لا يخفى على ناظر في تاريخ العرب عنايتهم الظاهرة باللغة والفصاحة والقيم البلاغية، ومنها الشعر.
قال ابن العبري [1] : (( فأما علم العرب الذين كانوا يفاخرون به: فعلم لسانهم وأحكام لغتهم ونظم الأشعار وتأليف الخطب، وكان لهم مع هذا معرفة بأوقات مطالع النجوم ومغاربها وعلم بأنواء الكواكب وأمطارها ... فهذه كانت حالهم في الجاهلية ) ) [2] .
وقد جاء الإسلام مخاطباً هذه الروح لدى العرب، ونزل القرآن بلسانهم، وجاء معجزاً في بيانه، فكانت معجزة الإسلام الخالدة مطابقة لأعلى اهتمامات العرب، الأمر الذي جعلهم يشهدون بإعجاز هذا الكتاب، بلسان الحال أو المقال، آمنوا به أو لم يؤمنوا.
وأستشهد هنا بشاهدين، أولهما مؤمن، والثاني كافر.
فأما المؤمن فما جاء عن الصحابي الجليل الطفيل بن عمرو - رضي الله عنه - أنه (قدم مكة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها، فمشى إليه رجال قريش، وكان الطفيل رجلاً شريفاً شاعراً لبيباً، فقالوا له: إنك قدمت بلادنا وهذا الرجل الذي بين أظهرنا: فرّق جماعتنا وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر! يفرق بين المرء وبين أبيه وبين الرجل وبين أخيه وبين الرجل وبين زوجته، وإنا نخشى عليك وعلى قومك، ما قد دخل عليك فلا تكلمه ولا تسمعن منه.
قال: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئاً ولا أكلمه، حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفاً فرقاً من أن يبلغني شيء من قوله!
قال: فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي عند الكعبة، قمت قريباً منه، فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله، فسمعت كلاماً حسناً. فقلت في نفسي: واثكل أماه! والله إني لرجل لبيب شاعر، ما يخفى علي الحسن من القبيح، فما يمنعني من أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟! فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلت، وإن كان قبيحاً تركت.
قال: فمكثت أياماً حتى انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ثنية، فاتبعته حتى إذا حل منه دخلت عليه
(1) أبو الفرج غريغوريوس بن أهرون بن توما الملطي، المعروف بابن العبري: مؤرخ سرياني مستعرب، من نصارى اليعاقبة. توفي (685هـ) . انظر:"الأعلام للزركلي" (5/ 117) .
(2) "مختصر تاريخ الدول"لابن العبري. (ص47) ضمن المكتبة الشاملة.