وما ذاك إلا لأن الشعر في الأصل هو علمنا وديواننا، وما يحدث فيه يصبغ شخصيتنا ويؤثر في تكوينها وتوجيه سلوكها، وسيكون مسؤولاً عن سماتنا الشخصية، بمثل ما هو مستودع ثقافي لهذه السمات.
ومرور ذلك من دون نقد، هو ما جعل الشعرية علة ثقافية تتحكم فينا، من دون مساءلة أو مواجهة، وظل ذلك يحدث من زمن الجاهلية، وانبعاثها النسقي في زمن بني أمية، وتعزز ذلك زمن التدوين، إلى يومنا هذا، وكل القيم التي اصطنعها الشعر تحولت لتكون قيماً للذات العربية الثقافية ولمنظومة السلوك الاجتماعي العربي، ولقد تشعرنت الذات، وتشعرنت القيم معها ... )) [1] .
ثم عاد ليقول بعدها: (( حدث تطور ثقافي خطير في أواخر العصر الجاهلية، تغير معه النسق الثقافي العربي منذ ذلك الوقت إلى اليوم، وتحولت النحن إلى الأنا، مثلما تحولت القيم من بعدها الإنساني إلى بعد ذاتي نفعي أناني، وتحول الخطاب الثقافي إلى خطاب كاذب ومنافق، وهو أخطر تحول حدث في الثقافة العربية وأثر تأثيراً سلبياً. ذلك هو ظهور شاعر المديح وثقافة المدائح ...
هذا تحول ثقافي له آثاره في ثقافتنا، وحدوثه في أواخر العصر الجاهلي جعله هو النموذج المحتذى، حينما صارت العودة إلى القيم الثقافية الجاهلية مع مطلع العصر الأموي، وهي العودة التي رسخت الأعراف الجاهلية، وأدت إلى تحولها إلى أنساق ثقافية راسخة ومتجذرة، وتخلق عنها أنماط سلوكية وأعراف ثقافية ... )) [2] .
مع هذا التقرير والطرح يتبادر السؤال لذهن القارئ: ما موقف الإسلام من الشعر؟
فيأتيه تقرير الدكتور الغذّامي في هذا الجانب، لا يشفي عليلاً، ولا يروي غليلاً، بل هو في حد ذاته مما يزيد الأمر سوءاً والطين بلة!
فقد استشهد الدكتور الغذّامي بحديث: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يَرِيَه خير من أن يمتلئ شعراً) [3] .
ثم قال: (( هذا أول موقف مضاد للشعر، ولهذا الموقف أثر في الخطاب الثقافي والتدويني ) )، ثم ذكر
(1) "النقد الثقافي" (ص 118 - 119) .
(2) "النقد الثقافي" (ص 143 - 144) .
(3) وعزاه إلى"العمدة"لابن رشيق: محمد محيي الدين عبد الحميد (1/ 31) وقال الدكتور الغذّامي: وانظر صحيح البخاري: كتاب الأدب (87) .
والحديث بنحوه في صحيح البخاري: (5/ 2279/ح5803) وعند مسلم: (4/ 1769/ح2257) .