اعلم أن الله سبحانه وتعالى، بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، فبين للناس ما نزل إليهم، فما من خير إلا دلهم عليه وعرفهم الطريق الموصلة إليه، وما من شر إلا حذرهم منه وسد عليهم أبوابه المفضية إليه.
ومن أعظم ذلك أنه أخبرهم أن: (الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريبا كما بدأ) وأخبرهم بظهور الفتن التي: (كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي كافرا ويصبح مؤمنا، يبيع دينه بعرض من الدنيا) فكان وقوع هذا لما وقع هو وأمثاله، من الأدلة على أنه رسول الله.
ومما أخبر به: أن أمته تقاتل الترك الكفار، ووصفهم بأنهم صغار العيون ذلف الأنوف، كأن وجوههم المجان المطرقة. ومعنى ذلف الأنوف: أنها قصار منبطحة.
والمجان: جمع مِجن، وهو الترس. أراد أنه وجوههم مستديرة ناتئة وجناتها. هذا معنى كلام البغوي في شرح السنة.
فكان من حكمة الله وعدله أن سلطهم في المائة الثالثة عشرة فخرجوا على أهل الديار النجدية، لمّا ظهرت فيهم الملة الحنيفية ودعوا إلى الطريقة المحمدية، ولكن حصل من بعضهم ذنوب بها تسلطت هذه الدولة الكفرية، فجرى ما هو ثابت في الأقدار الأزلية، وإن كانت لا تجيزه الأحكام الشرعية، والله تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وامتحن أهل الإسلام بأمور تشبه ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في حادثة ظهور التتار في زمنه، وهم بادية الترك، فناسب أن نذكر بعض كلامه.
قال رحمه الله تعالى: فإن هذه الفتنة التي ابتلي بها المسلمون مع هذا العدو المفسد الخارج عن شريعة الإسلام، قد جرى فيها شبهٌ بما جرى للمسلمين مع عدوهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المغازي التي أنزل الله فيها كتابه، وابتلى بها نبيه والمؤمنين، مما هو أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيرا، إلى يوم القيامة. فإن نصوص الكتاب والسنة، اللذين هما دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، تتناول عموم الخلق بالعموم اللفظي والمعنوي، وبالعموم المعنوي.
وعهود الله في كتابه وسنته، تتناول آخر هذه الأمة كما نالت أولها. وإنما قص الله علينا قصص من قبلنا من الأمم، ليكون عبرة لنا فنشبّه حالنا بحالهم، ونقيس أواخر الأمم بأوائلها. فيكون للمؤمن من المستأخرين شبه بما كان للمؤمن من المستقدمين، ويكون للكافر والمنافق من المستأخرين شبه بما كان للكافر والمنافق من المستقدمين.
كما قال تعالى لما قص قصة يوسف مفصلة و أجمل ذكر قصص الأنبياء: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} ، وقال لما ذكر قصة فرعون: {فأخذه الله نكال الآخرة والأولى. إن في ذلك لعبرة لمن يخشى} ، وقال في محاصرة بني النضير: {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم} ، إلى قوله: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} .
فأمرنا أن نعتبر بأحوال المستقدمين علينا من هذه الأمة وممن قبلها، وذكر في غير موضع، أن سنته في ذلك سنة مطّردة وعادة مستمرة فقال تعالى: {لئن لم ينتهي المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا. ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا. سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} ، وقال تعالى: {ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون ولياً ولا نصيرا. سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} وأخبر سبحانه أن دأب الكافرين من المستأخرين، كدأب الكافرين من المستقدمين.
فينبغي للعقلاء أن يعتبروا سنة الله وأيامه في عباده، ودأب الأمم وعاداتهم، لاسيما في مثل هذه الحادثة العظيمة التي طبق خبرها، واستطار في جميع ديار المسلمين شررها، وأطلع فيها النفاق ناصية رأسه، وكشر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه، وكاد فيها عمود الكتاب أن يجتث ويخترم، وحبل الإيمان أن ينقطع ويصطلم، وعقير دار المؤمنين أن يحل بها البوار، وأن يزول هذا الدين باستيلاء الفجرة التتار، وظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض أن: {ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا} وأن لن ينقلب حزب الله ورسوله إلى أهليهم أبدا، وزين ذلك في قلوبهم وظنوا ظن السوء وكانوا قوما بورا.