عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ فِي الْوَسْقِ وَالْوَسْقَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وَالْأَرْبَعَةِ , وَقَالَ فِي كُلِّ عَشَرَةِ أَقْنَاءٍ قِنْوٌ يُوضَعُ فِي الْمَسْجِدِ لِلْمَسَاكِينِ
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ دَاوُدَ ، قَالَ : ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ ، عَنْ وَاسِعِ بْنِ حِبَّانَ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ رَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ فِي الْوَسْقِ وَالْوَسْقَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وَالْأَرْبَعَةِ , وَقَالَ فِي كُلِّ عَشَرَةِ أَقْنَاءٍ قِنْوٌ يُوضَعُ فِي الْمَسْجِدِ لِلْمَسَاكِينِ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي دَاوُدَ ، قَالَ : ثنا الْوَهْبِيُّ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ ، فَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ , غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ : ثُمَّ قَالَ الْوَسْقِ وَالْوَسْقَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وَالْأَرْبَعَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَهُ فِي كُلِّ عَشَرَةٍ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : فَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الْآثَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وَتَوَاتَرَتْ فِي الرُّخْصَةِ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا وَقَبِلَهَا أَهْلُ الْعِلْمِ جَمِيعًا , وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي صِحَّةِ مَجِيئِهَا , وَتَنَازَعُوا فِي تَأْوِيلِهَا . فَقَالَ قَوْمٌ : الْعَرَايَا أَنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ لَهُ النَّخْلَةُ وَالنَّخْلَتَانِ , فِي وَسَطِ النَّخْلِ الْكَثِيرِ , لِرَجُلٍ آخَرَ . قَالُوا : وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ , إِذَا كَانَ وَقْتُ الثِّمَارِ , خَرَجُوا بِأَهْلِيهِمْ إِلَى حَوَائِطِهِمْ , فَيَجِيءُ صَاحِبُ النَّخْلَةِ أَوِ النَّخْلَتَيْنِ بِأَهْلِهِ , فَيَضُرُّ ذَلِكَ بِأَهْلِ النَّخْلِ الْكَثِيرِ . فَرَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لِصَاحِبِ النَّخْلِ الْكَثِيرِ أَنْ يُعْطِيَ صَاحِبَ النَّخْلَةِ أَوِ النَّخْلَتَيْنِ خَرْصَ مَا لَهُ مِنْ ذَلِكَ , تَمْرًا , لِيَنْصَرِفَ هُوَ وَأَهْلُهُ عَنْهُ , وَيَخْلُصَ تَمْرُ الْحَائِطِ كُلُّهُ لِصَاحِبِ النَّخْلِ الْكَثِيرِ , فَيَكُونُ فِيهِ هُوَ وَأَهْلُهُ . وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ . وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ ، فِيمَا سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ أَبِي عِمْرَانَ , يَذْكُرُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِمَاعَةَ , عَنْ أَبِي يُوسُفَ , عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ ، مَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَنَا ، أَنَّ يُعْرِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ ثَمَرَ نَخْلَةٍ مِنْ نَخْلِهِ فَلَا يُسْلِمُ ذَلِكَ إِلَيْهِ حَتَّى يَبْدُوَ لَهُ , فَرَخَّصَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ ذَلِكَ , وَيُعْطِيَهُ مَكَانَهُ , خَرْصَهُ تَمْرًا . وَكَانَ هَذَا التَّأْوِيلُ أَشْبَهَ وَأَوْلَى , مِمَّا قَالَ مَالِكٌ , لِأَنَّ الْعَرِيَّةَ إِنَّمَا هِيَ الْعَطِيَّةُ . أَلَا يَرَى إِلَى الَّذِي مَدَحَ الْأَنْصَارَ كَيْفَ مَدَحَهُمْ , إِذْ يَقُولُ : لَيْسَتْ بِسَنْهَاءٍ وَلَا رُجَبِيَّةٍ وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الْجَوَائِحِ أَيْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُعْرُونَهَا فِي السِّنِينَ الْجَوَائِحِ . فَلَوْ كَانَتِ الْعَرِيَّةُ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ , إِذًا لَمَا كَانُوا مَمْدُوحِينَ بِهَا , إِذْ كَانُوا يُعْطَوْنَ كَمَا يُعْطَوْنَ , وَلَكِنِ الْعَرِيَّةُ بِخِلَافِ مَا قَالَ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَقَدْ ذَكَرْتَ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ , أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ , وَرَخَّصَ فِي الْعَرَايَا , فَصَارَتِ الْعَرَايَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا هِيَ بَيْعُ ثَمَرٍ بِتَمْرٍ , قِيلَ لَهُ : لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ , إِنَّمَا فِيهِ ذِكْرُ الرُّخْصَةِ فِي الْعَرَايَا , مَعَ ذِكْرِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ , وَقَدْ يُقْرَنُ الشَّيْءُ بِالشَّيْءِ وَحُكْمُهُمَا مُخْتَلِفٌ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَقَدْ ذَكَرَ التَّوْقِيفَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَلَى خَمْسَةِ أَوْسُقٍ , وَفِي ذِكْرِهِ ذَلِكَ , مَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ , كَحُكْمِهِ . قِيلَ لَهُ : مَا فِيهِ مَا يَنْفِي شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْتَ , وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ كَذَلِكَ , لَوْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَا يَكُونُ الْعَرِيَّةُ إِلَّا فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ , أَوْ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ . فَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ إِنَّمَا فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ , أَوْ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ , فَذَلِكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ رَخَّصَ فِيهِ لِقَوْمٍ فِي عَرِيَّةٍ لَهُمْ هَذَا مِقْدَارُهَا . فَنَقَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ , وَأَخْبَرَ بِالرُّخْصَةِ فِيمَا كَانَتْ , وَلَا يَنْفِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ تِلْكَ الرُّخْصَةُ جَارِيَةً فِيمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَفِي حَدِيثِ عُمَرَ وَجَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا فَصَارَ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى مِنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ . فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ بَيْعُ ثَمَرٍ بِتَمْرٍ . قِيلَ لَهُ : قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَصَدَ بِذَلِكَ إِلَى الْمُعْرَى لَهُ فَرَخَّصَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ تَمْرًا , بَدَلًا مِنْ تَمْرٍ فِي رُءُوسِ النَّخْلِ ; لِأَنَّهُ يَكُونُ بِذَلِكَ , فِي مَعْنَى الْبَائِعِ , وَذَلِكَ لَهُ حَلَالٌ , فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ . وَفِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ إِلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ , بِخَرْصِهَا تَمْرًا يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا فَقَدْ ذَكَرَ لِلْعَرِيَّةِ أَهْلًا , وَجَعَلَهُمْ يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا , وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا وَمَلَكَهَا الَّذِينَ عَادَتْ إِلَيْهِمْ بِالْبَدَلِ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُمْ , فَذَلِكَ يُثْبِتُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَوْ كَانَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآثَارِ , مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ لَمَا كَانَ لِذِكْرِ الرُّخْصَةِ فِيهَا مَعْنًى . قِيلَ لَهُ : بَلْ لَهُ مَعْنًى صَحِيحٌ , وَلَكِنْ قَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ مَا هُوَ . فَقَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ : مَعْنَى الرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ , أَنَّ الْأَمْوَالَ كُلَّهَا , لَا يَمْلِكُ بِهَا إِبْدَالًا , إِلَّا مَنْ كَانَ مَالِكَهَا , لَا يَبِيعُ رَجُلٌ مَا لَا يَمْلِكُ بِبَدَلِهِ , فَيَمْلِكُ ذَلِكَ الْبَدَلَ . وَإِنَّمَا يَمْلِكُ ذَلِكَ الْبَدَلَ إِذَا مَلَكَهُ , بِصِحَّةِ مِلْكِهِ لِلشَّيْءِ الَّذِي هُوَ بَدَلٌ مِنْهُ . قَالَ : فَالْمُعْرَى , لَمْ يَكُنْ مَلَكَ الْعَرِيَّةَ , لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبَضَهَا , وَالتَّمْرُ الَّذِي يَأْخُذُهُ بَدَلًا مِنْهَا , قَدْ جُعِلَ طَيِّبًا لَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ , وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ رُطَبٍ لَمْ يَكُنْ مَلَكَهُ . قَالَ : فَهَذَا هُوَ الَّذِي قَصَدَ بِالرُّخْصَةِ إِلَيْهِ . وَقَالَ غَيْرُهُ , الرُّخْصَةُ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَعْرَى الرَّجُلَ الشَّيْءَ مِنْ ثَمَرِهِ , وَقَدْ وَعَدَهُ أَنْ يُسَلِّمَهُ إِلَيْهِ لِيَمْلِكَهُ الْمُسَلَّمُ إِلَيْهِ بِقَبْضِهِ إِيَّاهُ , وَعَلَى الرَّجُلِ فِي دِينِهِ أَنْ يَفِيَ بِوَعْدِهِ , وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْخُوذٍ بِهِ فِي الْحُكْمِ , فَرَخَّصَ لِلْمُعْرِي أَنْ يَحْتَبِسَ مَا أَعْرَى , بِأَنْ يُعْطِيَ الْمُعْرَى خَرْصَهُ تَمْرًا , بَدَلًا مِنْهُ , مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ آثِمًا , وَلَا فِي حُكْمِ مَنِ اخْتَلَفَ مَوْعِدًا , فَهَذَا مَوْضِعُ الرُّخْصَةِ . وَهَذَا التَّأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ , رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ , أَوْلَى مِمَّا حُمِلَ عَلَيْهِ وَجْهُ هَذَا الْحَدِيثِ , لِأَنَّ الْآثَارَ قَدْ جَاءَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مُتَوَاتِرَةً بِالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ . فَمِنْهَا مَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ هَذَا