الصفحة 21 من 45

ولكنك تجد بيانه باهتاً خافتاً متهافتاً، سطحياً هامشياً، لا يفيد القارئ المتحري للصواب، والمتشوف لمعرفة موقف دينه من القضية الكبرى قضية الشعر! بل إن القارئ لكتاب الدكتور الغذّامي سيخرج بفهم مغلوط منتكس في هذه المسألة الجوهرية لتحديد هويتنا الثقافية.

إن الدكتور الغذّامي قد توصل إلى التحول الجذري الذي وقع في ثقافة العرب! والذي امتد أثره ليطالنا في زماننا الحاضر ويبلور ثقافتنا، فهل يا تُرى كان ذلك التحول هو نزول الوحي بلسان العرب؟ أو خروج الرسول العربي الأمي منهم؟

كلا، بل هذا التحول - الجذري- بينه الدكتور الغذّامي بقوله: (( حدث تحول مبكر وجذري في الثقافة العربية الجاهلية، تغير فيه الموقف العام من الشاعر: فالشاعر كان صوت القبيلة، ولكنه تخلى عن دوره هذا، ليهتم بمصلحته الخاصة أكثر، وارتبط هذا بظهور فن المديح المتكسب به ... ) ) [1] .

وقال مبيناً أهمية هذا التحول وأثره: (( أشرنا إلى حدوث تحول ثقافي جذري وقع في مرحلة ما من مراحل التحولات في العصر الجاهلي، ونتج عنه أن الشعر تحول من كونه صوتاً للقبيلة، وتخلى عن هذا الدور، ولهذا التحول مدلوله الثقافي النسقي، إذ إن الشعر في ذلك الوقت لم يكن مجرد فن من الفنون أو واحداً من [الخطابات] ، لقد كان هو(كل) شيء، فهو: علم قوم لم يكن لهم علم سواه، كما هي مقولة عمر بن الخطاب، وهو ديوان العرب، أي سجلهم التاريخي والثقافي، وحينما يتحول هذا الخطاب الذي هو خطاب الشخصية القومية للأمة، حينما يتحول من متحدث باسم الجماعة إلى متحدث باسم الفرد، فإن ذلك يعني أن الخطاب الثقافي كله صار خطاباً ذاتياً وفردياً، وسيعزز القيم الفردية والمصلحة الخاصة.

ولقد تصاحب هذا التحول مع نشوء فن المديح، والمديح والفردية وجهان لعملة واحدة، إذ لا يمكن للمداح إلا أن يكون فردياً متمصلحاً، ولا بد أن يكون كذاباً ومبالغاً، ولا بد أن يصور الباطل في صورة الحق، ولا بد أن ينتظر مقابلاً مادياً، كثمن لكذبه البليغ.

إذا وقع هذا مع الفن الذي هو ديوان الأمة، وعلمها الذي لا علم لها سواه، فهو - أولاً - سيطبع الشخصية الثقافية بتلك السمات التي اكتسبها هذا الفن من مهنته الجديدة، ثم إنه - ثانياً - سيخلق طبقة ثقافية جديدة تتحلى بتلك السمات. وهذه طبقة أخذت بالتشكل منذ ذلك الزمن، وعبرها جرى ثقافياً اختراع (الفحل) الذي ابتدأ فحلاً شعرياً، غير أنه تحول ليكون فحلاً ثقافياً، يتكرر في كافة الخطابات والسلوكيات الاجتماعية والثقافية والسياسية.

(1) "النقد الثقافي" (ص 100) .

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام