الصفحة 14 من 36

بينهما، إذ فرق بين من ينكر ما قامت براهين صحته ضرورة ونقلا وعقلا كعلو السماء ووجود القمر وإحراق الشمس وضرر الخمور وخطر السرقة ونحوها من الأمور الضرورية أو العقلية ولا ينكر مثل ذلك إلا مكابر سفسطائي وبين من ينكر ما لم تقم براهين صحته أو كانت براهينه محتملة كمن ينكر كوكب (بلوتوا) أو أن عدد الكواكب إحدى عشر أو أن الجزيء أصغر مخلوق ونحو ذلك، ولما تعذر القطع بالجهل من عدمه على البشر جعلت القرائن التي تعطي ظنا غالبا في مقامها، وما زال الناس يعملون بالقرآئن الراجحة والاستدلال بما ظهر على ما بطن من العلماء والقضاة والقافة والأطباء وسائر العقلاء، وهذا المعيار العادل بين ما يخفى عادة وما لا يخفى عادة يعد معيارا عقليا ونقليا في أحكام الدنيا، أما أحكام الآخرة فالجاهل معذور حتى يمتحن يوم القيامة والعالم بها مأزور مطلقا ومأواه جهنم وساءت مصيرا.

وبهذا يتضح أن من يقول بالعذر بالجهل في المعتقدات بإطلاق ومن لا يقول بالعذر به بإطلاق دون تفريق بين خفاء المعتقد وظهوره كلاهما مخطئ مخالف لأبجديات العقول وكلاهما ظالم للحقيقة مضيع لها، وظالم لمن ينكر ما يجوز أن يخفى بقياسه على من ينكر ما لا يجوز أن يخفى كالضروريات أو العقليات الواضحات، وهذا موافق للعقول الصريحة كما ترى؛ إذ العقلاء قاطبة يفرقون بين من ينكر الشمس وبين من ينكر كوكب بلوتوا، ويفرقون بين من ينكر ضرر الخمور وبين من ينكر ضرر الغازيات، ويفرقون بين من ينكر فائدة التمر والزيتون والبرتقال وبين من ينكر فائدة الأفوكادو والاسكدنيا والبوملي!!

ومعلوم أن الله تعالى-وله الحكمة البالغة-لم يترك عباده هملا بل نصب لهم الحجج والبراهين الضرورية والنقلية والعقلية على فساد الشرك أكثر مما نصبها على فساد الربا والزنا وشرب الخمور؛ لشدة حاجة الثقلين إليها أكثر من حاجتهم إلى غيرها!! كما قال الأول:

وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد

ولهذا لم يعذر-سبحانه وتعالى-بالجهل بالمعتقدات الظاهرة كالتوحيد في أحكام الدنيا لأنها من الوضوح بمكان لا يخفى على كل عاقل مع وجود داعي الفطرة وكثير من الكفار يقطعون بأن الله خالق للسماوات والأرض وغيرها ومن لا يصرحون بذلك تجدهم يعزونه إلى قوى وراء الطبيعة أو ما تسمى بـ (الميتافيزيقيا) وغاية دعواهم الجهل، ومن علم حجة على من لم يعلم، وإلا لو تأملوا قليلا لعلموا أن هذه القوة التي خلقت الطبيعة بهذا الإتقان تدل على القدرة والحكمة ولا يمكن للقادر الحكيم أن يترك من خلقهم هملا لا ينصب لهم براهين ربوبيته و

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام