الصفحة 21 من 25

وأما المسألة الثالثة: وهي ما يعذر الرجل به على موافقة المشركين، وإظهار الطاعة لهم.

فاعلم أن إظهار الموافقة للمشركين، له ثلاث حالات:

الحال الأولى:

أن يوافقهم في الظاهر والباطن فينقاد لهم بظاهره، ويميل إليهم ويوادهم بباطنه، فهذا كافر خارج من الإسلام، سواء كان مكرها على ذلك أو لم يكن وهو ممن قال الله فيه: {ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم} .

الحال الثاني:

أن يوافقهم ويميل إليهم في الباطن، مع مخالفته لهم في الظاهر، فهذا كافر أيضا، ولكن إذا عمل بالإسلام ظاهرا عصم ماله ودمه، وهو المنافق.

الحال الثالث:

أن يوافقهم في الظاهر مع مخالفته لهم في الباطن، وهو على وجهين:

أحدهما: أن يفعل ذلك لكونه في سلطانهم، مع ضربهم أو تقييدهم له، أو يتهددونه بالقتل، فيقولون له: إما أن توافقنا وتظهر الإنقياد لنا، وإلا قتلناك. فإنه والحالة هذه يجوز له موافقتهم في الظاهر مع كون قلبه مطمئن بالإيمان، كما جرى لعمار حين أنزل الله تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} وكما قال تعالى: {إلا أن تتقوا منهم تقاة} فإن الآيتين متفقتين، كما نبه على ذلك ابن كثير في تفسير آية آل عمران.

الوجه الثاني: أن يوافقهم في الظاهر مع مخالفته لهم في الباطن، وهو ليس في سلطانهم، وإنما حمله على ذلك إما طمع في رئاسة أو مال، أو مشحة بوطن، أو عيال، أو خوف مما يحدث في المآل. فإنه في هذه الحال يكون مرتدا، ولا تنفعه كراهته في الباطن، وهو ممن قال الله فيه: {ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين} فأخبر أنه لم يحملهم على الكفر الجهل بالحق أو بغضه، ولا محبة الباطل، وإنما هو أن لهم حظا من حظوظ الدنيا، فآثروه على الدين. هذا معنى كلام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى وعفا عنه.

وأما ما يعتقده كثيرا من الناس عذرا، فإنه من تزيين الشيطان وتسويله، وذلك أن بعضهم إذا خوفه أولياء الشيطان خوفا لا حقيقة له، ظن أنه يجوز له بذلك إظهار الموافقة للمشركين، والانقياد لهم.

وآخر منهم إذا زين له الشيطان طمعا دنيويا، تخيل أنه يجوز له موافقة المشركين لأجل ذلك، وشبه على الجهال أنه مكره. وقد ذكر العلماء صفة الإكراه.

قال شيخ الإسلام: تأملت المذاهب، فوجدت الإكراه يختلف باختلاف المكره عليه. فليس الإكراه المعتبر في كلمة الكفر، كالإكراه المعتبر في الهبة ونحوها، فإن أحمد قد نص في غير موضع على أن الإكراه على الكفر لا يكون إلا بالتعذيب من ضرب أو قيد، ولا يكون الكلام إكراها. وقد نص على أن المرأة لو وهبت زوجها صداقها بمسكنه، فلها أن ترجع، بناءا على أنها لا تهب إلا إذا خافت أن يطلقها، أو يسيء عشرتها. فجعل خوف الطلاق أو سوء العشرة، إكراها. ولفظه في موضع آخر: لأنه أكرهها، ومثل هذا لا يكون إكراها على الكفر، فإن الأسير إن خشي من الكفار أن لا يزوجوه وأن يحولوا بينه وبين امرأته، لم يبح له التكلم بكلمة الكفر. اهـ.

والمقصود منه: أن الإكراه على كلمة الكفر لا يكون إلا بالتعذيب: من ضرب أو قيد، وإن الكلام لا يكون إكراها، وكذلك الخوف من أن يحول الكفار بينه وبين زوجته، لايكون إكراها. فإذا علمت ذلك وعرفت ما وقع من كثير من الناس، تبين لك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ) وقد عاد غريبا، وأغرب منه من يعرفه على الحقيقة.

وبالله التوفيق.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام