدل على أن النجاسة لا تزول إلا بثلاث غسلات، ويقولون: الغسلة الأولى تذهب عين النجاسة، والغسلة الثانية توجب الاستبراء لذهاب الأثر، والغسلة الثالثة استبراء للمحل، والحق أنك إذا غسلت ثلاثاً فإنك ترى أن النجاسة قد زالت في غالب الأحوال، والحكم في الشرع إنما يناط بالغالب.

أما الذين قالوا بالسبع فاحتجوا بحديث أيوب بن جابر -وهو حديث ضعيف- (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل النجاسة سبعاً).

وعند النظر نجد أنه لاشك أن القول الذي يقول بالتثليث في الغسل من القوة بمكان:

أولاً: لظاهر حديث أبي هريرة ، فإنك إذا نظرت في حديث أبي هريرة مع أن النجاسة مشكوك فيها، يقول: (فليغسل يديه ثلاثاً قبل أن يدخلهما في الإناء).

أما حديث الأعرابي الذي فيه صبة واحدة، فإنك إذا نظرت فيه فإنه ليس من قبيل الإزالة بالعصر، والإزالة في النجاسات التي يزال فيها عين النجاسة وأثرها بالعصر إنما يكون بالتثليث، أما في الأرض فإنه لا يتأتى فيها التكرار بمعنى: أنه إذا صب فكاثر الماء على البول؛ فإنه حينئذٍ يكون قد أزال النجاسة وأزال أثرها، فنستثني هذا الخاص من العام.

ومما يقوي دليل التثليث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من ذهب إلى الغائط أن يأخذ ثلاثة أحجار، وهذا يقوي الأصل الذي ذكرناه من التثليث، مع أن الذين يقولون بالصبة الواحدة فيهم من يقول: إنه يجب التثليث عند غسل اليدين وعند الاستيقاظ من النوم، فإذا كان التثليث واجباً في نجاسة مشكوكة، فمن باب أولى أن يكون واجباً في نجاسة متيقنة، ثم وجدنا النظير في الاستنجاء، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاستجمار بثلاثة أحجار، فهذا يقوي أن النجاسة تزول بثلاث غسلات، ثم إن شاهد الحس يشهد أن الغالب زوال النجاسة بالثلاث، وأن الصبة الواحدة لا تزيل النجاسة في الغالب إلا بالكثرة، فما دام أنها لا تزيل إلا بالكثرة؛ فالأفضل للإنسان أن يحتاط ويجعل الصبات متكررة؛ فبدلاً من أن يصب بكثرة صبة واحدة؛ فإنه يحتاط بالثلاث لورود الأمر بها، ثم وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم لما أسبغ الوضوء غسل كفيه ثلاثاً، فكان هذا أدعى للمداومة على التثليث في إزالة القذر والنجس.

هنا تنبيه: إذا قلنا: إن النجاسة تزول بمرة واحدة أو بثلاث أو بسبع؛ فاعلم رحمك الله أن الحكم محله ألا يبقى أثر للنجاسة، فلو فرض أن إنساناً غسل النجاسة ثلاث غسلات وما زالت باقية فعند ذلك تجب الزيادة، إذاً: ليس قول من قال: إنها مرة واحدة أو ثلاث أو سبع معناه أن الإنسان يصب دون أن يراعي زوال النجاسة من المحل.

والنجاسة تزال كليةً فلا يبقى لها عين ولا أثر، وقد تزال ويبقى أثرها، وقد تزول العين ويزول الأثر وتبقى الرائحة، ثلاثة أحوال:

الحالة الأولى: إما أن تزيل النجاسة فيذهب عينها، وتذهب رائحتها، ويذهب لونها الذي هو الأثر.

الحالة الثانية: إما أن تزيل النجاسة، فيذهب عينها دون رائحتها.

الحالة الثالثة: إما أن تزيل ويذهب عينها دون لونها.

فإذا أزال النجاسة ولم يبق منها عين ولا لون ولا رائحة؛ فبالإجماع أنه قد طهر المحل، لكن يبقى اشتراط التثليث والتسبيع عند من يقول به، ومعنى عين النجاسة: أي: لو أن إنساناً وقع على ثوبه جرم من عذرة آدمي -أكرمكم الله- فإن العين المراد بها: الجرم نفسه، وكذلك الدم، فإن عِلَقَ الدم هذه هي عين النجاسة.

أما اللون فهو حمرة الدم، أما الرائحة فهي رائحة الدم التي توجد فيه، ولكن يقول العلماء بعض النجاسات لونها أبلغ من ريحها، وبعضها ريحها أبلغ من لونها، وبعضها يجتمع فيها التأثير بأن تكون قوية الرائحة قوية اللون.

بناءً على ما سبق: فإنه ينبغي للمكلف أن يزيل عين النجاسة وأثرها ورائحتها، فلو بذل الوسع في التطهير كما هو الحال في الدم المتجلط أو اليابس الذي يكون على الثوب ربما بالغت بحكه ولكن يبقى شيء من الأثر وهو الصفرة المتحللة، وهي آخر الدم ولا تخرج إلا بصعوبة؛ فهذا مما يعفى عنه.

إذاً: بقايا الدم من الصفرة التي يصعب إزالتها حتى مع شدة العصر والفرك لا تضر، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم به الصحابية أن تحته وأن تقرصه بماء وأنه لا يضرها أثر ذلك الدم، وبناءً على هذا تبين عندنا أن النجاسة فيها مسائل:

المسألة الأولى: هل يشترط التكرار في تنظيفها؟ وقلنا في هذه المسألة ثلاثة أقوال: القول بأن العبرة بصب الماء دون التفات إلى عدد، وقول بالتثليث، وقول بالتسبيع، وأن الأقوى التثليث.

الأمر الثاني الذي نبهنا عليه في هذه المسألة: أن محل الخلاف ألا يبقى أثر للنجاسة، فإذا كان صب الثلاث وصب السبع وصب الواحدة يُبقي شيئاً من النجاسة فبالإجماع أنه مطالب بإزالة ذلك الأثر ولو بلغ إلى عشر صبات.

الأمر الثالث: أن النجاسة إما أن تكون قوية اللون والرائحة والعين، وهذه الحالة يجب فيها إزالة العين واللون والرائحة فإن بقي شيء من الرائحة أو اللون فلا يخلو من حالتين:

الحالة الأولى: أن يكون مما يشق زواله.

الحالة الثانية: أن يكون مما لا يشق زواله.

فإن كان مما يشق زواله عُذر المكلف فيه؛ وإلا فلا.