كيف ساد هذا الدين (2)
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
كيف ساد هذا الدين (2)أسباب أرضية:
"صاحب الرسالة سيد الخلق أجمعين محمد بن عبدالله":
ولقد قلنا: إننا لن نستطيع حصرًا لمناقب صاحب الرسالة أيضًا؛ لكن يكفينا شهادةُ التقدير السامية التي منحَها إيَّاه مولاه، وخُلِّدت بخلودِ القرآن، وهي قولُ ربنا في سورة القلم: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، شهادة لم ينَلْها مِن قبلِك يا رسولَ الله نبيٌّ، ولم تُتَحْ لغيرِك؛ فأنت سيدُ خلق الله كافَّة، ولا يفوتُنا أن ننوِّهَ إلى لفتةٍ عظيمةٍ ممَّن عنده جوامعُ كلِّ بيان، وبيده كلُّ قدرة، فتلك الشهادةُ قد مُنِحت لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم خُلقًا، لا جسمًا ولا رسمًا؛ لعلَّنا أن ندرك أن صلاحَ كلِّ رعيَّة وراعٍ خلقٌ عظيمٌ، فمتى ذهبت أخلاقُهم ذهبوا، وإنَّا في تلك المُعضِلة الآن لمُغرَقون؛ إذ إن أخلاقَنا صارت تتطبَّع بخلائق غيرِنا، نسأل الله مردًّا لخُلقِ الدين الحنيف، وقناعةً بأننا أصحاب رسالة سامية.
والنبيُّ الأكرم قد حباه الله العِلمَ والفطنة والكياسة، وعلَّمه ما لم يَكُنْ يعلمُ، وكان فضلُ الله عليه عظيمًا؛ فنال العصمةَ التي هي "الحصانةُ السماويةُ، والعناية الإلهيَّة"، فلا يَتَّبِعُ الهوى، وهو مَن زكَّاه ربُّه في سمعه وبصره.
وعتابُ اللهِ لأنبيائه بشكل عام يكون أشدَّ من أيِّ بشرٍ؛ فهم الصفوةُ، وأولو العصمة و﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى ﴾ [عبس: 1] خيرُ شاهدٍ؛ فصلِّ يا رب على سيدنا محمَّدٍ المُكمَّلِ المُطهَّر، ولعلَّ ممَّن يَذكُرُ أو يُذكِّرُنا بقول ربِّنا: ﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [آل عمران: 159]، ألَا تذكُرون معي قصةَ الشاب الذي دخل على النبيِّ صلى الله عليه وسلم في المسجد، وقال له: ائذَنْ لي في الزنا، كيف عامله النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو الأعرابي الذي بال بساحةِ المسجد أطهر البقاع؟ الأمثلة كثيرة وعديدة، وسبحان مَن أحاط علمُه بكل شيء، ولم يغادر من شيء.
ومع نماذجَ بسيطةٍ مما أقرَّ به مَن ليسوا من بني جلدتنا في حق محمد صلى الله عليه وسلم، وما محمد صلوات ربي عليه بحاجةٍ لذلك، وإن تزكيةَ ربِّنا له لَتكفيه؛ لكن تذكرة وفضل مما شهد به الآخَرون:
1- الأديب البريطاني جورج ويلز: محمد أقوي مَن أقام دولةً للعدل والتسامح.
2- غوستاف لوبون المؤرخ الفرنسي: محمد أعظمُ رجالات التاريخ.
3- كارليل الكاتب الإنجليزي: إني لأحبُّ محمدًا؛ لبراءة طبعِه من الرياء والتصنُّع.
4- المهاتما غاندي الزعيم الهندي: محمدٌ يملك بلا منازع قلوبَ ملايين البشر.
5- ويل ديورانت صاحب كتاب قصة الحضارة: محمدٌ أعظم عظماء التاريخ.
6- الأديب الروسي تولستوي: شريعةُ محمدٍ ستسودُ العالمَ؛ لانسجامها مع العقل والحكمة.
7- مايكل هارد صاحب كتاب "الخالدون المائة": محمدٌ هو الرجل الوحيد الذي نجح على المستويَيْن: الدينيِّ، والدنيويِّ.
وغيرهم الكثير ممن قرؤوا عن محمدٍ ولم يرَوْه، فكيف لو كانوا قد رَأَوْه؟! وإن كان منهم مَن ليحجِّم مكانةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في مجردِ عبقريةٍ، أو حسن سياسةٍ أو قيادة، أو إدارة جيشٍ، أو إنفاذ غزوةٍ، ولكن هذا ما وصل إليه ظنُّهم وفكرُهم من مقوِّمات النجاح.
أما نحن المسلمين، فنعرفُ أن محمدًا نعمةٌ من الله وفضل، ونذكر قولَ ربِّنا في شأنه: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ﴾ [سبأ: 28]، وقوله في سورة النحل: ﴿ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [النحل: 83].
وتلك أمثلة وَدِدْتُ ذكرَها، فيا أيها المستغربون أفيقوا، لا يخدعنَّكم نصوعٌ وظهور لمن تتبعون؛ إنهم منا قد نالوا كلَّ مَحْمدةٍ، فعملوا بها ونحن الغافلون عن منابعنا الأصيلة!
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كان رحمةً مهداةً للبريَّة كلِّها، وما كان ليكون خلافًا لما أُرسِلَ له أو أرسل به؛ فلقد علَّمَنا الرِّفقَ في كل شيء، وفي الحديث المعروف: ((ما خالط الرفقُ شيئًا إلا زانه...)) إلى آخر الحديث - إشارةٌ قوية لمن يشُقُّون على أنفسهم وأهليهم في التعليمات والنصائح ألَّا يفرطوا فيتشبهوا بمَن خلْفَهم من الأمم، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأدخلُ الصلاة أريد إطالتها؛ فأسمع بكاء الصبي؛ فأخفف من شدة وَجْدِ أمِّه به)).
ما أروعَك يا نبيَّ الرحمةِ! ما أحوجَ الخلقَ قاطبةً لسنَّتِك الغالية، ومنهاجك القويم، الذي إن اتَّبعناه استقامت لنا الأمور، كما تستقيم الأرض الوعرة للحفاة المشاة ليلًا!
ولو أردنا استرسالًا لنبيِّ الرحمة ما وفَّيْنا، لكننا كما ألفينا نأخذ من قشورِ القشور سنا البدورِ، وأريج الحدائق.
الوسطيَّة:
حبة أخرى في حبات هذه المسبحةِ الرائعةِ، بل هي من عُمَد مقوِّمات سيادتِها، ولا يعي ويدرك هذه المنَّةَ، ولا تلك المنحة والخصيصة الغالية، إلا مَن أَوْغَل في الديانات الأخرى، ورأى كيف أن الرهبانيَّة المُبتدَعة جرَّت أصحابَها وأتباعها إلى أن أُحيطَ بهم، وثارت عليهم الثائرةُ، وتمَّ فصلُ الدين عن الدولة، ومجانبة الدين للمعاملات والتعاملات، وأيضًا المادية الطاغية التي أدَّتْ بشدة للسابق ذكره؛ فأصبحت المادةُ أساسَ كلِّ أساسٍ، وتنحَّتِ المشاعر والأخلاقيَّات، وبات أهلوها وذووها كأنهم بطونٌ مُستعِرة، لا يُطفِئها غيرُ النَّهم من الأموال والملذَّات؛ فجاءت الرسالةُ الخاتمةُ - رسالتنا نحن المسلمين - فارقةً معتدلةً؛ لا إلى الرَّهْبنةِ تميل، ولا إلى المادَّة تكيل، وسطٌ بين ذلك؛ فقُدِّر لها أن تسود؛ لما لها من مصداقية وحسن معالجةٍ لأمور الحياة والآخرة، ومسايرة للتقدُّم والعلم، ومجاراة الشؤون دونَ تهاونٍ في الثوابت، فارضة العدل، مسدلةً أستار الرحمة، وأيضًا متفقة مع العقل الراجح السليم المفكِّر غير المغيَّب.
وفي الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الدين يُسرٌ، ولن يُشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه؛ فسدِّدُوا وقارِبوا، وأبشِروا، واستعينوا بالغَدْوةِ والرَّوْحةِ، وشيء من الدُّلْجةِ))؛ رواه البخاري (39) ومسلم (2816)؛ أيُّ دين هذا، وأيُّ شِرعةٍ تلك؟!
• ولو ضربنا مثلًا من العبادات، نجد اللهَ يأمر نبيَّه والمسلمين كافَّة بقوله: ﴿ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 110]، والسبيل هنا هو الوسطُ بين الحالتَيْنِ، فما أروع الإسلام دينًا ورسالة!
والوسطيَّة لا تعني التهاونَ أو التراخي، بل تهيِّئ لمساحةٍ كبيرة من التفكُّر في كون الرسالة الخاتمة كذلك بهذا اليسر وتلك السماحة، فلم تُغادِرِ الشريعةُ الإسلامية حقًّا للمسلمين مكفولًا لهم، أو مرهونًا بهم حسب الاستطاعة والمقدرة، والفريضة الخامسة من أركان الإسلام من أقوى الأمثلة، كما أنها لم تتغافَلْ عن حقِّ الآخرين من أهل الكتاب وأهل الذِّمة، وأساليبُ الحثِّ على حُسْن المعاملة، وحُسْن الجوار عديدة في القرآن الكريم، وسنة سيدِنا محمدٍ النبيِّ الأكرم.
﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8]؛ لذا ساد هذا الدينُ، وربُّنا يقول وهو أصدق القائلين: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ [البقرة: 143]، شهداء بعدلِكم ومصداقيَّتكم، وكونكم الأمةَ الأخيرة، وأصحاب اللَّبِنة التي بها اكتمل البنيانُ الرائع منذ بدء الخليقة، ومبعث الرسل.
ولقد مُنحَتِ الأمةُ شهادةَ تقديرٍ من ربِّ البرية، كما مُنِح نبيُّها الكريم: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110].
أمرٌ ونهيٌ، وسنام الأمر الإيمانُ بالله، مُلخَّص كل الرسالات، وكلمات جامعة مانعة.
بمثل تلك المبادئ والقيم أصحبت الشريعةُ الإسلامية ذاتَ سيادة ومطلب الكثير والكثير.
وأخيرًا:
ذلك التمني والندم في مطلع السورة الكريمة: ﴿ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ﴾ [الحجر: 2]، فهل من مستيقن؟
وإلى لقاء في الجزء الأخير، أو الثُّلث الأخير من تلك المسبحة ذات الفرائدِ الغالية.