شرح زاد المستقنع باب نواقض الوضوء [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

قال المصنف رحمه الله: [باب نواقض الوضوء]

النواقض: جمع ناقض، يقال: نقضتُ الشيء إذا فككت طاقاته، فالنقض ضد الإبرام.

ويكون النقض في المحسوسات، ويكون في المعنويات.

يكون في المحسوسات فتقول: نقضتُ البناء، ومنه قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً [النحل:92] فنفض الغزل نقض حسي.

ويكون النقض معنوياً كأن تقول: نقضتُ حجتَه، ونقضتُ دليلَه، أي: أوردتُ عليه ما يوجب بطلان الحجة وكذلك دفع الدليل.

ومعنى: (نواقض الوضوء) أي: مفسدات الوضوء ومبطلاته، ولما كانت هذه المفسدات والمبطلات متعددة، قال -رحمه الله-: نواقض، ولم يقل: باب ناقض، وإنما قال: باب نواقض الوضوء، أي: نواقض الطهارة الصغرى، ومفهوم ذلك أنه لا يتحدث عن نواقض الغُسل، كالجنابة والنفاس والحيض، وإنما يختص الكلام هنا على نواقض الطهارة الصغرى.

سؤال: إذا عرفنا معنى قوله: (باب نواقض الوضوء)، فلماذا ذكر المصنف -رحمه الله- باب نواقض الوضوء بعد باب مسح الخفين؟

والجواب: أن باب المسح على الخفين متمِّمٌ لباب الوضوء، وذَكَرَه بعد باب الوضوء؛ لأنه يتعلق بعضو من أعضاء الوضوء وهما الرجلان، فبعد أن فرغ -رحمه الله- من بيان حكم المسح على الخفين المتعلق بالوضوء، شرع في بيان مبطلات الوضوء، وهذا كما يصفه العلماء: الترتيب في الأفكار؛ لأن نقض الوضوء لا يكون إلا بعد وجوده، فناسب أن يجعل نواقض الوضوء بعد باب الوضوء، كأنه يقول لك: ابقَ على حكم الوضوء إلا إذا طرأ أو حدث ناقض من هذه النواقض، ولذلك يقولون: النقض يكون لِمَا وُجِد، لا لما لم يوجد، فالشخص عندما يقول: نقضتُ البيت، إنما يكون هذا بعد وجود البيت لا قبل وجوده، فالشيء غير الموجود لا يُنقض، ولذلك بيَّن لنا حقيقة الوضوء، فكأنه وُجِد، ثم بعد بيانه وَرَدَ السؤال: متى يُحكم بانتقاض هذه الطهارة؟

وتعبير المؤلف -رحمة الله عليه- بقوله: (نواقض الوضوء) أدق من تعبير بعض العلماء بقولهم: باب نواقض الطهارة، كتعبير الخِرَقي -مثلاً-، فإنه يعتبر نوعاً من التعميم؛ لأنه يشمل نواقض الوضوء ونواقض الغُسل، فلذلك يحتاج إلى قيد؛ لكن لما يقول: باب نواقض الوضوء، فإن ذلك أبلغ في الدلالة على المراد.

انتقاض الوضوء بما خرج من أحد السبيلين

قال رحمه الله: [ينقض ما خرج من سبيل]

أي يُفْسد الوضوء الشرعي ما خرج من سبيل.

ما: إما بمعنى شيء.

أو أنه اسم موصول بمعنى: الذي، أي: الذي خرج من سبيل.

وقوله: (ما خرج من سبيل) ما هو الشيء الذي عبَّر عنه بقوله: ما؟

إن الشيء الذي يخرج من السبيل، لا يخلو:

إما أن يكون طاهراً.

أو يكون نجساً.

وفي كلتا الحالتين:

إما أن يكون معتاداً.

أو غير معتاد.

وأيضاً لا يخلو:

إما أن يكون سائلاً.

أو جامداً.

أو ريحاً.

وبناءً على ذلك: فالنواقض تجمع ما يلي:

أولاً: البول، وهو ناقض بالإجماع، ويخرج من القُبُل.

ثانياً: الغائط، وهو ناقض بالإجماع، ويخرج من الدُّبُر.

فهذان ناقضان متفق على أن خروج أي واحد منهما من القبل أو الدبر مما يوجب انتقاض الطهارة، والدليل على ذلك قوله تعالى: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ [النساء:43]، فإنه كَنَّى به عن ما يخرج من الإنسان إذا ذهب إلى الخلاء.

ثم الخارج من القُبُل يكون على النحو التالي:

مَذْياً.

ووَدْياً.

وكذلك دَمَ استحاضة.

ويكون ريحاً سواء كان من قُبُل امرأة أو قُبُل رجل، على المسألة التي ذكرها العلماء رحمة الله عليهم.

ويكون غير معتادٍ:

كأن يخرج الحصى من القُبُل.

أو الدُّود.

فنبدأ في تفصيل هذه الأمور المتعلقة بالقُبُل:

انتقاض الوضوء بالبول

أولاً: البول:

ناقض بالإجماع، والدليل على كونه ناقضاً: حديث صفوان بن عسال رضي الله عنه: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، ويوماً وليلةً للمقيم، من بولٍِ أو نومٍ أو غائطٍ؛ لكن من جنابةٍ) فقوله: (من بولٍ) مِن: للسببية، أي: بسبب بولٍِ، فدل على أن البول ناقض للوضوء.

وقوله: (أو غائطٍ) دل على أن الغائط ناقض للوضوء.

انتقاض الوضوء بالمذي

ثانياً: المَذْي: ناقض على قول الجماهير، وحَكَى البعضُ الإجماعَ على أنه ينقض الوضوء، وهو الصحيح؛ لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث علي رضي الله عنه أنه قال: (كنتُ رجلاً مَذَّاءً، فاستحييت أن أسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته مني، فأمرت المقداد أن يسأله، فقال: فيه الوضوء. وفي رواية: توضأ واغسل ذكرك) فدل على أن المَذْي يعتبر ناقضاً للوضوء.

والمَذْي: هو ماء أو سائل لَزِج يخرج عند بداية الشهوة، كالملاعبة، فالسائل الرقيق الذي يخرج عند بداية الشهوة، يُعتبر مَذْياً، وإذا خرج فإنه لا يوجب الغُسل، وإنما يوجب ما يوجبه الوضوء من غَسل العضو والوضوء. هذا الناقض الثاني وهو المَذْي.

انتقاض الوضوء بالودي

الناقض الثالث: الوَدْي، ويعتبر ناقضاً للوضوء، وحكمه حكم البول، وهو ماء لَزِج يخرج على قطرات عَقِب البول.

والفرق بينه وبين المَذْي:

أولاً: أنه أخف من المَذْي.

ثانياً: أن المَذْي يكون عند الشهوة، وهو يكون عقب البولِ.

فهذه الثلاثة كلها نواقض وتعتبر نجسة: البول والمَذْي والوَدْي، ويشمل ذلك الرجال والنساء، كل منهم إذا خرج منه ذلك فإنه يُحكَم بكونه قد انتقض وضوءُه، ويلزم غَسل ما أصابه ذلك الخارج الذي هو: البول، أو المَذْي، أو الوَدْي.

انتقاض الوضوء بدم الاستحاضة

رابعاً: كذلك أيضاً يعتبر من نواقض الوضوء ما يختص بالنساء وهو: دم الاستحاضة: فدم الاستحاضة يعتبر موجباً لانتقاض الوضوء.

والاستحاضة: استفعالٌ مِن الحيض، والمرأة المستحاضة: هي المرأة التي ينتهي أمد حيضها ويستمر الدم معها، كأن تكون عادتُها خمسة أيام، فإذا انتهت الخمسة الأيام استمر الدم معها ولا ينقطع، فيقال عنها: استحاضت، أي: استمر معها دم الحيض، فهذا الاستمرار يأخذ حكم البول؛ لكن للمرأة رُخَص رَخَّصها لها الشرع؛ نظراً لوجود الضيق والحرج عليها؛ لأن هذا الدم كلما خرج أوجب انتقاض الوضوء، فتصلي في وقت كل صلاةٍ الفريضةَ ونوافلها القبلية والبعدية والسنن المطلقة، حتى ينتهي الوقت، فإذا انتهى الوقت غَسَلت الموضع؛ لأن حكمَه حكمُ الخارجِ النجس، وتوضأتْ للصلاة المستقبَلة.

هذا بالنسبة لِمَا يخرج من المرأة بعد انتهاء مدة الحيض.

حكم خروج الحصى والدود من القبل

يبقى النظر في الحصى والدود: لو أن رجلاً خرج من قُبُله حصى، أو خرج من قُبُله دود، كأن يكون مريضاً أو مبتلىً بالدود، فيخرج من قُبُله، فهل يوجب ذلك انتقاض وضوئه؟

للعلماء أقوال في هذه المسألة: أقواها وأصحها: التفصيل:

إن خَرَج الحصى وفيه رطوبة وندى، حُكِم بانتقاض الوضوء، وإلا لم يحكم بانتقاضه، فينقض لا بذاته ولكن بما صاحبه من النجاسة، فهو وإن كان طاهر الأصل؛ لكنه متنجس بالوصف، فيُحكم بكونه ناقضاً للوضوء كخروج النجس، كما لو خرجت منه قطرة بول، هذا بالنسبة للحصى والدود.

أما الخارج من الدُّبُر:

انتقاض الوضوء بخروج الغائط

- فيخرج منه: الغائط، وهو ناقض بالإجماع.

انتقاض الوضوء بخروج الريح

- ويخرج منه الريح:

وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) فلما سئل أبو هريرة رضي الله عنه عن قول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: إذا أحدث؟ قال: إذا خرج منه الريح، ففسره بخروج الريح. فقال العلماء: إن هذا يدل على أن الريح ناقض، وهذا بالإجماع.

لكن يُنتبه إلى مسائل:

الأولى: وهي أن الريح إنما يُعتبر ناقضاً إذا خرج حقيقةً لا توهُّماً وظناً، وفي ذلك صور، منها:

أنه لو أحس بحركة في دبره دون أن يسمع الصوت أو يشم الرائحة، فإنه يبقى على الطهارة، ولو أحس بتحرُّك الدبر، لما جاء عنه عليه الصلاة والسلام: (إن الشيطان ينفُخ في مقعدة الرجل؛ فيظن أن وضوءه انتقض وليس بذاك، إنما يريد به أن يلبِّس عليه في طهارته).

المسألة الثانية: أنه لو سمع الصوت ولم يشم الرائحة، حُكِم بانتقاض الوضوء، ولو شم الرائحة ولم يسمع الصوت، حُكِم بانتقاض الوضوء.

المسألة الثالثة: أن العبرة في انتقاض الوضوء بالريح إنما هو إذا خرج فعلاً، خلافاً لمن يقول: إنه لو سمع الصوت من بطنه، فإنه يُحكم بانتقاض وضوئه، فهذا قول ضعيف؛ لأن العبرة بالخروج لا بوجود الصوت قبل المخرج، وبناءً على ذلك: فلو سمع الأصوات في بطنه، كأن يكون به ما يسمى الآن في عرف الناس بـ:(الغازات)، لو كان مبتلى، بها أو سَمِعها أو سمع صوتها في بطنه، فذلك لا يؤثر في الوضوء شيئاً، ما لم يكن صوتاً من خارج، أو مصحوباً بدليل من شم رائحة، وأما ما عدا ذلك فليس بناقض.

ثم قول العلماء -رحمة الله عليهم-: لا بد من سماع الصوت أو شم الرائحة، يستوي فيه: أن يكون شكُّ الإنسان في الريح قبل الصلاة أو أثناء الصلاة، وهذا مذهب الجمهور، خلافاً للمالكية -رحمة الله عليهم- الذين يقولون: إنما يُعْمِل قاعدة اليقين في الريح إذا كان في الصلاة، لورود الرواية المقيِّدة، وقد أجيب عنها بأن ذكر أحد أفراد العام لا يقتضي تخصيص الحكم به؛ لأن عبد الله بن زيد كما في الصحيحين قال: (شُكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجلُ يُخَيَّلُ إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً) فهذا حكمٌ مطلق، وكونه جاء في الصلاة فلأن صورة الصلاة هي التي يحصل بها عامة البلوى أو أكثر البلوى؛ لأن الشيطان تشتد وسوسته عند الصلاة، فلا يقتضي ذلك تخصيص الحكم بالصلاة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) فلما قال عليه الصلاة والسلام ذلك فَهِمْنا أن السر هو تيقُّن الخارج، فألغينا كونه في الصلاة أو غير الصلاة، ما دام أن المهم هو أن يتيقن، فيستوي في ذلك أن يكون داخل الصلاة أو خارج الصلاة، تكون صورة السؤال في قوله: (شُكي إليه الرجلُ يُخَيَّلُ إليه أنه يجد الشيء في الصلاة) إنما هو سبب النص، ولا يقتضي ذلك تخصيص الحكم به؛ لأن العلةَ مُشْعِرَةٌ بالعموم.

هذا بالنسبة للخارج الثاني: الريح، والريح ليس بنجس، فلا يوجب غَسل الثوب، ولا غَسل الموضع، خلافاً لبعض أهل البدع ممن لا يُعْتَد بخلافهم، الذين قالوا: إذا خرج الريح وجب عليه أن يستجمر أو أن يستنجي، وهذا قول ضعيف، فإن العبرة في الغسل إنما هي بالبول والغائط وما في حكمهما، وليس الريح في حكم البول والغائط.

حكم دم البواسير

الخارج الثالث من الدبر: دم البواسير:

ودم البواسير يأتي على صور:

إن كانت ثآلِيله أو جروحه على الحلقة نفسها فهذا ليس بخارج؛ لأنه ليس من الموضع، ويقع الخلاف فيه في مسألة وهي: إذا خرج الدم من غير القُبُل والدُّبُر، هل ينقض الوضوء؟ وسنبينها إن شاء الله. والصحيح: أنه إذا كانت البواسير قروحها أو دماملها على الحلقة أو على أطرف الحلقة الخارجية، فخروج الدم لا يوجب انتقاض الوضوء.

- أما إذا كانت من الداخل، وينبعث دمها إلى الخارج، فإنه يأخذ حكم دم الاستحاضة، فإن غلب الإنسان حتى استرسل معه في وقت الصلاة، فإنه يغسل الموضع ويضع قطنة، ويتوضأ عند دخول وقت كل صلاة، وأما إذا كان الدم يسيراً ويمكن التحرز منه وجب غسله كالبول والغائط سواء بسواء.

إذاً دم البواسير له حالتان:

الحالة الأولى: أن يسترسل ويصبح آخذاً الوقت أو أكثرَ الوقت، فهذا إذا دخل عليه الوقت غَسَل الموضع ثم شَدَّه بقطنة -إذا أمكن- كالمستحاضة، وذلك للمشقة، ثم يصلي ولو جرى معه الدم، لقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسَاً إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286].

الحالة الثانية: أن يكون دم البواسير يخرج نَزْراً قليلاً، بحيث يتأتى منه أنه لو أنقى موضعه استقام له أن يصلي دون أن يخرج شيء، فهذا يجب عليه إنقاء الموضع واللباس الذي يليه، ثم يتوضأ ويصلي.

هذا بالنسبة لدم البواسير.

حكم خروج الدود أو الحصى من الدبر

يبقى النظر في الخارج من غير البول والغائط والريح: وهو الخارج من دود، أو حصى:

فلو خرج من الدُّبُر دودٌ أو حصى، فالقول فيه كالقول في القُبُل؛ أنه إذا صحبه ندى أو رطوبة حُكِم بالانتقاض، لا للذات؛ ولكن لما صاحبه من النجاسة.

لكن هنا مسألة ينبغي التنبيه عليها: وهو أنه ينبغي الاحتياط، فلو خرج الدود أو خرج الحصى فإنه يحتاط بالوضوء، وبإعادة ذلك الوضوء. ومسألة خروج الحصى أو الدود تتفرع عليها مسائل، منها:

هل خروج الطاهر من القُبُل والدُّبُر يوجب انتقاض الوضوء أو لا يوجبه؟

قال بعض العلماء: خروج الطاهر من القُبُل أو الدُّبُر يوجب انتقاض الوضوء، بدليل المَنِي، فقد قال عليه الصلاة والسلام لـعمر لما سأله: (أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: توضأ واغسل ذكرك)، قالوا: إن المَنِي طاهر، فأمره بالوضوء وغَسل العضو، فدل على أن الطاهر إذا خرج أخذ حكم النجس، هذا وجه من يقول: إن الحصى والدود وكل طاهر يخرج من القُبُل والدُّبُر ينقض الوضوء.

لكن أجيب بأن الأمر من النبي -صلى الله عليه وسلم- لـعمر : بقوله: (توضأ واغسل ذكرك) ليس لذات الخارج، وإنما هو لعلة طبية، حتى قال بعض الأطباء: إن مرضَ البروستاتا ينشأ عن عدم غسل العضو بعد خروج المني، لكن إذا صبَّ الماء على العضو بعد خروج المَنِي فإنه أبلغ في الوقاية -بإذن الله عز وجل- من مرضها، فأصبحت علةً طبية أبلغ منها شرعية، ويؤكد هذا: أن مجرى البول ليس بمجرى المَنِي، فدل على أنه لا يجري على مسألتِنا؛ لأن مسألتَنا أن يجري الطاهر في مجرى البول وأن يخرج من مخرجه، والمَنِيُّ ليس مخرجه من مجرى البول، كما هو ثابت طبياً.

وبناءً على ذلك إذا قلت: إن خروج الطاهر يوجب انتقاض الوضوء، سواءً كان من قُبُل أو دُبُر، فالعلماء يقولون: لو أدخل الطبيب آلةً في الدبر وسحبها انتقض الوضوء، مثل المناظير الموجودة الآن التي تتفرع عليها مسائل منها: أنها توجب انتقاض الطهارة، فإذا سمعتَ من يفتي بانتقاضها، فهو قول مخرَّج على القول بأن مجرد خروج الطاهر -بغض النظر عن كونه أُدخِل وأُخرِج، أو كونه خَرَج من الجوف- يوجب انتقاض الطهارة.

وقوله: (ما خرج).

الخروج ضد الدخول، ويرد السؤال: ما ضابط تقييده بوصف الخروج؟

الخروج يتحقق بمجاوزة حلقة الدبر بالنسبة لما يخرج من الدبر، أو يكون على رأس مجرى الإحليل في الحشفة، بالنسبة للقُبُل.

ويتفرع على هذا مسائل:

منها: المسألة اللطيفة: لو أن إنساناً دهمه البول -كما يقع لبعض المرضى- وهو في التشهد، فأمسك العضو وقد احتقن مجرى البول حتى سَلَّم، ثم خرج بعد سلامه، صحَّت صلاته، ولا عبرة بكونه في المجرى المقارب للمخرج.

إذاً: لا بد في الحكم بكون الوضوء منتقضاً أن يكون قد خرج من رأس العضو سواءً كان للرجل أو للمرأة.

فلابد من المجاوزة، فلو شعر به في المجرى لم يكن شعورُه بجريانه في المجرى موجباً للحكم بالانتقاض.

معنى السبيل والفرق بينه وبين الطريق

ومعنى قوله: (من سبيل) السبيل: هو الطريق.

وقال بعض العلماء: إن هناك فرقاً بين السبيل والطريق، فالسبيل يكون في المعنويات: وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55] أي: ضلالهم وبُعدهم عن الله عز وجل: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي [يوسف:108] أي: سبيل الخير من هداية وصلاح، فقالوا: السبيل يختص بالمعنويات، كالهداية والضلالة، وتقول: سبيلي طاعة الله عز وجل، وسبيلي اتباع الكتاب والسنة، هذا في المعنويات.

وأما الطريق فيكون في المحسوسات، فلا يقال: طريق، للمعنويات، ولا يقال: سبيل، للمحسوسات، إلا على سبيل التجوُّز.

هذا قول اختاره بعض المفسرين في الفرق بين تعبير القرآن بالسبيل وتعبيره بالطريق؛ لكن قول المصنف هنا: (ما خرج من سبيل) يخالف هذا الفرق؛ لأنه جعل السبيل في المحسوسات، وقلنا: إن بعض المفسرين يجعل السبيل في المعنويات، فيكون فعل المصنف ضرباً من التجوُّز؛ لأنه لو قال: (ما خرج من طريق) لَأَوْهَمَ؛ لكن لما قال: (سبيل) كان فيه نوعٌ من انحصار الذهن في الموضع المعروف.

قوله: (من سبيل) للإنسان سبيلان:

القُبُل.

والدُّبُر.

وهذان السبيلان هما الأصل اللذان إذا خرج منهما شيء فإنه يوجب نقض الوضوء، وهذا ما قرره العلماء.

حكم خروج البول والغائط من فتحة غير السبيلين

هنا مسألة: لو أن إنساناً فُتِحت له فتحةٌ يخرج منها الخارج، من بول أو غائط، سواءً وقعت فوق القُبُل أو فوق الدُّبُر، فهل نحكم بكون الخارج من هذه الفتحة خارجاً من السبيل، ويأخذ حكم ما قرره العلماء -رحمة الله عليهم- من كونه ناقضاً؟ أو نقول: نقتصر على السبيل المعتبر، وكل فتحة سواءً كانت لقُبُلٍ أو دُبُر، لا تؤثر؟

وجهان للعلماء: أصحهما: أن الفتحة تُنَزَّل منزلة الأصل، فمن انسدت مقعدته، أو مرض فغُيِّر مجرى بوله وغائطه، فإن هذا يقتضي أخذ حكم الأصل، والبدل آخذٌ حكم مُبْدَله.

لكن من العلماء من أطلق في حكمها فقال: كل فتحة خرج منها الخارج فإن الوضوء ينتقض بخروج الخارج منها.

ومنهم من قال: أفصِّل في الفتحة، وأُفصل في الحكم، فقالوا في الفتحة: لا تخلو من حالتين:

الحالة الأولى: أن تكون أسفل المعدة، أي: تحت السرة.

الحالة الثانية: أن تكون فوق السرة، يعني: أعلى المعدة.

قالوا: فإن كانت أسفل المعدة نقضت.

وإن كانت فوق المعدة لم تنقض.

فالذين قالوا: عموم الفتحة ينزل منزلة الأصل فينقض الخارج منه، نظروا إلى أنها مجرى الخارج، فأخذت حكم المخرج الأصلي؛ لأن البدل يأخذ حكم مُبْدَله.

والذين فصَّلوا نظروا إلى أن الخارج إنما هو ناقض إذا استوعبته المعدة واستهلكته، حتى صار بولاً أو غائطاً، ويتأتى ذلك بنزوله من الأدنى، فإن نزل من الأعلى فذلك ليس بخارج على الصورة المعتبرة، فنعتبره أشبه بالقَلْس ولا يوجب انتقاض الوضوء ولا الطهارة.

هذا بالنسبة لمن يقول: إنه يفرَّق بين الفتحة من أسفل ومن أعلى.

والذي يقوى: أنها إذا أُخْرِجت الفضلة من فوق المعدة أو من أسفل المعدة، فإنها ناقضة.

ثم يبقى النظر في مسائل تتعلق بنقض هذه الفتحة من جهة لمسها، هل تُنَزَّل منزلة العضو من كل وجه، أو من بعض الوجوه؟ سيأتي -إن شاء الله- في اللمس.

هنا مسألة: وهي إذا قلنا في المسألة الأخيرة: إن الخارج من الفتحة ناقض للوضوء، ووُجِد كحالِ بعضِ المرضى اليوم، حين يوضع كيس البول -أكرمكم الله- في وعائه؛ لأنه يتقاطر منه باستمرار، فهل يُحْكَم بانتقاضه مطلقاً أم ماذا؟

الجواب: أنه إذا فتحت الفتحة، واسترسل الخارج أخذ حكم دم الاستحاضة، ويتوضأ عند دخول كل صلاة، ويعتبر وضوءه موجباً لأداء الصلاة ونوافلها القبلية والبعدية، على ما ذكره العلماء رحمة الله عليهم.

حكم الخارج من غير القبل والدبر

قال رحمه الله: [وخارج من بقية البدن إن كان بولاً أو غائطاً]

(وخارج) أي: ينقض الوضوء كل ما خرج من بقية البدن، سواءً كان بولاً أو غائطاً، هذا يرجع إلى مسألة الفتحة، وآخذة حكم الخروج من المخرج المعتاد.

وهذا هو الذي نص عليه فقهاء الحنابلة ودرجوا عليه، وعند الشافعية التفصيل كما قرره الشيرازي في المهذب، وفصله الإمام النووي -رحمه الله- في شرحه وفي الروضة.

فالمقصود: أنهم فصلوا فيه بحسب أحوال الفتحات.

ومن العلماء من أطلق.

ومذهب الحنابلة وقاعدتهم، أنهم يرون خروج النجس من أي موضع من البدن ناقضاً، حتى لو خرج الدم من جرح، ويقولون: بمجرد ما يخرج الدم فإنه ينقض الوضوء، دليلهم على ذلك: قالوا: إنه يُنَزَّل منزلة المستحاضة، فإن المستحاضة خرج منها الدم -وهو نجس-، من غير مجرى البول وهو مجرى الفرج، فأوجب انتقاض الوضوء، مع أنه من غير مجرى البول، وليس ذلك إلا لعلة، وهو كونه نجساً، ففرعوا عليه: أن كل خارجٍ نجِسٍ من سائر البدن ينقض؛ لأن الشرع اعتبر خروج دم الاستحاضة النجس من الموضع المعروف موجباً لانتقاض الوضوء، فكذلك مثله كل نجس خارج.

وهذا فيه نظر، فإن خروج دم الاستحاضة يكون من القبل، فاجتمع فيه المخرج والخارج، المخرج: الذي هو القُبُل، بغض النظر عن كونه موضع الجماع أو موضع البول، والخارج: كونه نجساً، ولذلك نقول: إنه إذا خرج من سائر البدن لم ينقض؛ لأنه إذا خرج من سائر البدن وُجِد فيه وصف واحد، وهو: كونه نجساً ولكنه ليس من الموضع.

بعبارة أخرى: يقولون: دم الاستحاضة نَقَضَ الوضوء لأنه نجس، وخرج من غير القُبُل والدُّبُر، إذاً نقيس عليه كل نجس من سائر البدن، فعندهم: أي نجس يخرج من سائر البدن كالرعاف، فإنه ينقض الوضوء؛ لأنه نجس وخرج من البدن كدم الاستحاضة.

كيف يُجاب عن هذا؟

يجاب عنه: بأن دم الاستحاضة اشتمل على وصفين:

كونه نجساً، لقوله: (اغسلي عنك الدم).

وكونه من الموضع.

وأما النجس الخارج من سائر البدن كالرعاف، فقد حصل فيه وصف واحد، وهو كونه نجساً؛ ولكنه ليس من موضعٍ مؤثر، فنقض الأول وهو: دم الاستحاضة، ولم ينقض الثاني، هذا بالنسبة لمسألة: أن كل خارج نجس من سائر البدن يوجب انتقاض الوضوء.

وهناك أدلة على أنه لا ينقض الوضوء أقواها: حديث عباد بن بشر رضي الله عنه، لما قام على الشِّعب يحرس، وجاءه السهم الغارب، فنزف وهو يصلي، فلولا أنه خشي على صاحبه لما قَطَعَ صلاته، فأُقِرَّ على ذلك، فدل على أن خروج الدم لا يوجب انتقاض الوضوء.

خروج النجس من غير السبيلين

قال رحمه الله: [أو كثيراً نجِساً غيرَهما]

أي: غير البول والغائط، وهو الدم مثلاً.

وقوله: (كثيراً نجساً) يشمل أموراً:

أولها: الدم.

ثانيها: الصديد.

ثالثها: القيح.

رابعها: القيء.

كل ذلك يعتبر من النجس الخارج من غير السبيلين، وهو من غير البول والغائط.

فمن قاء فقد انتقض وضوءه -على هذا الأصل-؛ لأنه نجس خارج من البدن.

ومن رعف انتقض وضوءه؛ لأن الدم نجس، فيوجب انتقاض الوضوء.

ومن خرج منه الصديد أو القيح انتقض وضوءه؛ لأن الصديد والقيح، متولد من الدم، والفرع يأخذ حكم أصله، وما تولد من نجس فهو نجس، والصديد: يقولون: من الماء الذي يخالط الجراح، وقيل: يكون مختلطاً بين الدم والماء الذي يخالط الجراح، فقالوا: أخذ حكم النجس لمكان تنجسه بالموضع.

هذه الأمور كلها إذا خرجت أوجبت انتقاض الوضوء، على الأصل الذي قررناه من كون الخارج النجس يوجب انتقاض الوضوء.

وقلنا: إن الصحيح: أن الخارج النجس من غير السبيلين لا يُعتبر ناقضاً للوضوء.

لكن هنا شرط ذكره المصنف عبَّر عنه بالوصف في قوله: (كثيراً)، فمفهوم قوله: (كثيراً) أنه لو كان قليلاً فلا ينقض الوضوء.

تفصيل ذلك: قالوا: إذا خرج من الإنسان دم يسير كالبثرة التي تسمى في عرف الناس بـ:الحَبَّة، تكون على الإصبع أو تكون على الساعد، فينزف الدم منها قليلاً، أو يعصرها الإنسان فيخرج منها الدم اليسير، فهذا يسير.

ومن أمثلته أيضاً: لو استاك فأدمى لثته، فخرج دم قليل من طرف اللثة، فهذا قليل.

أو جُرِح جرحاً صغيراً، وخرج دم يسير، فهذا يوصف بكونه قليلاً.

لكن لو كان كثيراً، كجرحٍ يَثْعُبُ دماً، أو رعف، فإنهم يقولون: انتقض وضوءه.

إذاً: هم يفرقون بين القليل والكثير من النجاسات الخارجة.

ويقولون: لو كان الخارج النجس كثيراً نقض، وإذا كان الخارج النجس قليلاً لم ينقض، فيرد السؤال: ما هو الضابط الذي نفرِّق به بين القليل والكثير؟

لهم أقوال متعددة: منها ما اختاره غير واحد ومنهم: الإمام الموفق ابن قدامة كما في المغني، واختاره في العمدة، وكذلك اختاره الزركشي ، وغيرهم من أئمة الحنابلة وفقهائهم -رحمة الله عليهم- يقولون: إن الكثير ما لا يتفاحش في النفس، فإذا رأيته لم تره كثيراً، ولا تستكثر هذا اليسير؛ لكن لو أنك نظرت إليه فاعتبرته كثيراً، فإنه يعتبر كثيراً.

لكن نقول لهم: الناس يختلفون، فقد يكون الكثير عندي يسيراً عندك!

قالوا: ما اعتبره أوساط الناس وعقلاؤهم ونحوهم من الحكماء الذين لهم عقل، قالوا: فيخرج الموسوس، والقصاب.

أما الموسوس: فلأن أقل شيء عنده يعتبر كثيراً -نسأل الله السلامة والعافية- ويستعظم كل شيء، فهذا القليل عنده لا يعتبر فاحشاً، ومِثْلِه ليس له تأثير.

وأما النوع الثاني: فالجزار أو القصاب فإنه لا عبرة بقوله؛ لأنه يستهين بالدماء، فالذي يتفاحش عنده الشيء الكثير جداً، فربما يرى ما يملأ الكوب، فيقول: هذا ليس من المتفاحش وإنما يقاربه؛ لأنه معتاد للدماء.

فقالوا: يخرج هذان النوعان: القصاب، والموسوس، فجعلوا أعلى الشيء: القصاب، وأدناه: الموسوس، قالوا: فلا نلتفت لمن يعظِّم الأمر ولمن يحقِّره، وإنما يُنظر إلى الحكيم العاقل وعقلاء الناس وأوساطهم.

ومنهم من يحدُّه بالقطرة والقطرتين.

لكن كل هذا -كما قلنا- على غير المشهور، والذي اختاره بعض المحققين: أن العبرة فيه بتفاحش النفس، فقالوا: إذا كان الدم كثيراً عندك نقض، وأما إذا كان يسيراً لم ينقض.

كل هذا نحن في عافية منه؛ لأنه عندنا لا ينقض الوضوء؛ وإنما نحن نفرِّع على كلام المصنف، ويرد السؤال: لماذا استثنوا القليل؟

استثنوه لعلة، وهي: أنه ثبت عن الصحابة أنهم عصروا البُثَر، وأنهم اغتفروا اليسير، كما جاء عن ابن عباس وابن عمر ، فقد عصر ابن عمر بثرةً ثم صلى ولم يرَ في ذلك بأساً، قالوا: فهذا يدل على أن القليل لا يؤثر، وبناءً على ذلك قالوا: نستثني اليسير، فإن كان يسيراً لم ينقض، ولم يُحكم بانتقاض الوضوء.

قال رحمه الله: [ينقض ما خرج من سبيل]

أي يُفْسد الوضوء الشرعي ما خرج من سبيل.

ما: إما بمعنى شيء.

أو أنه اسم موصول بمعنى: الذي، أي: الذي خرج من سبيل.

وقوله: (ما خرج من سبيل) ما هو الشيء الذي عبَّر عنه بقوله: ما؟

إن الشيء الذي يخرج من السبيل، لا يخلو:

إما أن يكون طاهراً.

أو يكون نجساً.

وفي كلتا الحالتين:

إما أن يكون معتاداً.

أو غير معتاد.

وأيضاً لا يخلو:

إما أن يكون سائلاً.

أو جامداً.

أو ريحاً.

وبناءً على ذلك: فالنواقض تجمع ما يلي:

أولاً: البول، وهو ناقض بالإجماع، ويخرج من القُبُل.

ثانياً: الغائط، وهو ناقض بالإجماع، ويخرج من الدُّبُر.

فهذان ناقضان متفق على أن خروج أي واحد منهما من القبل أو الدبر مما يوجب انتقاض الطهارة، والدليل على ذلك قوله تعالى: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ [النساء:43]، فإنه كَنَّى به عن ما يخرج من الإنسان إذا ذهب إلى الخلاء.

ثم الخارج من القُبُل يكون على النحو التالي:

مَذْياً.

ووَدْياً.

وكذلك دَمَ استحاضة.

ويكون ريحاً سواء كان من قُبُل امرأة أو قُبُل رجل، على المسألة التي ذكرها العلماء رحمة الله عليهم.

ويكون غير معتادٍ:

كأن يخرج الحصى من القُبُل.

أو الدُّود.

فنبدأ في تفصيل هذه الأمور المتعلقة بالقُبُل:


استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3704 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3620 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3441 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3374 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3339 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3320 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3273 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3228 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3185 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3169 استماع