أمثلة على ذلك من مقولات: الجاحظ، والثعالبي، والأصمعي، وما أُثر عن بعض الشعراء، كالفرزدق، والمتنبي، ثم قال:
(( هذه ليست سوى أمثلة على آراء منتشرة ومبثوثة في التراث: لا تضع الشعر في موضع رفيع، ويبدو عليها الإحساس بالمشكل الشعري، غير أن هذا لم يتطور إلى نظرية ناقدة للخطاب الشعري، إنها لم تتطور إلى نظرية نقدية أو حتى إلى وعي نقدي(!) ، لأن المؤسسة الثقافية الشعرية كانت أقوى وأنفذ (!) ، فالشعر: علم العرب الذي ليس لهم علم سواه - كما قال عمر بن الخطاب [1] وهو توصيف موضوعي صادق يصف الحال الثقافية للعرب، مما جعل الشعر ديوان العرب وسجل وجودها الإنساني والتاريخي، وبما إنه كذلك فلا مفر من حث الناس على تعلمه، كما فعل عمر في رسائل إلى بعض ولاته، وكما فعل ابن عباس الذي جعل الشعر أحد مصادر تفسير الآيات القرآنية، وهذا لم يجعل الشعر مصدراً علمياً وتاريخاً فحسب، بل جعل له قيمة أخلاقية، بما إنه ديوان المآثر وسجل الأخلاق. وهذا حوّل الشعراء إلى نماذج بشرية تحتذى أقوالهم، ومع الأقوال ستأتي الأفعال أيضاً لتكون نموذجاً سلوكياً يستعاد إنتاجه، وسيتخذ كل قول شعري وكل مسلك شاعري صفة عربية، مذ كان الشعر ديوان العرب، أي أنه صورة العربي النسقية والثقافية، ومن ثم فإن الشعراء سيصبحون أمراء الثقافة (أمراء الكلام كما قال الخليل بن أحمد) وستكون الذات العربية ذاتاً شعرية، وستكون القيم الشعرية هي القيم الثقافية وقيم السلوك الاجتماعي، وهذا ما حدث فعلاً حيث صار الشعر هو المؤسسة الثقافية العربية، وتمت شعرنة الذات العربية، وشعرنة الخطاب العربي )) [2] .
وقال الدكتور الغذّامي: (( ونحن نشهد ونرى أن عصر الفتوحات الإسلامية لم يكن عصراً شعرياً، وإنما هو عصر الإنجاز، مما يشير إلى أن الشعر والإنجاز شيئان متغايران. وحينما ركن العرب للراحة والسكون عادوا إلى الشعر - حسب شهادة ابن سلام الجمحي- وابتدأت العودة إلى ثقافة الجاهلية وأنساقها الشعرية المتجذرة في الوجدان، والتي شبت ونمت مع بني أمية ثم بني العباس ... ) ) [3] .
ونجد أن الدكتور الغذّامي انتقد جانبين منهجيين في الشعر، هما: عدم الفاعلية، وعدم العقلانية، فكان مما قال في حديثه عن طبيعة الشاعر الشحاذ: (( غير أن هذا المتعالي هبط إلى أعمق أعماق الضمير الثقافي، وتولى صياغة الذات الثقافية والسلوكية، وأنتج نُسخاً لا تحصى من النماذج المتشعرنة ... ومن داخل هذا الفراغ الذي أهم سماته اللا فاعلية واللا عقلانية، يتسلل للثقافة سادة من الأشباح الثقافية
(1) عزاه إلى"العمدة" (1/ 27) .
(2) "النقد الثقافي" (ص 97 - 98) .
(3) "النقد الثقافي" (ص 115) .