المنهج القرآني في عرض قضايا بني إسرائيل .. المرحلة المكية (2)
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
المنهج القرآني في عرض قضايا بني إسرائيل المرحلة المكية (2)
معالم قرآنية في الصراع مع اليهود
إن أية دعوة إصلاحية تقوم في مجتمع ما تستهدف تغيير الأسس الاجتماعية وإقامته حسب مفاهيم جديدة تقابل عادة بمراحل عدة، منها:
ب- مرحلة الترغيب والترهيب:
عندما يكثر أتباع الدعوة، ويشتد عودها، ويقبل عليها الناس وربما دخل بعث المقربين من الزعماء والأسياد في الدين الجديد، فيضطر الزعماء أن يصرفوا جزءاً من اهتمامهم لشأن هذه الدعوة الجديدة فيرسلوا بعض أتباعهم لمعرفة مقصد رائد الدعوة، ولمساومته على الأهداف التي يرمي إلى تحقيقها.
وهذا ما يفسره لنا اتصالات قريش المتكررة وهم يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مقصده من هذه الدعوة، ويطلبون منه تركها مقابل السيادة أو جمع المال أو الزواج من أجمل الفتيات[1].
وفي هذه المرحلة تكون الآيات الكريمة مقررة لعقيدة التوحيد وللمبادئ التي جاء بها الرسل، وداعية إلى الالتزام بأمهات الأخلاق الكريمة وعدم الاغترار بحطام الدنيا، وفي نفس الوقت تشدد النكير على الطغاة العتاة الذين يصمون آذانهم عن دعوة الحق ولا يرفعون لها رؤوسهم.
نجد ذلك في كثير من السور المكية، فتقرر موضوع الوحي والمنافحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نجدها مثلاً في سورة التكوير كما في قوله تعالى: ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [2] وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [التكوير: 15 - 29].
إن تقرير حقيقة الوحي وطبيعة الرسول المرسل إليهم وأنه من البشر، وأنه يتحلى بالصفات الخلقية العالية، وأنه يتصف بالكمالات البشرية وليست غايته الدنيا وحطامها ولا الاستعلاء في الأرض، وإنما مهمته إنقاذ البشرية من ضلالاتها وتيهها إلى صراط ربها القويم، كما نقرؤه في سورة النجم في قوله تعالى: ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ﴾ [النجم: 1 - 12].
إن إزالة اللبس من أذهان الناس، والارتقاء بهم إلى أفق الغيبيات وبيان أن هذا الكون مخلوق لحكمة، وأن الفوضى والعبث والصدفة بعيدة كل البعد عن الحكمة العليا في واقع الكون ونظامه الدقيق، فعلى البشر أن يدركوا أيضاً الحكمة من وجودهم في هذه الحياة الدنيا وعليهم أن يبحثوا عن دورهم بين المخلوقات العاقلة المكلفة فيها.
ومن خلال تقرير هذه الحقائق يأتي ذكر بني إسرائيل أيضاً كنماذج بشرية تعرضت للفتنة والاضطهاد فمنهم من انحرف وسقط في هذا الابتلاء ومنهم من صمد ونجح في الابتلاء.
ففي سورة النجم نقرأ قوله تعالى: ﴿ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ﴾ [النجم: 29 - 42].
إن تلك المبادئ مقررة في صحف موسى عليه السلام المرسل إلى بني إسرائيل فليرجعوا إليها إن كانوا في شك من أمر محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وكذلك في صحف إبراهيم عليه السلام وهم (أي قريش) يزعمون أنهم ينتمون إليه ويعظمون شرائعه التي توارثوها كما هو حالهم في القيام على سدانة الكعبة وخدمة الحجيج...
وتأتي سورة البروج لتعرض نموذجاً فريداً من الدعوة إنه نموذج المؤمنين الصامدين الذين يعذبون ويضطهدون في سبيل دعوتهم ولا يتحولون عنها ولو كان مصيرهم إلى الحرق ﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ﴾ [البروج: 4 - 12].
إنه تنبيه للمؤمنين بما ينتظرهم من الفتنة في دينهم وما قد يلحق بهم من أذى من الطواغيت ليعدوا أنفسهم لملاقاة هذه الأحداث وفي نفس الوقت لتحمل التهديد والوعيد لأولئك الطغاة الذين يفتنون المؤمنين والمؤمنات فإن بطش الله شديد وليعتبروا بمصير جند فرعون وثمود وأصحاب الأخدود التي انقلبت عليهم النيران فأحرقتهم في دورهم[3].
إنها التربية القرآنية حيث يؤتى بالحدث المناسبة للمرحلة المناسبة لتأخذ النفس منها العبرة.
وتأتي سورة القمر لتلقي أضواءً على حقائق أخرى من مشاهد يوم القيامة وحشرهم كالجراد المنتشر، ولتتحدث عن مصير مجموعة من الأقوام قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون من الذين كذبوا بآيات الله فماذا كان مصيرهم، فيا معشر قريش ﴿ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ﴾ [القمر: 43 - 45].
وفي سورة (ص)، و(يس) و(مريم) و(طه) عرض نماذج من قصص الأنبياء مع أقوامهم وما أصابهم من الفتنة والابتلاء وكيف أوذوا فصبروا، وبيان سنة الله تعالى في أولئك المتحزبين المناهضين لدعوة الحق ﴿ جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 11 - 17].
إنها إشارة ذات دلالة تربوية عميقة لأتباع الدين الجديد أتباع دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - مأخوذة من سيرة هؤلاء الأقوام الذين تحزبوا ضد دعوة الحق لقد كذبوا أنبياءهم فحق عليهم كلمة العذاب وانتصر أهل الحق عليهم.
لم يسلم أحد من الأنبياء من إيذاء الأقوام مهما كانت مكانتهم وعزتهم في مجتمعاتهم، فلئن كان نوح وهود وموسى وصالح ولوط وشعيب من عامة الناس، فما قولك في داود صاحب القوة والسلطة والملك، الذي كانت معجزاته بارزة للعيان من تسبيح الجبال معه وحشر الطير لسماع مزاميره وتلاوته...
ماذا تقول عنه بنو إسرائيل وماذا دونوا في كتبهم عن سيرته، إنهم لم يتركوا نقيصة إلا ألصقوها به[4].
وهو النبي العابد الأوّاب.
فما يقوله المشركون من قريش عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنه يريد الزعامة في قومه أو يبتغي بذلك الجاه والمال والحظوة عند النساء...
إلخ.
لا يستغرب من أهل الباطل.
ومثل ذلك ما قالوه عن مريم البتول وعلى ابنها السلام، وقد أورد القرآن الكريم قصة حملها وولادتها والخوارق التي حصلت لهما حيث جعلها وابنها آية للعالمين ﴿ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ﴾ [مريم: 21].
فإذا كان هذا شأن بني إسرائيل مع أنبيائهم وهم أهل الكتاب وبين أيديهم التوراة ﴿ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ ﴾ فلا غرابة أن يقولوا عن دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ما تمليه عليهم أهواؤهم وأحقادهم، ولا غرابة أن تقول قريش عن دعوة الحق ما يدل على ضلالها وجهلها إنها تهيئة للنفوس وتثبيت لها على الحق لملاقاة أعداء الله المفترين المكذبين من المشركين ومن أهل الكتاب.
ولم يكن هذا موقفهم من الأنبياء الذين كذّبوهم ولم يؤمنوا بهم.
بل كانت لهم مواقف غريبة ومشينة مع أعظم أنبيائهم الذين يفتخرون بنسبتهم إليه وهم يزعمون أنهم أهل كتابه الذي أنزل عليه وحملة شرائعه وهداياته إنه نبيهم موسى عليه السلام أعظم أنبياء بني إسرائيل قاطبة.
وتذكر لنا سورة طه كيف كان الحال معه وما عاناه من سفههم وتمردهم على أوامر الله وعصيانهم المتعمد.
فما كاد موسى عليه السلام يغادرهم لمناجاة ربه وقد ترك بين ظهرانيهم أخاه هارون ليصلح من شأن القوم ولا يتبع سبيل المفسدين، إلا وتآمروا عليه وجمعوا زينة القوم ليخرج لهم السامري عجلاً جسداً له خوار فيقوم الناس بالطواف به لعبادته وليقولوا كلمتهم الكبيرة ﴿ هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ﴾ [طه: 88].
ولما جوبه بالحقيقة واستدعي السامري ليسأل عن الدافع له على هذا التصرف السفيه، قال ﴿ وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ﴾ [طه: 96] إن قوماً يصل بهم السفه إلى هذا الحد من الزيغ والضلال والإفساد، فهل يؤمن جانبهم، ويتوقع منهم الخير أو مناصرة الحق.
لقد كان لقصص بني إسرائيل في هذه المرحلة المكية المتقدمة آثار بعيدة الدلالة في تكوين الشخصية الإسلامية المتميزة عن هذه الطوائف والنحل.
[1] انظر في ذلك سيرة ابن هشام بحاشية الروض الأنف 2/36، وتفسير ابن كثير 4/90.
[2] التعبير بكلمة ﴿ صَاحِبُكُمْ ﴾ في هذا الموطن وفي غيره من مواطن الدفاع عن شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له دلالته البرهانية الضمنية، فقد رافقوه طويلاً وصاحبوه فهل علموا فيه خللاً عقلياً أو نفسياً!!.
[3] انظر تفسير ابن كثير 4/495 ومن المعلوم أن قضية أصحاب الأخدود كانت معلومة لقريش حيث وقعت في نجران جنوب غرب الجزيرة العربية، وكانت الفتنة للنصارى على يد اليهودي ذي نواس.
[4] نسب التلمود المزوّر إلى داود فعل الفاحشة والتآمر على قتل قائده أوريا وغير ذلك من الافتراءات والبهتان العظيم، مما يترفع عن مثله جهلة الناس فضلاً عن الصالحين، فكيف يقال ذلك عن الأنبياء المعصومين عليهم صلوات الله وسلامه.
انظر في ذلك ما ورد في سفر صموئيل الثاني الإصحاح 11 ص 498.