الصفحة 23 من 25

وأما المسألة الخامسة: وهي مسألة الاستضعاف.

فإن كثيرا من الناس، بل أكثر ممن ينتسب إلى العلم في هذه الأزمان، غلطوا في معنى الاستضعاف، وما هو المراد به، وقد بين الله ذلك في كتابه بيانا شافيا فقال: {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها وأجعل لنا من لدنك وليا وأجعل لنا من لدنك نصيرا} .

فبين تعالى مقالتهم الدالة على أنهم لم يقيموا مختارين للمقام، وذلك أنهم يدعون الله أن يخرجهم، فدل على حرصهم على الخروج وأنه متعذر عليهم.

ويدل على ذلك: وصفهم أهل القرية بالظلم، وسؤالهم ربهم أن يجعل لهم وليا يتولاهم ويتولونه، وأن يجعل لهم ناصرا ينصرهم على أعدائهم الذين هم بين أظهرهم.

وقال تعالى: {إلا المستضغفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا} فذكر في هذه الآية حالهم التي هم عليها وهي أنهم لا يستطيعون حيلة.

قال ابن كثير: ولا يقدرون على التخلص من أيدي المشركين، ولو قدروا ما عرفوا يسلكون الطريق، ولهذا قال: {لا يستطيعون حيلة} قال عكرمة: يعني نهوضا إلى المدينة. {ولا يهتدون سبيلا} قال مجاهد وعكرمة: يعني طريقا. اهـ.

والحاصل أن المستضغفين هم العاجزون عن الخروج من بين أظهر المشركين، وهم مع ذلك يقولون: {ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا} وهم مع ذلك لا يدلون الطريق فمن كانت هذه حاله وذلك مقاله: {فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله غفورا رحيما} .

وأما إذا كان يقدر على الخروج من بلاد المشركين، ولم يمنعه من ذلك إلا المشحة بوطنه، أو عشيرته أو ماله أو غير ذلك، فإن الله تعالى لم يعذر من تعذر بذلك وسماه ظالما لنفسه، فقال: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا} .

وفي تفسير الجلالين قوله: {ظالمي أنفسهم} أي: بالمقام بين المشركين.

وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: فهذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة وليس متمكنا من إقامة الدين، فهو مرتكب حراما بالإجماع وبنص الآية، حيث يقول: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} أي: بترك الهجرة {قالوا فيم كنتم} أي: لم مكثتم هاهنا وتركتم الهجرة {قالوا كنا مستضعفين في الأرض} أي: لا نقدر على الخروج من البلد، ولا الذهاب في الأرض {قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا} .

وروى أبو داود عن سمرة بن جندب مرفوعا: (من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله) .

وقال السدي: لما أسر العباس وعقيل ونوفل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: (أفد نفسك وأبني أخيك) قال: يا رسول الله ألم نصلي قبلتك، ونشهد شهادتك، قال: (يا عباس إنكم خاصمتم فخصمتم) ثم تلا هذه الآية: {ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها} . رواه ابن أبي حاتم اهـ.

والمقصود منه بيان مسألة الإستضعاف وأن المستضعف هو الذي لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا وهو مع ذلك يقول: {ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا} وبيان أن الذي يعتذر بوطنه أو عشيرته أو ماله ويدعي أنه يكون بذلك مستضعفا، كاذبا في دعواه وعذره غير مقبول عند الله تعالى ولا عند رسوله ولا عند أهل العلم بشريعة الله.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام