الصفحة 7 من 25

ثم قال: {إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداءًا} فبين أنهم إن قدروا على المسلم، واستولوا عليه: ساموه سوء العذاب، وبسطوا إليه أيديهم وألسنتهم بالضرب أو القتل، وبالكلام الغليظ، ولو كان يواليهم ويكاتبهم في حال بعده عنهم، فإنهم لا يرضون عنه ويسلمونه من شرهم، حتى يكون دينه دينهم، ولهذا قال: {وودوا لو تكفرون} وكما قال: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم} .

ثم قال: {لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة} فبين أن كون الرجل له أرحام وأولاد عند المشركين، لا يبيح له موالاتهم، كما اعتذر هذا الرجل بأن له في مكة أرحاما وأولاداً، فلم يعذره الله تعالى، فإنه يجب على الإنسان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ولا يحصل الإيمان حتى يكون الرسول أحب إلى الإنسان من ولده ووالده والناس أجمعين.

فقوله: {لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة} أي: لن ينجوكم من عذاب الله، فكيف تقدمونهم على مراد الله؟، ولأجلهم توالون أعداء الله!! والله تعالى مطلع عليكم، بصير بأقوالكم وأعمالكم ونيّاتكم.

ثم بين أن هذا الذي دلهم عليه من موالاة المؤمنين، ونهاهم عنه من موالاة الكافرين: ليس هو أمراً لهم وحدهم، بل هو الصراط المستقيم الذي عليه جميع المرسلين فقال: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه} أي: من المرسلين {إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده} .

فقوله: {قد كانت لكم أسوة حسنة} كقوله تعالى: {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا} .

فأمرنا سبحانه وتعالى أن نتأسى بإبراهيم الخليل ومن معه من المرسلين في قولهم: {إنا برءاء منكم} ، إلى آخره، وإذا كان واجبا على المسلم أن يقول هذا لقومه الذين هو بين أظهرهم، فكونه واجبا للكفار الأبعدين عنه المخالفين له في جميع الأمور، أبين وأبين.

وهاهنا نكتة بديعة في قوله: {إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله} : وهي أن الله تعالى قدم البراءة من المشركين العابدين غير الله، على البراءة من الأوثان المعبودة من دون الله، لأن الأول أهم من الثاني، فإنه قد يتبرأ من الأوثان ولا يتبرأ ممن عبدها، فلا يكون آتياً بالواجب عليه، وأما إذا تبرأ من المشركين، فإن هذا يستلزم البراءة من معبوداتهم.

وهذا كقوله تعالى: {وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا} فقدم اعتزالهم على اعتزال معبوداتهم، وكذا قوله: {فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله} ، وقوله: {وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله} فعليك بهذه النكتة، فإنها تفتح لك بابا إلى عداوة أعداء الله، فكم من إنسان لا يقع منه الشرك، ولكنه لا يعادي أهله!! فلا يكون مسلما بذلك، إذا ترك دين جميع المرسلين.

ثم قال: {كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا} فقوله: {وبدا} أي: ظهر وبان. وتأمل تقديم العداوة على البغضاء، لأن الأولى أهم من الثانية، فإن الإنسان قد يبغض المشركين ولا يعاديهم فلا يكون آتياً بالواجب عليه حتى تحصل منه العداوة والبغضاء، ولابد أيضاً من أن تكون العداوة والبغضاء باديتين، أي: ظاهرتين بينتين.

واعلم انه وإن كانت البغضاء متعلقة بالقلب، فإنها لا تنفع حتى تظهر آثارها وتبين علاماتها، ولا تكون كذلك حتى تقترن بالعداوة والمقاطعة، فحينئذ تكون العداوة والبغضاء ظاهرتين، وأما إذا وجدت الموالاة والمواصلة، فإن ذلك يدل على عدم البغضاء، فعليك بتأمل هذا الموضع فإنه يجلو عنك شبهات كثيرة، ثم قال: {إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين، وأخرجوكم من دياركم، وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون} فذكر سبحانه وتعالى أفعالا تدعو إلى مقاطعتهم، وترك موالاتهم، وهي: أنهم يقاتلون في الدين، أي: من أجله، يعني أن الذي حملهم على قتالكم ما أنتم عليه من الدين لعداوتهم له، وأيضا يخرجون المؤمنين من ديارهم، ويعاونون على إخراجهم، فمن تولاهم مع ذلك فهو من أظلم الظالمين.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام