الصفحة 14 من 25

ومن تابع غيره في بعض أموره، فهو منه في ذلك الأمر، لأن قول القائل: أنا من هذا، وهذا مني. أي: أنا من نوعه، وهو من نوعي، لأن الشخصين لا يتحدان إلا بالنوع، كما في قوله: {بعضهم من بعض} ، وقوله عليه السلام لعلي: (أنت مني وأنا منك) .

وقول القائل: لست من هذا في شيء. أي: أنا متبرئ من جميع أموره. وإذا كان الله قد برأ رسوله من جميع أمورهم، فمن كان متابعا للرسول صلى الله عليه وسلم حقيقة كان متبرئاً كتبرئه، ومن كان موافقا لهم كان مخالفا للرسول صلى الله عليه وسلم بقدر موافقته لهم، فإن الشخصين المختلفين من كل وجه، كلما شابهت أحدهما خالفت الآخر.

وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} ، وقال تعالى: {ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم} يعيب بذلك المنافقين الذين تولوا اليهود، إلى قوله: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حآد الله ورسوله} ، إلى آخر السورة، وقال تعالى: {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض} ، إلى آخر السورة.

فعقد سبحانه وتعالى: الموالاة بين المهاجرين والأنصار، وبين من آمن من بعدهم وهاجر وجاهد إلى يوم القيامة.

والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه، والجهاد باق إلى يوم القيامة، وقال تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا} الآيتين، ونظائر هذا في غير موضع من القرآن، يأمر سبحانه بموالاة المؤمنين حقا الذين هم حزبه وجنده، ويخبر أن هؤلاء لا يوالون الكافرين، ولا يوادنهم، والموالاة والموادة: وإن كانت متعلقة بالقلب، لكن المخالفة في الظاهر، أعون على مقاطعة الكافرين ومباينتهم.

مشاركتهم في الظاهر، وإن لم تكن ذريعة، أو سببا قريباً أو بعيدا إلى نوع ما من الموالاة والموادة: فليس فيها مصلحة المقاطعة والمباينة، مع أنها تدعو إلى نوع ما من المواصلة، كما توجبه الطبيعة، وتدل عليه العادة، ولهذا كان السلف رضي الله عنهم يستدلون بهذه الآيات، على ترك الاستعانة بهم في الولايات.

فروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قلت لعمر رضي الله عنه: إن لي كاتبا نصرانيا. قال: ما لك؟ قاتلك الله، أما سمعت الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} ألا اتخذت حنيفا، قال: قلت: يا أمير المؤمنين: إن لي كتابته، وله دينه، قال: لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله.

وكما دل عليه معنى الكتاب، جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه الراشدين التي أجمع الفقهاء عليها بمخالفتهم وترك التشبه بهم.

ففي الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم) أمر بمخالفتهم، وذلك يقتضي أن يكون جنس مخالفتهم أمرا مقصودا للشارع، لأنه إن كان الأمر بجنس المخالفة حصل المقصود، وإن كان الأمر بمخالفة في تغيير الشعر فقط فهو لأجل ما فيه من المخالفة.

فالمخالفة: إما علة مفردة، أو علة أخرى، أو بعض علة، وعلى التقديرات تكون مأمورا بها، مطلوبة من الشارع.

وقال تعالى: {والذين لا يشهدون الزور} قال الضحاك: الزور، عيد المشركين. رواه أبو الشيخ بإسناده، وبإسناده عنه الزور: كلام الشرك. وبإسناده عن ابن مرة: لا يمالؤون أهل الشرك على شركهم، ولا يخالطونهم.

وبإسناده عن عطاء بن يسار قال: قال عمر: (إياكم ورطانة الأعاجم، وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم) .

وقول هؤلاء التابعين: إنه أعياد الكفار. ليس مخالفا لقول بعضهم: إنه الشرك، أو صنم كان في الجاهلية. ولقول بعضهم: إنه مجالس الخنا. وقول بعضهم: إنه الغناء. لأن عادة السلف في تفسيرهم هكذا، يذكر الرجل نوعا من أنواع المسمى، لحاجة المستمع إليه، أو لينبه به على الجنس.

ووجه تفسير التابعين: أن الزور: هو المحسّن المموّه، حتى يظهر بخلاف ما هو عليه في الحقيقة. ولهذا فسره السلف: تارة بما يظهر حسنه لشبهة، أو لشهوة. فإن الشرك ونحوه: يظهر حسنه للشبهة، والغناء ونحوه: يظهر حسنه للشهوة.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام