شرح زاد المستقنع المقدمة [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه أجمعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [الحمد لله حمداً لا ينفد، أفضل ما ينبغي أن يحمد، وصلى الله وسلم على أفضل المصطفين محمد].

هذه مقدمة المصنف رحمه الله لهذا الكتاب المبارك -أعني: زاد المستقنع- يبدؤها رحمه الله بقوله: [الحمد لله]، ومن عادة أهل العلم رحمهم الله أنهم إذا أرادوا التأليف أو التصنيف، أو أرادوا الخطابة أو الكتابة صدروا ذلك بحمد الله جل وعلا.

ولهم في ذلك دليل من الكتاب والسنة:

أما دليل الكتاب فإن الله تبارك وتعالى استفتح كتابه المبين بقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، فاستفتح أفضل الكتب وأشرفها وأجلها على الإطلاق وهو القرآن بقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ [الفاتحة:2].

قال بعض العلماء: في هذا دليل على أنه يشرع استفتاح كتب العلم بحمد الله جل وعلا.

وأما دليل السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم استفتح خطبه بقوله: (إن الحمد لله)، وثبتت الأحاديث عنه عليه الصلاة والسلام في مواعظه المشهورة، أو كلماته المعينة التي وقعت في المناسبات بما يحكيه الرواة عنه بقولهم: (فحمد الله وأثنى عليه ثم قال).

وأجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية استفتاح الكتب ونحوها بحمد الله جل وعلا، والمناسبة في ذلك: أن الله جل وعلا هو المستحق للثناء، وما كان العبد ليعلم أو يتعلم لولا أن الله علمه، وما كان ليفهم لولا أن الله فهمه، فيستفتح بحمد الله الذي شرفه وكرمه كما قال: عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:5] .

وقالوا: كما أن النبي صلى الله عليه وسلم استفتح الخطب بالحمد فيشرع استفتاح الكتب بالحمد؛ لأن الخطبة والكتاب كل منهما هدفه واحد، وهو الدلالة والدعوة إلى الله.

فكما أن المراد من خطبه عليه الصلاة والسلام توجيه الناس ودلالتهم على الخير، كذلك هو المراد من كتابة الكتب وتأليف المؤلفات.

فلهذا كله شرع في كتب العلم ورسائل العلم والخطب والندوات ونحوها مما فيه تعليم وتوجيه أن تُستفتح بحمد الله، لما فيه من تعظيم الله جل وعلا، ولما فيه من الاعتراف بالجميل والثناء على الله العظيم الجليل.

قوله رحمه الله تعالى: [ الحمد لله ].

الحمد في اللغة: الثناء، وقد أطبق على ذلك العلماء في تعريفه, يقال: حمد الشيء، إذا أثنى عليه.

والمراد بالحمد في اصطلاح العلماء هو الوصف بالجميل الاختياري على المنعم بسبب كونه منعماً على الحامد أو غيره، فقولهم: (الوصف بالجميل الاختياري)، هو كأن تقول: محمد كريم، شجاع، فاضل، فوصفته بجميل لو سئل إنسان عنه لقال: سئل فلان عن محمد فحمده، أو ذكر أوصافه المحمودة.

وقولهم: (على المنعم)، أي: الذي أعطى النعمة وهو الله جل وعلا، أو المخلوق بعد فضل الله جل وعلا.

والفرق بين الحمد والشكر عند العلماء أن الحمد أعم بالأسلوب وأخص من جهة السبب، والشكر أعم من جهة السبب وأخص من جهة الأسلوب أو الوسيلة.

فالحمد إنما يكون باللسان فهو أخص من حيث الآلة، والشكر أعم منه؛ لأن الشكر يقع باللسان ويقع بالجنان ويقع بالجوارح والأركان.

أما باللسان فمنه قوله تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11]، لأن الحديث عن النعم شكر للمنعم.

وأما بالجنان، فمنه قوله تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ [النحل:53] أي اعتقدوا أنها من الله، فمن شكرك لنعمة الله أن تعتقد في قرارة قلبك أن الله أنعم بها عليك، وأما الشكر بالجوارح والأركان فأن تعمل بجوارحك ما ترد به جميل المنعم، ومنه قوله تعالى: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا [سبأ:13] .

فهذه ثلاثة أنواع من الشكر، تشكر بلسانك فتثني على الذي أعطاك الجميل وأسدى إليك النعمة بعد الله، وتشكر بجنانك بأن تعتقد فضله، وتشكر بجوارحك وأركانك برد الجميل إليه، أو فعل ما يرد إحسانه إليه.

وأما الحمد فلا يكون إلا باللسان، ولكنه من جهة السبب أعم من الشكر، فتحمد الإنسان مطلقاً سواءٌ أعطاك نعمة أم لم يعطكها، فتقول: فلان كريم، وإن لم يعطك شيئاً، فأثنيت عليه وحمدته لهذه الخصلة الطيبة فيه.

فالحمد لا يستلزم وجود فضل للمحمود على الحامد، بخلاف الشكر، إذ إنما يكون بعد جميل ونعمة، فلا تشكر إلا من أحسن وأسدى إليك المعروف.

إذاً الفرق بينهما أن الحمد من جهة التعبير أخص ومن جهة السبب أعم، والشكر من جهة التعبير أعم ومن جهة السبب أخص.

قال العلماء رحمة الله تعالى عليهم: استفتح الله كتابه بـ(الحمد لله)، فاختار اسم (الله) ولم يقل: (الحمد للكريم) ولا (للعظيم) وهو وإن كان حمداً للعظيم والكريم، ولكن تخصيص الاسم الدال على الذات أبلغ في الحمد والثناء من ذكر الوصف؛ لأنك لو قلت: الحمد لله الكريم، لأشعر أنك حمدته من أجل أنه كريم، ولكن لما قلت: الحمد لله، أثبت له الحمد لذاته سبحانه وتعالى فكان أبلغ.

قوله رحمه الله تعالى: [حمداً لا ينفد].

أي: أحمده حمداً لا ينتهي ولا ينقطع، ولذلك جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان: (إذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد)، وفي رواية: (لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض...) إلى أن قال: (.. أهل الثناء والمجد) أي: يا الله أنت أهل أن يثنى عليك، فالله هو المستحق للحمد الذي لا ينفد؛ لأن نعمه لا تنقطع ولا تنتهي ولا تنقطع عن العبد، وهو لا يستطيع عدها فضلاً عن شكرها والثناء على الله عز وجل بما هو أهله.

قوله: [أفضل ما ينبغي أن يحمد].

أفضل على وزن أفعل، والعرب تأتي بهذه الصيغة للمفاضلة فتقول: فلان أكرم، فلان أحسن، فلان أعلم، وهذه الصيغة تدل على أن الاثنين اشتركا في وصف أحدهما أعلى من الآخر فيه، فقوله: [أفضل] يعني أن الحمد يفضل، والفضل الزيادة، أي أن هذا الحمد فرق بينه وبين حمد غير الله جل وعلا أنه يفضل كل حمد، أو أنه حمد يفضل حمد غيره لله جل وعلا.

قوله رحمه الله تعالى: [وصلى الله وسلم على أفضل المصطفين محمد].

الصلاة تطلق في اللغة على معانٍ، فتأتي بمعنى الدعاء، ومنه قول الشاعر:

تقول بنتي وقد قربت مرتحلاً يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا

عليك مثل الذي صليت فاغتمضي عيناً فإن لجنب المرء مضطجعا

يقول الشاعر: إن ابنتي حينما هيَّأت رحلي للسفر قالت: يا رب جنب أبي الأوصاب والوجع، أي أنها دعت له بالسلامة، فأجابها بقوله: عليك مثل الذي صليت، أي: عليك مثل الذي دعوت، وهو موضع الشاهد من البيت؛ فإنه استعمل الصلاة بمعنى الدعاء.

ومنه قول الحق تبارك وتعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103] أي: إذا أعطوك الزكاة يا رسولنا -عليه الصلاة والسلام- فصل على من أعطاها لك، ولذلك قال العلماء: يسن لنائب الإمام الذي يلي أخذ الزكاة من الناس إذا أعطوها أن يدعوَ بالبركة والخير في أعمالهم، فقوله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [التوبة:103] أي: ادع لهم، فالصلاة تطلق بمعنى الدعاء.

وتأتي الصلاة بمعنى الرحمة، ومنه قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب:56] أي أن الله يرحمه، وصلاة الله على العبد رحمته.

ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم صل على آل أبي أوفى) أي: ارحمهم، وقيل: (بارك لهم في مالهم)، وهو حديث في صحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى.

ومنه قول الشاعر:

صلى المليك على امرئ ودعته وأتم نعمته عليه وزادها

أي: رحم الله ذلك العبد، أو ذلك الأخ الذي ودعته.

فقوله: [وصلى الله] أي: على نبيه صلوات الله وسلامه عليه، والمراد به الترحم؛ لأن الصلاة من الله على نبيه صلى الله عليه وسلم هي الرحمة.

قوله: [وصلى الله وسلم]: جمع المصنف بين الصلاة والسلام، والسلام إما مأخوذ من السلامة من الآفات، وإما أن يراد به التحية.

قال بعض العلماء: قول الإنسان: السلام عليكم. أي سلمكم الله من الآفات والشرور وهي التحية، ووصفت التحية بكونها تحية؛ لأن الإنسان إذا حيَّا غيره دعا له بما يوجب طول بقائه في الحياة، فإذا قلت: السلام عليكم، فمعنى ذلك: سلمكم الله من الآفات.

وإذا سلم العبد من الآفات طال عمره وبقي زمناً أكثر مما لو أصابته، ولذلك يقولون: السلام من السلامة، وهو اسم من أسماء الله جل وعلا كما في آية الحشر.

فجمع المصنف بين الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والسلام عليه؛ لأنها من أكمل الصفات.

قال بعض العلماء: أدب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع فيها بين الصلاة والسلام، والدليل على ذلك. أن الله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56] فجمع له بين الصلاة والسلام عليه أفضل الصلاة والتسليم.

قال رحمه الله تعالى: [وعلى آله وأصحابه ومن تعبد].

قوله: [وعلى آله] الآل تطلق على معنيين:

الأول: آل الرجل بمعنى قرابته، قالوا: وأصل آل: أَهْلٌ، وهو قول سيبويه رحمه الله تعالى.

الثاني: تطلق بمعنى الأنصار والأعوان والأتباع وشيعة الإنسان، تقول: آل فلان؛ بمعنى أتباعه، وهذا هو المراد بقول العلماء: وعلى آله، وهذا هو الصحيح، ونص عليه الإمام أحمد رحمه الله، واختاره جمع من العلماء، فالمراد بآل النبي صلى الله عليه وسلم الذين يصلى عليهم ويسلم تبعاً للنبي صلى الله عليه وسلم إنما هم أتباعه في كل زمان ومكان.

لكن قوله: [وعلى آله وأصحابه ومن تعبد] يؤكد غير هذا المعنى، فإن قوله: [ومن تعبد] يدل على أن المراد بالآل هم الأهل؛ لأنه قال بعد ذلك [ومن تعبد]، والمراد به من سار على نهجه عليه الصلاة والسلام، فإذا كان المريد بالآل الأهل، يكون قوله: [ومن تعبد] من باب عطف الشيء على الشيء.

لكن يمكن أن يقال: إن المراد بقوله: [وعلى آله] أي: أتباعه وأنصاره، وقوله: [ومن تعبد] من باب عطف الخاص على العام، أي أنه خص المتعبدين الذين هم أكثر عبادة وصلاحاً.

وهذا من باب التشريف والتكريم؛ لأن العرب تعطف الخاص على العام، مثل قوله تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا [القدر:4] والروح: جبريل عليه السلام، فقوله تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ) يدخل فيهم جبريل، لكنه تعالى لما قال: (والروح) نص على الروح تشريفاً وتكريماً وتنبيهاً على علو مقامه ودرجته.

وقوله: [تعبد] أي: تفعّل العبادة، والتفعّل زيادة، والزيادة في المبنى تدل على زيادة المعنى، والتعبد مأخوذ من العبادة، والعبادة مأخوذة من قولهم: طريق معبد، أي: مذلل؛ لأن أصل العبودية: الذلة، فإن الإنسان إذا عبد ربه تذلل له، أما حقيقة العبادة في الاصطلاح فأجمع التعاريف لها ما اختاره جمع من المحققين ومنهم شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بقوله: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة.

فهي شاملة لأعمال القلوب كحب الله، وخشية الله، والإيمان به، واعتقاد فضله سبحانه وتعالى، والخوف منه، والرجاء فيما عنده، فإن هذه كلها من أعمال القلوب الباطنة.

والأقوال كالتسبيح والتهليل والتكبير.

والأفعال كالركوع والسجود والذبح، ونحو ذلك، فالعبادة تشمل الأقوال والأفعال والاعتقادات لكن بشرط أن تكون مما يحبه الله ويرضاه.

وشرط ما يحبه الله ويرضاه أن يكون مشروعاً، فلا يُعبد الله إلا بما شرعه، فلا يُعبد بأهواء ولا آراء، ولكن يُعبد بنصوص الكتاب والسنة التي دلت على مشروعية ذلك العمل قولاً كان أو فعلاً أو اعتقاداً.

قال رحمه الله تعالى: [أما بعد].

هذه كلمة يؤتى بها للفصل بين المقدمة والمضمون، فإذا خاطب الإنسان غيره بكلام مكتوب أو مسموع فإن من عادة الناس أنهم يصدرونه بالثناء على الله جل وعلا، وهذه الكلمات التي يصدر بها الكلام توصف بكونها مقدمة.

ثم بعد هذه المقدمة من ثناء العبد على ربه عز وجل، وصلاته على نبيه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه يشرع في المقصود، أي: الأمر الذي يريد الكلام عنه بالخطابة أو الكتابة.

ولذلك قال بعض العلماء: إن (أما بعد) هي فصل الخطاب، وقد قيل: إن أول من تكلم بها داود عليه السلام، وحملوا عليه قوله تعالى: وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ص:20] قالوا: بدليل قرنها بالحكمة وفصل الخطاب، أي: الفصل بين مقدمته ومضمونه، وذلك أبلغ في نفع الناس وتوجيههم، وأن لا يختلط الكلام بعضه ببعض، وهذا قول الشعبي وطائفة من المفسرين رحمهم الله تعالى.

والصحيح أن فصل الخطاب هو القضاء بين الناس في الخصومات والنـزاعات، وأن قوله تعالى: وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ص:20] ليس المراد به (أما بعد)، وإنما المراد به -كما قال طائفة من العلماء- معرفة الطريقة التي يفصل بها بين خطاب الخصوم إذا تخاصموا؛ لأن الخصوم إذا تخاصموا اختلفت أقوالهم، وتباينت آراؤهم، فيحتاج إلى فصل، قالوا: فصل الخطاب قولهم: البينة على المدعي واليمين على من أنكر.

وقيل: من فصل الخطاب أن يترك المدعي حتى يكمل دعواه، ثم يسأل المدعى عليه، ولذلك لما عجل داود عليه السلام وحكم وقال: (لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه) عاتبه الله تعالى.

وهذه الكلمة -أي: أما بعد- سنها النبي صلى الله عليه وسلم، وثبتت في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أما بعد: فما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله) فكان يقول: (أما بعد) ولذلك كان من السنـة أن تقـال هذه الجملة.

وقد يكررها بعض المتكلمين فيقول: (أما بعد)، ثم يأتي بكلمة ثم يقول: (ثم أما بعد)، والذي يظهر هو الاقتصار على السنة، بأن يثنى على الله تعالى ويحمده، حتى ينتهي الثناء والحمد ثم يقول: (أما بعد) ويدخل في المقصود، فتكرارها لا يحفظ له أصل، والأبلغ في التأسي الاقتصار على الوارد، خاصة في خطب الجمعة ونحوها.

قال رحمه الله: [فهذا مختصر في الفقه].

أي: هذا الكتاب الذي بين أيدينا مختصر في الفقه، كلمة [هذا] لها حالتان:

الحالة الأولى: تكون إشارة إلى شيء موجود.

الحالة الثانية: أن تكون إشارة إلى شيء غير موجود نزل منزلة الوجود.

ومن عادة المتقدمين أنهم كانوا يكتبون المقدمات قبل كتابة الكتاب، فقد كانوا علماء وأئمة وجهابذة، لا يضع أحدهم قلمه إلا وهو أهل لأن يخط بذلك القلم.

ولذلك تجد في بعض الكتب القديمة من يقول: هذا أوان الشروع فيه، وتجد من يقول: وأسأل الله تعالى أن يعين على إتمامه.

فالإشكال عند العلماء في قول المصنف: [فهذا] وهو غير موجود، فقالوا: هو إشارة لصيغة موجودة، فنزَّل غير الموجود منزلة الموجود، فلذلك قال: (فهذا مختصر)، أي: الذي سأكتبه بمعونة الله وتوفيقه من وصفه كذا وكذا وأنه مختصر.

والاختصار: ضد الإسهاب، فإذا خاطبت الناس في خطبة، أو كتبت لهم كتاباً، أو أردت أن تتحدث في موضوع فلك ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أن يكون كلامك أكثر من المعنى.

الحالة الثانية: أن يكون كلامك أقل من المعنى.

والحالة الثالثة: أن تأتي بكلام على قدر معناه.

فإذا كان الكلام كثيراً والمعنى قليلاً فإنه يوصف بكونه إطناباً، ولذلك يقولون: أطنب في الأمر، ولا يكون إلا للعوام الذين يحتاجون إلى شرح.

أما إذا خاطب إنسانٌ علماء أو طلاب علم فالذي ينبغي أن يكون على إحدى حالتين:

فإما أن يخاطب بكلام مقارب للمعنى، وهو الذي يسمونه خطاب المساواة، وإما أن يكون المعنى أكثر من الكلام، وهذا يسمونه الإيجاز والاختصار، وهذا من أبلغ ما يكون؛ لأنه يدل على عقلية المتكلم، وكذلك عقلية الكاتب.

وكانوا يقولون: من ألَّف فقد عرض عقله في طبق، فإن كان الكتاب قليل الكلام كثير المعاني دل ذلك على علمه وفضله ونبله وأنه أهل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم عن نفسه: (وأوتيت جوامع الكلم)، فقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) يندرج تحته ما لا يقل عن مائة وخمسين مسألة، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة:6]، يتفرع عنه ما لا يقل عن مائة مسألة، وذكر الإمام ابن العربي: أنه اجتمع علماء فاس فذكروا فيها ثمانمائة مسألة من وجوه البلاغة والأحكام وغيرها.

والاختصار يدل على عقلية الإنسان؛ لأنه لا يختصر الكلام إلا من يعرف الألفاظ التي يخاطب بها الناس ومدلولات الألفاظ، فيتخير ما يدل على الاختصار، أو ما يتضمن الاختصار، فقول المصنف: [فهذا مختصر] دل على النوع الثالث وهو الاختصار.

ومن منهج العلماء رحمهم الله تعالى في الكتب التي تسمى بالمتون الفقهية أنهم يصوغون الفقه في أقل العبارات، فقد تستطيع أن تشرح السطر الواحد في صفحات.

فإذا قيل: (مختصر) يفهم من ذلك أن الكلام قليل ولكن المعنى كثير وجزيل.

قوله: [في الفقه] الفقه هو: الفهم، تقول: فقهت المسألة إذا فهمتها، وقال بعض العلماء: الفقه: الفهم مطلقاً، وقال بعضهم: بل يكون للأمر الذي يحتاج إلى دقة في الإدراك والتصور، فلا تقل: فقهت أن الواحد نصف الاثنين، ولكن يقال الفقه في الأمر العظيم، أي: المسألة التي تحتاج إلى تركيز.

وقيل: إن الفقه في اللغة عام.

وقيل: إنه خاص.

ومنه قوله تعالى: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه:27-28] أي يفهموه.

أما الفقه في الاصطلاح فهو العلم بالأحكام الشرعية المستفادة من أدلتها التفصيلية.

والعلم: ضد الجهل، وحقيقته: إدراك الشيء على ما هو عليه، فإذا أدركت الشيء على حقيقته التي هي عليه فقد علمته، أما لو أدركته ناقصاً عن حقيقته فإنك لم تعلمه على الحقيقة.

وقولهم: (العلم بالأحكام) الأحكام: جمع حكم، والحكم: إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه.

وقولهم: (إثبات أمر لأمر) كأن تقول: زيد قائم، فإنك أثبت القيام لزيد وحكمت عليه بالقيام، وإن قلت: زيد ليس بقائم، فقد حكمت عليه بأنه ليس بقائم.

والأحكام في الاصطلاح هي: خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين على جهة الاقتضاء أو التخيير.

فقولهم: (الفقه هو: العلم بالأحكام الشرعية) خرجت به الأحكام الطبيعية التي هي راجعة إلى الحكم الطبيعي العادي، وخرجت به الأحكام اللغوية والأحكام المنطقية.

وقولهم: (العلم بالأحكام الشرعية المكتسبة أو المستفادة) أي: التي حصلت واستفيدت من الأدلة الشرعية، فيشمل ذلك دليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وما هو ملحق بها وجارٍ مجراها، أي: الذي دل عليه النظر الصحيح.

فالفقه يتعلق بالأحكام العملية، فيتعلق بالعبادة من صلاة وزكاة وصيام وحج، ويتعلق بالمعاملة من بيع وإجارة وشركة وهبة وقرض، وغير ذلك، فجميع هذه الأحكام توصف بكونها أحكاماً عملية بخلاف الأحكام الاعتقادية، فإن الأحكام الاعتقادية تدرس في علم العقيدة، وبين علم العقيدة والفقه ترابط، فإن الفقه طريق للاعتقاد، ولا يمكن للإنسان أن يكون فقيهاً إلا إذا كان معتقداً، أي: اعتقاد أهل السنة والجماعة.

فباب الردة باب متعلق بالعقيدة، وهو من أبواب الفقه، فإذاً لابد من الترابط بين الفقه وبين العقيدة، فالفقه فرع عن الأصل؛ لأن الإيمان لا يكمل إلا بهذه الأحكام العملية، فلا إيمان لمن لا صلاة له، ولا إيمان لمن لا يزكي، بمعنى كمال الإيمان، ولا إيمان لمن لا يصوم، بمعنى كماله كذلك، ولا إيمان لمن لا يحج، فإن أنكر الحج فقد كفر.

فمن لازم الإيمان العلم بهذه الأحكام، ولذلك قالوا: هي أحكام عملية.

قال رحمه الله تعالى: [من مقنع الإمام الموفق أبي محمد].

(مِنْ): للتبعيض؛ وهي تأتي بمعانٍ منها التبعيض، ومنها السببية كقوله تعالى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ [نوح:25] أي: بسبب خطيئاتهم، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الماء من الماء) أي: الماء الذي هو غسل الجنابة بسبب الماء وهو المني.

قوله: [من مقنع الإمام الموفق أبي محمد] هو كتاب للإمام الموفق أبي عبد الله محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي رحمة الله عليه، المتوفى عام 620هـ في يوم الفطر.

فهذا الإمام الجليل ألف كتاباً اسمه: العمدة، صاغ فيه الفقه بأقصر عبارة، واعتبره الدرجة الأولى لطالب الفقه، ثم وضع درجة ثانية فوقه وهو المقنع، وتوسع فيه قليلاً عن العمدة، ثم وضع كتاباً ثالثاً وهو الكافي، وذكر فيه القولين إشارة إلى الوجهين، وهو فوق كتاب المقنع، ثم وضع كتابه المغني وهو النهاية لمن أراد أن يتأهل لدرجة الاجتهاد.

فهذه درجات وضعها الإمام الموفق رحمة الله عليه في دراسة الفقه، وهذه عادة المتقدمين، فإنهم يضعون الفقه على مراتب، ولا يمكن لطالب العلم أن يضبط علم الفقه ويكون فقيهاً بمعنى الكلمة إلا إذا ربط الفقه بصغاره قبل كباره، وهذا أمر مهم جداً.

فالكتاب الذي بين أيدينا هو الدرجة الثانية وهو كتاب المقنع، فليس من الصواب أن يتفقه الشخص مباشرة من المغني؛ لأنه لا يتأهل لفهمه، ولذلك لابد وأن يرجع إلى البداية، وقد قال بعض العلماء في قوله تعالى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ [آل عمران:79] قالوا: العالم الرباني هو الذي يربي على صغار العلم قبل كباره.

والذي ضر الآن كثيراً ممن يتصدر لطلب العلم وتعليم العلم والفقه أنه يحفظ المسائل الكبيرة قبل أن يتقن بدهيات المسائل في الفن، وتجد الطالب يأتي في الفقه يناظر في مسألة من المسائل التي لو عرضت على عالم من السلف لرعدت فرائصه من خشية الله.

وتجده بكل بساطة وسهولة يبت لك فيها القول، فعنده إلمام بأن فلاناً قال فيها وفلاناً قال فيها، ولو أخذت بيده وقلت له: ما رأيك لو توضأت ولم تتمضمض فما حكم وضوئك؟ لقال: الله أعلم.

فلذلك ينبغي العناية بهذا الكتاب الذي بين أيدينا، فإنه يعتبر الدرجة الثانية في سلم الفقه، وقد أشار بعض العلماء إليه بقوله:

كفى الخلق بالكافي وأقنع طالباً بمقنع فقه عن كتاب مطول

ثم جاء الإمام الحجاوي رحمة الله عليه وألغى من هذا الكتاب مسائل كما سيبين إن شاء الله، وأضاف مسائل وسماه: زاد المستقنع، وسيشير إلى منهجه، فالأصل في هذا الكتاب أنه كتاب المقنع، وقد أضيفت إليه مسائل وحذفت منه مسائل.

قال رحمه الله: [على قول واحد وهو الراجح في مذهب أحمد ].

كان الفقهاء رحمة الله عليهم يكتبون الفقه على طريقتين:

- طريقة المذاهب.

- وطريقة الخلاف بين المذاهب.

أما طريقة المذاهب فهي طريقة يعتنى فيها ببيان خلاصة المذهب دون تعرض لخلافه، وهذه طريقة المتون، وهذا هو منهج الكتاب الذي معنا، أو يذكر الخلاف في المذهب فيقول: في المذهب أربع روايات، فإن ذكر الخلاف في المذهب، فإما أن يذكره عن الإمام بالروايات، وإما أن يذكره عن أصحاب الإمام بالأوجه في المذهب.

فلو قال: في المذهب وجهان، أي أن أصحابه اجتهدوا في تخريج هذه المسألة على رواياتهم، أو على أصول مذهبهم فاختلفوا فيها على وجهين أو ثلاثة أو أربعة.

فكتب المذهب إما أن تعتني بحسم المذهب بذكر الخلاصة، وإما أن تعتني ببيان الخلاف داخل المذهب، فبيّن ابن قدامة رحمه الله تعالى الخلاصة في المقنع، وبيّن الخلاصة في العمدة، وذكر الخلاف في الكافي، وذكره بإسهاب مقارناً بين المذاهب في المغني فيقول: عندنا روايتان: الأولى كذا والثانية كذا.

ثم يقول: الأولى: لا يجوز، رواها -مثلاً- الإمام علي بن سعيد عن الإمام أحمد رحمة الله عليه وبها قال الشافعي وأبو ثور وفلان وفلان، والثانية يجوز، وقال بها مالك وفلان وفلان وفلان.

قال رحمه الله تعالى: [وربما حذفت منه مسائل نادرة الوقوع]:

(رُب): للتقليل، وقد تستعمل بمعنى التكثير ولكن الأصل فيها التقليل.

وقوله: [ربما حذفت] الحذف يكون بقصد الاختصار، وقد يحذف الكلام لعدم وجود الفائدة منه.

قوله: [مسائل نادرة الوقوع].

النادر: ضد الغالب، والنادر هو الأمر قليل الحدوث، والغالب عكسه.

والمسائل الفقهية النادرة إما نادرة في زماننا كثيرة في زمانهم، وإما نادرة في زمانهم كثيرة في زمان غيرهم.

وإما نادرة في زمانهم وزماننا ولم تحدث بعد.

واعلم رحمك الله أن لمز العلماء بالمسائل النادرة من الخطأ بمكان إلا في مسائل مخصوصة فقط يردها علماء جهابذة لهم علم وإدراك، ويعرفون أن هذه المسألة لا طائل تحتها كما يقولون: (مسألة طويلة الذيل قليلة النيل).

فقولهم: (طويلة الذيل) أي: الكلام فيها كثير، و(قليلة النيل) أي: قليلة الفائدة والثمرة، هذا معنى، فإذا قال عالم جهبذ: هذه المسألة طويلة الذيل قليلة النيل قبلنا قوله، أما أن يأتي إنسان ضعيف البضاعة في العلم ليس عنده بلاء الفقيه، وما يتعرض له من مسائل ومعضلات فينكر عليهم ذكرهم هذه المسائل ويشنع عليهم فلا.

والعلماء رحمهم الله ذكروا المسائل النادرة لأسباب، منها:

أولاً: بيان قواعد تفرعت عليها هذه المسائل النادرة، ولذلك تجدهم يقولون: ويتفرع على هذا مسألة كذا وكذا، وتكون نادرة الوقوع، وإنما ذكر العلماء هذه المسألة النادرة الوقوع تفريعاً على هذه القاعدة؛ لأنه علم ولا يجوز كتمان العلم.

حتى إنهم من ورعهم رحمة الله عليهم ذكروا أقوالاً ضعيفة لا يعول عليها، ويقولون: ذكرناها من باب عدم كتمان العلم، وينبهون على ضعفها.

كل ذلك كان عندهم من الورع، فإنهم كانوا يخافون أن يموت أحدهم وفي قلبه هذه المسألة، فذكر المسائل النادرة غالباً ما يكون في الفروع، فتكون متفرعة إما على حكم أو على دليل أو قاعدة.

وقد طرأت الآن مسائل جديدة عصرية وخُرِّجَت على تلك المسائل النادرة، حتى إنني كنت في بحث الجراحة الطبية تمر بي مسائل غريبة، وأجتمع مع بعض الأطباء وبعض طلاب العلم، وتكون هناك مسائل فعلاً ذكرها العلماء وفرعوها ويكون من السهولة بمكان تخريج المسائل الجديدة عليها؛ فرحمة الله على تلك الأفهام وعلى تلك العقول التي نصحت للأمة.

فليكن كل إنسان على علم بأنهم -كما نحسبهم ولا نزكيهم على الله تعالى- ما كانوا يحبون الشهرة، ولا تحسبن أنه من العبث والفراغ والترف الفكري ذكر هذه المسألة في كتابه، حاشا وكلا، فهم أرفع -والله- بكثير من هذا كله، فلا ينبغي التشنيع في المسائل النادرة، فإن كان زمانك في غنىً عنها فليأتين زمان يحتاج إليها.

ثانياً: قد تذكر المسائل النادرة للتفريع، والفوائد التي يستفاد منها: أنه في بعض الأحيان تكون المسألة في باب الطهارة وهي من غرائب المسائل، وتكون مفرعة عليها مسألة في باب الأطعمة أو في باب النكاح، فمن ميزة فقه المتقدمين -وهذا معروف بالاستقراء والتتبع- أن الفقه عندهم كالبناء مبني بعضه على بعض، وأدلته التي يستدلون بها قل أن تجد واحداً منهم يتناقض فيثبتها في مكان وينقضها في آخره، بل تجده إذا قال مثلاً: أعتبر الدليل الفلاني فيعتبره في العبادات والمعاملات، وإذا قال: أعتبر القاعدة أو الأصل الفلاني يعتبره في العبادات والمعاملات، بينما تجد اليوم الشخص متناقضاً يبني على قاعدة ثم يهدمها.

فمن ميزات ذكر المسائل الفريدة أنه قد يحتاج إلى تخريجها في مسائل هي مذكورة في العبادة، لكنها تتفرع على مسائل في المعاملة، فقد يتفرع -مثلاً- على جلد الكلب هل هو نجس أو طاهر.

ذكرت هذه المسألة الغريبة في جلد الكلب؛ لأنه يتفرع عليها جواز بيع حذاء صنع من هذا الجلد، فإنه يحكم بطهارته ثم يحكم بجواز بيعه، فيخرج من باب تحريم النجاسات على القول بنجاسة عين الكلب.

ومن ذلك قولهم: لو حمل إنسان نجاسة في جيبه؛ إذ ما كان يتصور في الزمن القديم أن إنساناً عاقلاً يضع فضلته من بول أو غائط في إناء ثم يصلي بها، والآن ما أكثر من في المستشفيات من تجرى لهم الجراحة، ويوضع لهم الكيس المعروف الذي فيه فضلة الإنسان.

فرحمة الله على أولئك العلماء، ولكن لا ينبغي لنا التشنيع، فإن وجدنا فائدة من المسألة فالحمد لله، وإن لم تجد فَعِلم زادك الله تعالى إياه.

فعلى العموم: ينبغي التأدب مع أهل العلم، وأقول هذا لأنه بلغ ببعض طلاب العلم أن يشنع حتى في بعض المسائل الموجودة، ولذلك أقول: لا يشنع في الفقه مسألة إلا إذا شنع عالم وإمام ضابط يعلم أن هذه المسألة لا فائدة فيها فكن له متبعاً، أما أنت بفهمك مع ضعفك في مادة الفقه والعلم فلا تستعجل بالكلام على المسائل.

فالمسائل النادرة هي: المسائل التي يقل وقوعها، وهي عند العلماء على ضربين:

ضرب منها يقل وقوعه ويندر، وليس فيه ذاك البلاء الذي يحتاج فيه لها، ومسائل يندر وقوعها لكن تعظم بلواها فيحتاج إلى معرفة حكم الله تعالى فيها، كمسائل في السهو وهي نادرة، ولكن قد يصلي الرجل بآلاف ويسهو فتعظم بلواه.

قال رحمه الله: [وزدت ما على مثله يعتمد]. أي أنني سأزيد بدل هذه المسائل التي حذفتها مسائل على مثلها يعتمد، إما أنَّ (يعتمد) بمعنى أنها مسائل محررة لا خلاف فيها في المذهب، فمراده اعتماد في المذهب، أو يعني أنها مسائل تكثر لها الحاجة ويكثر لها الطلب.

قال رحمه الله: [إذ الهمم قد قصرت والأسباب المثبطة عن نيل المراد قد كثرت].

إذا كان هذا في زمانه رحمة الله عليه فكيف في زماننا؟ فنسأل الله تعالى أن يلطف بالحال، وإن شاء الله تعالى لا يزال الخير موجوداً.

والهمم: جمع همة، وذلك بأن يكون الشيء في قلب الإنسان حديثاً ووسواساً يخطر على الإنسان ويحدث به نفسه، فإذا حدث نفسه اهتم به، فالهم يكون بعد الخاطر والهاجس، ويكون بمعنى تهيؤ الإنسان للعمل، ثم يأتي بعد ذلك عزمه.

ولا شك أن قوة الإنسان في همته، ومن كانت عنده همة حَصَّل المراد، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (أسألك العزيمة على الرشد) ولذلك فكم من خير تعلمه وتعرفه ولكن لا تستطيع أن تفعله.

فقيام الليل كم فيه من الفضل والخير، وصيام النهار كم فيه من الفضل والأجر، ولكن من يهم ويعمل؟ فليس المهم أن تعلم، ولكن الأهم أن تعزم وتفعل.

وذكر أبو نعيم رحمه الله تعالى في الحلية عن بعض السلف أنه قال: علمت أن قوة الإنسان في نفسه. قالوا: وكيف ذاك؟ قال: ألا ترون الرجل العاجز يصلي ويبلغ من الطاعة ما لا يبلغه الشاب. فدل على أنها لو كانت بقوة البنيان لكان الشاب أكثر من العاجز، ولكن العاجز تراه في آخر عمره يحمل على كتفيه ويهادى على رجليه حتى يبلغ الصف الأول في المسجد بفضل الله تعالى ثم بالهمة على العمل الصالح، وترى الشاب الجلد القوي يأتي في آخر الناس، وقد تفوته الصلاة، وقد لا يصلي، فهو يحب الخير ولكن يحال بينه وبينه، لضعف الهمم.

ولذلك كانوا يعتنون دائماً بتربية العزيمة، وعبادات الإسلام غالباً تربي على العزيمة، حتى إن فرائضها ونوافلها تؤكد هذا المعنى، وهو أن يكون عند الإنسان عزيمة على الخير.

وأيام العلماء رحمة الله عليهم كانت المساجد مليئة بذكر الله جل وعلا، هذا يتلو كتابه، وهذا يراجع درسه، وتوجد حلقة علم، وحلقة فتوى، لكثرة الخير، فتجد بعد صلاة الفجر من العلم مالا يحصى كثرة، وفي الضحى، وبعد صلاة الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، وذلك بسبب همة الناس في الخير وقربهم إلى عصور الخير، فالسلف الصالح كانت مساجدهم تعج بذكر الله جل وعلا من كثرة الناس الطالبين للخير، والراغبين فيما عند الله جل وعلا.

وكان العالم إذا أراده الإنسان يجده في مسجده أو في حلقته، فهمم الناس كانت عالية، ولذلك ألفت المختصرات، وكانوا ينبهون في المختصرات، على أنها تحفظ، فكانت تحفظ مثل حفظ الفاتحة، وكان عند السلف همة في أمرين:

تعليم أنفسهم، ثم تعليم أبنائهم، فقد كان الرجل عالماً في نفسه ومعلماً لأبنائه، فكانت الهمم عالية، وكلما تباعد الناس عن ذلك الرعيل الطيب -أعني السلف الصالح- جاء زمان شر من الذي قبله، وهذا مصداق قوله عليه الصلاة والسلام: (ما من زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تقوم الساعة)، وقوله: (ولا يزال المؤمن تأتيه الفتنة فيقول: هذه، هذه.. حتى يسلمه الله) فكلما جاءت فتنة يقول: هذه آخر الفتن، ثم تأتي بعدها فتنة، وفي وصف الفتن قال صلى الله عليه وسلم: (يرقق بعضها بعضاً).

أي: إذا جاءت فتنة نسيت التي قبلها فيقال: التي قبلها أهون، فمن الفتن العظيمة التي بليت بها الأمة: ضعف الهمة في طلب العلم.

وكان الناس في الزمان الماضي والزمان القديم يرسم طالب العلم في طلبه للعلم همته، وأنه من ساعته التي يفكر فيها في طلب العلم إلى أن يلقى الله تعالى سيضع كتب العلم بين عينيه، لكن طالب العلم اليوم يفكر هل يستطيع أن يصير عالماً خلال سنتين، ثم يقول: هذا كثير، فلماذا لا نجعلها سنة؟ لماذا لا تكون شهراً؟ لماذا لا تكون أسبوعاً؟ ولو كان بيده أن يصير عالماً في يوم لفعل، وذلك من ضعف الهمة، فلما ضعفت هممهم صاروا يحتاجون إلى اختصار على قدر هذه الهمم الضعيفة.

فنسأل الله عز وجل أن يجبر هذا الكسر، وأن يرحم هذا الضعف.

قوله: [والأسباب المثبطة عن نيل المراد قد كثرت].

الإنسان يضعف عن الخير بأحد أمرين:

إما من نفسه، وإما لشيء خارجيِّ.

فقوله: [إذ الهمم] إشارة إلى العلة التي في النفوس، وقوله: [والأسباب] إشارة إلى العلة الخارجة عن النفوس، وهذا من دقة كلام العلماء رحمهم الله تعالى.

كأن تجد الرجل يهم أن يذهب لصلة رحم، ويتهيأ، وما عنده أي شك، ويحب صلة الرحم، فهيأ نفسه، ولكن تعلقت به زوجته، أو تعلق به ابنه، أو تعطلت سيارته، أو جاءه جاره، أو طرقه ضيفه، فجاءه سبب يحول بينه وبين هذا الخير.

إذاً: إما أن يكون بسبب ضعف النفس وهذا من ضعف الهمة، أو بسبب خارج عنه. فهذا هو التثبيط -نسأل الله العافية- وهو نوع من التخذيل، ومن أعظم البلاء أن الله يثبط الإنسان عن عمل الخير.

ويقول بعض العلماء: من نقم الله على العبد تثبيطه عن الخير -نسأل الله تعالى السلامة والعافية- فإن من الناس من ليست فيه النية الصادقة فيثبطه الله، كما ثبط أهل النفاق عن الخروج في ساعة العسرة وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:46].

فمن أسباب البلايا ضعف الهمة، أو الأسباب التي تحول بين الإنسان وبين الخير.

قال رحمه الله تعالى: [ومع صغر حجمه حوى ما يغني عن التطويل].

الغنى: الكفاية، تقول: هذا يغنيني، أي: يكفيني، وقد يطلق بمعنى حسن الصوت ومنه التغني، وقد يطلق بمعنى الإقامة ومنه قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ [يونس:24] أي: لم تقم بمكانها، أي: يغني عن التطويل وهو الإسهاب، كما ذكرنا وهنا يرد إشكال وهو أن العلماء رحمهم الله قد تجد في كتبهم عبارات فيها ثناء على كتبهم، أو بيان لفضل هذه الكتب أو المؤلفات، وقد ثبت في دليل الشرع النهي عن تزكية النفس، فثناؤه على كتابه أليس من باب التزكية والمدح؟

والجواب أن التزكية والثناء على النفس لها أحوال:

فإن تضمن ذلك الإدلال على الله -والعياذ بالله- وتزكية النفس على الله جل وعلا، فهذا -نسأل الله السلامة والعافية- هو المحرم ولا يجوز، كأن يثني الإنسان على نفسه بكثرة علم وعبادة تبجحاً ونوعاً من التفاخر والتعالي، وقد عاتب الله جل وعلا موسى عليه السلام لما ذكر علمه وهو عالم، ولم يكن تفاخراً، فكيف بمن فعل ذلك تفاخراً؟! وذكر الله أن الذين أهلكم من شأنهم أنهم فرحوا بما عندهم من العلم فالفرح بما عند الإنسان من العلم لا يؤمن معه أن يمكر الله به -والعياذ بالله- كما يقول العلماء، فلا تفرح بعلم إلا من باب الفرح برحمة الله.

وإن كانت التزكية على سبيل معرفة الحق والترغيب فيه، كأن تقول: تعلمت هذا العلم من العلماء، أو أفتيتك بهذه الفتوى عن العلماء، أو هذا الأمر الذي ذكرته لك موروث من الكتاب والسنة، أو تثني على شيء حينما ترى استخفاف الناس به، فهذا فعله الصحابة، كما قال أبو العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: (ما بقي أحد أعلم بمنبر النبي صلى الله عليه وسلم مني)، فهذا نوع من الثناء على نفسه بالعلم حتى يقدر قدره، فأجاز العلماء أن يثني الإنسان على نفسه بمعرفة قدره، وقد قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]، فإذا كان الإنسان عنده حق العلم ومن باب معرفة قدره فلا حرج، فهذا من باب الترغيب والتشويق في علمه، ونرجو أن لا يكون من باب التزكية والثناء، وإنما أراد به أن يعرف قدر هذا العلم الذي تعلمه، وحق لمثله، فإنك إن تعلمت علماً، ووفقك الله فيه فمن حقك أن تظهر للناس فضل هذا العلم.

قال رحمه الله تعالى: [ولا حول ولا قوة إلا بالله].

قوله: (لا حول) قيل: هو تحول الإنسان من حال إلى حال، ولذلك سمي الحول -وهو السنة- حولاً كما قالوا؛ إذ الغالب أن الإنسان إذا عاش سنة أنه يتحول، فيتغير طبعه ويتغير حاله إن لم تتغير نفسيته، ويتغير ماله فإما أن يزيد وإما أن ينقص، ويتغير أهله فإما أن يهلكوا وإما أن يبقوا، فقالوا: سمي الحول حولاً من تحول الناس فيه، ولا يبقى شيء على حال، والله المستعان.

فقوله: [ولا حول ولا قوة إلا بالله] للعلماء فيها وجهان:

فمنهم من يقول: أي: لا تحول من حال إلى حال، ولا قوة على ذلك التحول ولا بلاغ إلا بالله.

وقيل: لا حول في دفع ضره ولا قوة في بلوغ خير إلا بالله، فالله جل وعلا منه الحول ومنه الطول ومنه القوة.

وكل هذه المعاني متقاربة، ولكن المعنى الأجمع: لا حول في تحصيل خير ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه لما سمع المؤذن يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح قال: لا حول ولا قوة إلا بالله).

قال بعض العلماء: مناسبته أنه برئ من الحول والقوة في إجابة داعي الله إلا بعد توفيق الله جل وعلا، فقد يكون الإنسان راغباً في حضور الصلاة وأدائها، ولكن يحال بينه وبينها بسقم أو مرض، وقد يحال بينه وبينها بتأخر أو تقاعس، فلا حول للإنسان ولا قوة في بلوغ الخير إلا بالله جل وعلا، وهكذا في دفع الشر.

قوله: [وهو حسبنا ونعم الوكيل].

حسبي أي: كفايتي.

وجاء بصيغة الجمع (وهو حسبنا) التي تشمله وتشمل السامع والقارئ.

وقوله: [ونعم الوكيل] ثناء على الله جل وعلا، والوكيل هو: القائم على الشيء المتوكل عليه، والله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل، فهو القائم على كل نفس، وهو المتوكل بكل نفس سبحانه وتعالى، فهو حسبنا في بلوغ هذا الأمر الذي رسمناه والمنهج الذي ذكرناه.

ومعنى [ونعم الوكيل] أي: نعم من يوكل إليه الأمر.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3615 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3438 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3370 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3336 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3317 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3266 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3223 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3182 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع