فهرس الكتاب
الصفحة 159 من 196

من الغير لا محالة، والهداية وإن اعتمدت على غزارة العقل ففوائدها يمكن فيها الاستعارة بطريق المراجعة والاستشارة، والعلم أيضا يمكنه تحصيله بالاستفتاء واستطلاع رأى العلماء؛ والورع هو الأساس والأصل، وعليه يدور الأمر كله. ولا يغنى فيه ورع الغير، وهو رأس المال ومصدر جملة الخصال، ولو اختل هذا- والعياذ بالله! - لم يبق معتصم فى تحقيق الإمامة، فالحمد لله الّذي زين أحوال الإمام الحق المنصور إمامته، بالورع والتقوى حتى أو فى فيه على الغاية القصوى فتميز بمتانة الدين وصفاء العقل واليقين فى جماهير الخلفاء، حتى ظهر من أحواله، منذ تجمل صدر الخلافة بجماله، من إفاضة الخيرات والعطف على الرعايا وذوى الحاجات وقطع العمارات التى كانت العادة جارية بالمواظبة عليها، كل ذلك إضرابا عن عمارة الدنيا وإكبابا على ما ظهر من عمارة الدين؛ هذا مع ما ظهر من سيرته فى خاصّة حالته، من لبس الثياب الخشنة واجتناب الترفه والدعة، والمواظبة على العبادات، ومهاجرة الشهوات واللذات، استحقارا لزخارف الدنيا، وتوقيا من ورطات الهوى، والتفاتا إلى حسن المآب فى العقبى، فهو على التحقيق الشابّ الّذي نشأ فى عبادة الله، هذا كله فى عنفوان السن وغرة من الشباب وبداية الأمر، ينبّه العقلاء لما سينتهى إليه الحال إذا قارب سن الكمال:

إن الهلال إذا رأيت نموّه ... أيقنت أن سيصير بدرا كاملا

والله تعالى يمده بأطول الأعمار وينشر أعلامه فى أقاصى الديار.

فإن قال قائل: كيف تجاسرتم على دعوى التقوى والورع، ومن شرطه التجرد عن الأموال حتى لا يأخذ قيراطا إلا من حلّه، ولا يدعه إلا فى مظنّة استحقاقه، وقد قال: رسول الله صلى اللّه عليه وسلم: «اتقوا النار ولو بشق تمرة» «1» . وليس يتم الورع بالمواظبة على الفرائض واجتناب الموبقات والكبائر، بل عماد هذا الأمر العدل واجتناب

(1) رواه البخارى ومسلم وأحمد من أبو داود.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام