الصفحة 13 من 25

والغرض: أنه صلى الله عليه وسلم لما كره بوق اليهود المنفوخ بالفم وناقوس النصارى المضروب باليد، علل هذا بأنه من أمر اليهود، وعلل هذا بأنه من أمر النصارى، لأن ذكر الوصف عقيب الحكم يدل على أنه علة له، وهذا يقتضي نهيه عما هو من أمر اليهود والنصارى، ويقتضي كراهة هذا النوع من الأصوات مطلقا في غير الصلاة أيضا، لأنه من أمر اليهود والنصارى.

فإن النصارى كانوا، يضربون بالنواقيس في أوقات متعددة غير أوقات عباداتهم، وإنما شعار الدين الحنيف الآذان المتضمن للإعلان بذكر الله سبحانه، الذي به تفتح أبواب السماء وتهرب الشياطين، وتنزل الرحمة، وقد أبتُلي كثير من هذه الأمة من الملوك وغيرهم بهذا الشعار اليهودي والنصراني، وهذه المشابهة لليهود والنصارى وللأعاجم من الروم والفرس، لما غلبت على ملوك المشرق هي وأمثالها، مما خالفوا به هدي المسلمين ودخلوا فيما كرهه الله ورسوله، سلط الله عليهم الترك الكافرون الموعود بقتالهم، حتى فعلوا في العباد والبلاد ما لم يجرِ في دولة الإسلام مثله، وذلك تصديق قوله صلى الله عليه وسلم: (لتركبن سنن من كان قبلكم) . انتهى من الإقتضاء.

وكما وقع من العقوبة على مخالفة هدي المسلمين بتسليط الترك الكفار على ما ذكره شيخ الإسلام، وقع نظيره في هذه الأزمان، فإن المنتسبين إلى الإسلام لما سلكوا كثيرا من هدي اليهود والنصارى وأهل الجاهلية المشركين والأعاجم أعداء الدين وتشبهوا بهم في كثير من الأمور سلط عليه الترك الكافرون الخارجون عن شرائع الإسلام.

فجرى على الإسلام محن عظيمة، وأمور كبيرة حتى أنهم يذلون الرئيس، ويمتهنون الشيخ الكبير، ولا يرحمون العاجز، ولا الضعيف فأفسدوا الأديان، وخربوا البلدان، وأهانوا الأبدان، وذلك بحكمة الديان عقوبة على الظلم والعصيان، والله المستعان وعليه التكلان.

ولكن من رحمة الله تعالى أن الحق لا يزول، ويأبى الله إلا إظهار دين الرسول: {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} فإذا محص الله أهل الإيمان وانتهى ما عاقبهم به على العصيان، وشمخت أنوف أهل الفساد والكفران، وظنوا أن الدولة لهم في غابر الأزمان، أظهر الله عليهم شمس الإسلام والإيمان، فمزقهم بها في أقرب أوان، وشردهم إلى أقصى البلدان، قال ابن القيم رحمه الله تعالى:

والله ناصر دينه وكتابه ورسوله في سائر الأزمان

لكن بمحنة حزبه من حزبه ذا حكمه مذ كانت الفئتان

وقال أيضاً:

والحق منصور وممتحن فلا تعجب فهذه سنة الرحمن

وبذاك يظهر حزبه من حزبه ولأجل ذاك الناس طائفتان

وقال شيخ الإسلام في الكلام على شروط أهل الذمة: وذلك يقتضي إجماع المسلمين على التمييز عن الكفار ظاهرا، وترك التشبه بهم، ولقد كان أمراء العدل مثل العمرين وغيرهم يبالغون في تحقيق ذلك بما يتم به المقصود.

وقد روى أبو الشيخ الأصبهاني، أن عمر رضي الله عنه كتب: أن لا تكاتبوا أهل الذمة فتجري بينكم وبينهم المودة، ولا تكنوهم، وأذلوهم، ولا تظلموهم.

ثم قال: ومن جملة الشروط: ما يعود بإخفاء منكرات دينهم، وترك إظهارها، ومنها ما يعود بإخفاء شعار دينهم، فاتفق عمر رضي الله عنه والمسلمون معه وسائر العلماء بعدهم ومن وفقه الله عز وجل، من ولاة الأمر: على منعهم من أن يظهروا في الإسلام شيئا مما يختصون به، مبالغة في أن لا يظهر في دار الإسلام خصائص المشركين.

فكيف إذا عملها المسلمون وأظهروها هم!!

ومنها ما يعود بترك إكرامهم، وإلزامهم الصغار الذي شرعه الله تعالى، ومن المعلوم أن تعظيم أعيادهم ونحوها بالموافقة فيها نوع من إكرامهم، فإنهم يفرحون بذلك، ويسرون به، كما يغتمون بإهمال أمر دينهم الباطل.

قال شيخ الإسلام أيضاً: وقال تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} ومعلوم أن الكفار فرقوا دينهم وكانوا شيعا، كما قال تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا} وقد قال لنبيه: {لست منهم في شيء} وذلك يقتضي تبرؤه منهم في جميع الأشياء.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام