خطب ومحاضرات
إمام دار الهجرة والنصرة الإمام مالك رحمه الله
الحلقة مفرغة
الحمد لله ذي الألطاف والنعم، أحمده سبحانه وأشكره هو ذو الجود والإحسان والكرم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فأبدع، وصنع فأحكم، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله المبعوث إلى جميع الأمم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعــد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، وأحبوه من كل قلوبكم، فمن امتلأ قلبه بمحبة ربه كمل أنسه، وطاب عيشه، وخف تعلقه بالشهوات، وزاد إقباله على الطاعات، والقلب لا يغنيه ولا يلم شعثه إلا محبة الله وحسن عبادته، ومن أحب الله أحب الله لقاءه، ومن أحب الله استعد للقائه ولم يتعلق قلبه بالدنيا ومطالبها، وعكفت همته على الله ومحبته وإيثار مرضاته، ومن تفكر في عواقب الدنيا أخذ الحذر، ومن أيقن بطول الطريق تأهب للسفر.
أيها المسلمون! الناظر في تاريخ الأمم والديانات لا يجد أمة حفلت بالرجال وصنعت بإذن الله الأبطال، وقيادات الأمم وصناع الحضارات عبر الأجيال كما يجد في أمة الإسلام التي تأدبت بأدب القرآن، وتربت في مدرسة النبوة المحمدية: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2].
لقد كانت دعوة الإسلام المباركة مفتاحاً للطاقات الكامنة في الإنسان، وإعمالاً للعقل بعد أن زكاه الإسلام، وأشرقت جوانبه بنور القرآن، وسارع في العمل المثمر على هدي محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، انطلق الأميون في كل بقاع الدنيا، وفي شتى ميادين المعرفة والحياة يقودون الناس بدين الله، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين، هم حفظة القرآن الكريم وحملته، وأوعية السنة، بسبب وقائعهم وأحوالهم وأحداثهم تنزلت آيات التشريع والأحكام، ومن أجل تعليمهم وردت السنة المطهرة، وعن طريقهم انتشرت الدعوة، وأضاءت بأنوارها مشارق الأرض ومغاربها.
لقد كان منهم من تعجز الأجيال أن تأتي بمثله، أبو بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذو النورين وعلي أبو السبطين وأبو عبيدة أمين الأمة وخالد سيف الله ، في قضايا ولا أبا حسنٍ لها، رضي الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرضاهم أجمعين.
ثم جاء من بعدهم أجيال، ولدوا في الإسلام، ورضعوا من المهد معارفه، ثم تحولت هذه العلوم والمعارف في مجتمع الإسلام إلى مدارس ومناهج في كل المجالات، إيذاناً ببدء مرحلة التخصص في العلوم والفنون، في الحديث والرواية، والفقه والدراية، والجرح والتعديل، وعلوم القرآن والتفسير، والأصول والاستنباط، ولكل مدرسة رجالها الذين لا يجارون، وعلماؤها الذين لا يبارون، انقضت عصورهم وحفظت علومهم، وانتهت أجيالهم بعد آجالهم، وما زالوا عمالقة يقودون الدنيا بعلمهم، ويتتلمذ التاريخ كما يتتلمذ الباحثون وطلاب العلم على تراثهم.
بليت أجسادهم وبقيت آثارهم في نتاج عقولهم ، وأضاءت الدنيا بثمرات علومهم ، مدارس ومناهج أخرجت للأمة أمثال الحسن البصري ، وسفيان الثوري ، وعطاء بن أبي رباح ، والليث بن سعد ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، والأوزاعي ، وربيعة الرأي ، وجعفر الصادق ، وابن شهاب الزهري ، والأئمة الأربعة، والبخاري ومسلم ، وغيرهم كثيرٌ وكثير، مما لا يحصيه عد، ولا يقع تحت حصر.
تلقت الأمة بالقبول من هذه المذاهب والمدارس ما وصل إليها، وما كان لها من حواريين دونوا مسائلها، وصنفوا نفائسها، وحفظوا أقوالها، وأصلوا أصولها، وبسطوا فروعها، رجالات حملوا الفقه والدين، وأرسوا مدارس الاجتهاد والفتوى.
وما كانت هذه المذاهب بأئمتها رحمهم الله يوماً، تسلك منهجاً غير الكتاب والسنة، وما كانت يوماً تدعو إلى العمل بخلافهما، إذا تبينت لها الدلالة من النص وصح عندها السند من السنة، وإنهم برآء مما يذكر من تعصب أو خلاف مذموم، لقد كان هؤلاء الأئمة الأعلام وتلاميذهم المخلصون أشد الناس تحذيراً من الانحرافات باسم المذهبية، أو التقليد المتعصب، وأقوالهم في ذلك موفورة مشهورة، كلهم يقول: لا يجوز لأحد أن يقول قولنا من غير أن يعرف دليلنا، وما صح من الحديث فهو المذهب، لا خلاف بين أحدٍ منهم على تقديم الكتاب والسنة على كل ما عداهما، وكلهم يجلون الصحابة رضوان الله عليهم ويأخذون بأقوالهم وفتاويهم واجتهاداتهم، كما يحترمون السلف ويقدرون آراءهم ويجلون استنباطاتهم.
أئمة كرام وعلماء أعلام اتبعوا السنن، وسلكوا المسالك الصحيحة في الاجتهاد، فيهم من كثر عنده حملة السنن ورواة الأثر، ومنهم من كان يميل إلى الرأي لبعد داره عن متنزل الوحي، لقد بذلوا أقصى ما بوسعهم في تعريف الناس بدين الله ودعوتهم إليه.
أيها الأحبة! ومن أجل الإيمان بهذه المثل الرائعة، والنماذج الفائقة، نتوقف عند إمامٍ من هؤلاء الأئمة، وأحد رجالات هذه الشريعة المحفوظة، ذلكم هو إمام دار الهجرة والنصرة والمؤاخاة والصحبة الإمام مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي رحمه الله.
مولده ونشأته
كان رضي الله عنه من أعقل أهل زمانه، وأعظمهم مروءة، كثير الصمت، قليل الكلام، متحفظ اللسان، وكان يقول:من أحب أن يفتح على قلبه، وينجو من أهوال يوم القيامة، فليكن عمله في السر أكثر منه في العلانية.
كما كان حسن الخلق بين أهله وولده، ويقول: إن في ذلك مرضاة لربك، ومثراة في مالك، ومنسأة في أجلك، وقد بلغني ذلك عن بعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وفي الحديث: {من أحب أن ينسأ له في أثره، ويبسط له في رزقه؛ فليصل رحمه }.
ولقد حرص مالكٌ رحمه الله أن يتمثل حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم من كريم السجايا وجميل الشمائل وصفاء السرائر، فكانت حياته نبراساً مضيئاً للمتأسي، في مبتدأ حياته، مسه عسر في المعيشة، حتى إن ابنته لتبكي من شدة الجوع لا تجد ما تأكله، وحتى قال تلميذه ابن القاسم : أدى بـمالك طلب العلم إلى أن ينقض سقف بيته ليبيع خشبه، ثم بسط الله له في رزقه، ورفع عنه الضيق فاتسعت حاله، فكان عند انبساطه معترفاً بفضل الله عليه، حتى إنه ليقول: ما أحب لامرئ أنعم الله عليه ألا يرى أثر نعمته عليه، ويقول: أحب للقارئ أن يكون أبيض الثياب، ولقد كان أثر النعمة عليه بادياً؛ في طعامه وشرابه، وملبسه ومركبه، وكان يعتني بذلك من نفسه في ثيابه وأثاثه، ويستعمل الطيب الجيد.
سيرته
فكان لين الجانب، سهلاً منبسطاً مع أصحابه، مع الحفاظ على حال الهيبة والوقار، يقول بعض تلاميذه: كان مالك إذا جلس معنا كأنه واحدٌ منا، ينبسط في الحديث وهو أشد تواضعاً منا له، فإذا أخذ في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تهيبنا كلامه كأننا ما عرفناه ولا عرفنا.
طلبه للعلم
فكان دءوباً جاداً قد صرف نفسه إليه في همة وصبر، فهو ذو الحافظة الواعية، والقلب العقول، والذكاء المتقد، مع الصلاح والتقى، متحفزاً إلى مجالسة الرجال، ومذاكرة الأفذاذ، ومزاحمة الفحول، من أهل العلم الأعلام، لم تمنعه شدة الحر اللاهب، ولا الجو اللافح من أن يخرج من منزله يترقب أوقات خروج العلماء، يقول رحمه الله: كنت آتي نافعاً مولى ابن عمر نصف النهار، وما تظلني شجرة من الشمس، أتحيل خروجه فإذا خرج أدعه ساعة حتى إذا دخل قلت له: كيف قال ابن عمر في كذا وكذا؟ ثم أحبس عنه -أي أتوقف عن السؤال- لأنه كان فيه حدة. ويقول أيضاً: صليت يوم العيد فقلت هذا يومٌ يخلو فيه ابن شهاب الزهري فانصرفت من المصلى، حتى جلست على بابه فسمعته يقول لجاريته: انظري من بالباب، فنظرت فسمعتها تقول: مولاك الأشقر مالك ، فقال: أدخليه، فدخلت، فقال: ما أراك انصرفت بعد إلى منزلك؟
فقلت: لا.
قال: هل أكلت شيئاً؟
قلت: لا.
قال: اطعم.
فقلت: لا حاجة لي فيه.
قال: فما تريد؟
قلت: تحدثني.
قال: هات، فأخرجت ألواحي، فحدثني بأربعين حديثاً.
فقلت: زدني.
فقال: حسبك إن كنت رويت هذه الأحاديث فأنت من الحفاظ.
فقلت: قد رويتها -أي حفظتها-.
قال: فجذب الزهري الألواح من يدي ثم قال: حدث، فحدثته بها، فردها إليَّ، وقال: قم فأنت من أوعية العلم.
أيها الشباب! يا طلبة العلم! هكذا هو الحرص، وهذا هو الجد، هذا الإمام يتحين أوقات الخلوة والفراغ ليحصل على طلبته من العلم وحاجته من الرواية، ناهيكم بما وهبه الله من قوة الحافظة واستيعاب الرواية، أربعون حديثاً بأسانيدها ما أن يفرغ من كتابتها حتى يعيدها عن ظهر قلب، والألواح في يد شيخه، ثم نال هذه الشهادة العالية الغالية (قم فأنت من أوعية العلم).
جديرٌ بطلاب العلم، وشباب الإسلام أن ترتفع هممهم، وتعلوا تطلعاتهم، ولا يكتفوا بفتات الموائد، ويعيشوا عالة على أمجاد الماضي، وجهود الأسلاف مع الحرص على الصلاح والتقوى والإخلاص.
يقول مالك رحمه الله: ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما العلم نورٌ يضعه الله في القلب، والعلم لا يأنس إلا بقلب تقيٍ خاشع.
لقد نضج الإمام مالك رحمه الله في العلم مبكراً، ونبغ في التحصيل على الأقران سابقاً، فتصدر للفتيا وهو فتى، لكنه لم يجلس للإفتاء إلا بعد أن شهد له العلماء بالأهلية.
ومن مأثور كلامه في ذلك هذه البليغة الرائعة: لا خير فيمن يرى نفسه في حالٍ لا يراه الناس لها أهلاً، ويقول: ما جلست للفتيا حتى شهد لي سبعون شيخاً من أهل العلم أني موضعٌ لذلك.
وكان ورعاً في دين الله، متحرياً في الفتيا، شديد الحذر، ينهى عن التعجل ويقول: ربما وردت عليَّ المسألة فأسهر فيها عامة ليلتي، ويقول: إني لأفكر في المسألة منذ بضع عشرة فما اتفق لي فيها رأيٌ حتى اليوم.
وكان رحمه الله حين يكثر عليه طلاب المسألة، يكف ويقول: حسبكم من أكثر أخطأ، وكان يعيب كثرة ذلك، ويقول: من أحب أن يجيب عن مسألة فليعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة ثم يجيب، وسئل عن ثمانٍ وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين لا أدري.
ذلكم هو الإمام مالكٌ رحمه الله، أمد الله في عمره، حتى أوفى على التسعين عاماً، ولازمه المرض آخر أيامه فانقطع عن الخروج للناس ولكنه لم ينقطع عن الدرس والعلم والحديث والفتيا رحمه الله.
أيها المسلمون! أبناء الإسلام! هذه قبساتٌ من سيرته في الحياة، وشذرات من مسيرته في العلم، فلينظر في ذلك ناشئة الإسلام، تأملاً في سير هؤلاء الأعلام، وتتبعاً لحياتهم وهم نشأٌ يتدرجون في مدارج الحياة وشببة يتلقون العلم ويجدون في التحصيل والطلب، وكهولٌ قد برزت مواهبهم، واستقامت مناهجهم، ثم شيوخ قد فاضت علومهم على من حولهم، وضربت إليهم أكباد الإبل، وشدت إليهم الرحال من أقاصي الدنيا، وزخرت مجالسهم بالطلاب، وعمرت حلقاتهم بالتلاميذ وافدين من كل صقع، واردين من كل فجاج، علمٌ وإيمانٌ وتقى.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
ولد في المدينة المنورة متنزل الوحي ومهد العلم ومنهل المعرفة، سنة ثلاثٍ وتسعين للهجرة، بها نشأ وترعرع واستقر، شب مالك رحمه الله في بيت علم، ولا سيما علوم الحديث والأثر، واستطلاع الآثار وأخبار الصحابة وفتاويهم، فأسرته رحمه الله من بيوت العلم المشهورة، والناشئ في العادة تتغذى مواهبه ومنازعه من منزع بيته وما يتجه إليه أهله، فشبت تحت ظلها المواهب، بل كان معاشه في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أضلته سماؤها، وأقلته أرضها، موطن الشرع، ومبعث الهدى، ومعقد الحكم الإسلامي الأول، وقصبة الإسلام في عهد الخلافة الراشدة، اجتمع به الرعيل الأول من علماء الصحابة، ثم تلاميذهم، حتى جاء مالك رحمه الله فوجد هذه التركة الثرية من العلم والحديث والفتوى، فنمت مواهبه في كنفها، وجنى من ثمرتها، وتلقى عن رجالها.
كان رضي الله عنه من أعقل أهل زمانه، وأعظمهم مروءة، كثير الصمت، قليل الكلام، متحفظ اللسان، وكان يقول:من أحب أن يفتح على قلبه، وينجو من أهوال يوم القيامة، فليكن عمله في السر أكثر منه في العلانية.
كما كان حسن الخلق بين أهله وولده، ويقول: إن في ذلك مرضاة لربك، ومثراة في مالك، ومنسأة في أجلك، وقد بلغني ذلك عن بعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وفي الحديث: {من أحب أن ينسأ له في أثره، ويبسط له في رزقه؛ فليصل رحمه }.
ولقد حرص مالكٌ رحمه الله أن يتمثل حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم من كريم السجايا وجميل الشمائل وصفاء السرائر، فكانت حياته نبراساً مضيئاً للمتأسي، في مبتدأ حياته، مسه عسر في المعيشة، حتى إن ابنته لتبكي من شدة الجوع لا تجد ما تأكله، وحتى قال تلميذه ابن القاسم : أدى بـمالك طلب العلم إلى أن ينقض سقف بيته ليبيع خشبه، ثم بسط الله له في رزقه، ورفع عنه الضيق فاتسعت حاله، فكان عند انبساطه معترفاً بفضل الله عليه، حتى إنه ليقول: ما أحب لامرئ أنعم الله عليه ألا يرى أثر نعمته عليه، ويقول: أحب للقارئ أن يكون أبيض الثياب، ولقد كان أثر النعمة عليه بادياً؛ في طعامه وشرابه، وملبسه ومركبه، وكان يعتني بذلك من نفسه في ثيابه وأثاثه، ويستعمل الطيب الجيد.
استمع المزيد من الشيخ صالح بن حميد - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
حق الطريق وآداب المرور | 3701 استماع |
وسائل الإعلام والاتصال بين النقد الهادف والنقد الهادم | 3092 استماع |
اللغة .. عنوان سيادة الأمة | 3073 استماع |
الطلاق وآثاره | 3020 استماع |
لعلكم تتقون | 3005 استماع |
الماء سر الحياة | 2961 استماع |
من أسس العمل الصالح | 2937 استماع |
الزموا سفينة النجاة | 2886 استماع |
قضية البوسنة والهرسك.. المشكلة والحل | 2875 استماع |
بين السلام وإباء الضيم | 2855 استماع |