حديث الرؤية والصراط


الحلقة مفرغة

إذا أراد الله شيئاً هيأ أسبابه، فقد نتج عن صلح الحديبية واعتداء بني بكر على خزاعة ونقض قريش للصلح أن مكة فتحت فتحاً مبيناً، فانكسرت قريش، وهزم جمعهم، وانتشرت راية الإسلام بعد ذلك شرقاً وغرباً، وتوافد الناس إلى مكة ملبين ومحرمين وحجاجاً ومعتمرين، وحقق الله لرسوله ما وعده.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله الذي بلغنا هذا الشهر الكريم، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا فيه من عباده الأخيار، وأن يعيننا فيه على ذكره وشكره وحسن عبادته، ونسأله أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه سميع قريب مجيب.

أيها الإخوة: في هذا الشهر الكريم فرصة عظيمة لمن قسا قلبه أن يرق، ولمن أعرض عن ربه أن يعود، ولمن أذنب أن يتوب، ولا شك أن مرققات القلوب من أعظم ما يتعبد به المسلم ربه في التعرض له؛ فإن الله تعالى لا ينجي يوم القيامة إلا من أتى بقلب سليم؛ سليم من الشبهة، وسليم من الشهوة، ولعلنا -إن شاء الله- في هذه الليالي الفاضلة نتعرض لأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم نرقق بها قلوبنا، وننظفها مما علق بها من أوساخ الدنيا.

في هذه السلسلة من الأحاديث -أحاديث الرقائق- التي نستهلها بهذا الحديث العظيم الجليل الذي رواه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن أبي هريرة قال: (قال أناس: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: هل تضارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك؛ يجمع الله الناس فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها.. إلى أن قال: فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيتبعونه، ويضرب جسر جهنم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأكون أول من يجيز، ودعاء الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم، وبه كلاليب مثل شوك السعدان، أما رأيتم شوك السعدان؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فإنها مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله، فتخطف الناس لأعمالهم، فمنهم الموبق بعمله، ومنهم المخردل ثم ينجو، حتى إذا فرغ الله من القضاء بين عباده وأراد أن يخرج من النار من أراد -أن يخرج ممن كان يشهد أن لا إله إلا الله- أمر الملائكة أن يخرجوهم فيعرفونهم بعلامة آثار السجود، وحرم على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود، فيخرجونهم قد امتحشوا، فيصب عليهم ماء يقال له: ماء الحياة، فينبتون نبات الحبة في حميل السيل..) الحديث.

وهذا الحديث العظيم الذي رواه البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه في مواضع، منها في باب قول الله تعالى: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء:71]، عن الزهري في قوله تعالى: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء:71].

رؤية الله متعذرة في الدنيا

قوله: (قال أناس: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟) الصحابة يسألون النبي صلى الله عليه وسلم: هل نرى ربنا يوم القيامة؟

إذاً: الصحابة يعرفون أن الله لا يرى في الدنيا، فسؤالهم الآن: هل نرى ربنا يوم القيامة؟

إذاً: لا يرى الله تعالى في الدنيا، لم ير الله أحدٌ من العباد في الدنيا، وحتى النبي صلى الله عليه وسلم لم يره بعيني رأسه، ولكن رؤيته يوم القيامة مؤكدة وثابتة، وهي من عقيدة أهل السنة والجماعة ، ويدل على أن الله لا يرى في الدنيا حديث الإمام مسلم رحمه الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا) ولذلك من ادعى ممن يسمون أنفسهم بالأولياء أو الأقطاب والأوتاد أنه يرى الله في الدنيا فهو كاذب؛ فإن الله عز وجل لا يُرى في الدنيا، وإنما يُرى سبحانه وتعالى يوم القيامة، وهذا الحديث ذكر فيه الحساب، فقال: (لتتبع كل أمة ما كانت تعبد).

رؤية الله تعالى يوم القيامة

إن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الله يرى في أرض المحشر، يوم يحشر الله الأولين والآخرين، ولما سأل الصحابة النبي عليه الصلاة والسلام عن رؤية ربهم؛ ضرب لهم مثلاً ليقرب لهم الأمر، فنظر إلى القمر ليلة البدر، وهو عليه الصلاة والسلام أجود الناس في التعليم، ويستعمل أحسن الأساليب في التعليم، فنظر إلى القمر ليلة البدر وقال: (إنكم ستعرضون على ربكم فترونه كما ترون هذا القمر) سألهم: هل تضارون؟ هل تنازعون؟ هل تضايقون في رؤية هذا القمر الذي في السماء؟ لا تضايقون ولا تزاحمون، وفي رواية: لا تضامون، فلا يحجب بعضكم بعضاً عن الرؤية فيحصل له ضرر، فإذاً: لن تكون هناك مضارة بازدحام، ولن يحجب العباد بعضهم بعضاً عن رؤية الله تعالى، ولن يظلم أحد في رؤيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عن رؤيته عز وجل: ترونه كذلك كما لا تضارون الشمس في رؤية، وخص الشمس والقمر لأنهما الكوكبان المنيران في السماء في وقت ليس فيه سحاب، كيف تكون الشمس؟ وكيف يكون القمر في هذا النور وفي هذا الضياء وفي هذا الجمال والكمال؟ ولكن الله عز وجل جميل، أجمل من أي شيء من المخلوقات؛ جماله سبحانه وتعالى صفة له تليق بجلاله وعظمته، الله جميل إذا نظر إليه أهل الجنة نسوا كل النعيم الذي هم فيه، ولذلك لذة النظر إلى وجهه لا تعادلها لذة، ولذة النظر إلى وجهه الجميل الجليل لا تدانيها لذة، ولا تقارنها لذة، فهي تنِسي كل لذة، فما أعطوا نعيماً أحب إليهم من النظر إلى وجهه.

سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن رؤية الشمس وعن رؤية القمر، والقمر الذي يرى في الليلة الصافية ولا يؤذى أحد في رؤيته، استدل به الخليل على الوحدانية، واستدل به الحبيب على إثبات الرؤية؛ فإن إبراهيم الخليل قال لقومه لما نظر إلى القمر ورآه بازغاً، قال لهم محاجاً لهم: قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ [الأنعام:77] فأراد إبراهيم أن يستدرجهم وأن يماشي عقولهم ويقول: أنتم تعبدون الكواكب، وهذا القمر قد أفل، فكيف يكون الإله حاضراً ثم يغيب آفلاً؟ لا يمكن أن يكون! فاستدل الخليل بالقمر، واستعمله في الوحدانية، والنبي عليه الصلاة والسلام استعمله في إثبات الرؤية حساً ويقيناً، بخلاف ما يقوله بعض أهل البدعة الذين ينكرون رؤية الله عز وجل، ولذلك يقال لهم: ما دمتم أنتم تقولون بعدم رؤيته، فلعلكم تحرمون رؤيته، إذا كنتم تنفون رؤية الله فربما تحرمون من رؤيته بسبب بدعتكم هذه، وهذا المذهب الذي ذهب إليه المعتزلة وغيرهم من الخوارج والأباضية في مسألة رؤية الله عز وجل، وقد أثبته الله سبحانه وتعالى بقوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23] فهي من النظر لوجه الله فيها نضرة ونعيم.

وكذلك فإن الله سبحانه وتعالى قد أخبر أن المؤمنين عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ [المطففين:23] إلى وجه الله تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيم [المطففين:24] وأما الكفار فإنهم سيرونه -أولاً- ثم يحجبون عنه ليزدادوا حسرة وألماً، قال تعالى: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15] فيتوارى الله عنهم؛ فيكون ذلك من عذابهم.

حشر الناس في صعيد واحد

قال صلى الله عليه وسلم في الحديث: (يجمع الله الناس -وفي رواية: يحشر- في صعيد واحد، فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر) والصعيد هي الأرض المستوية الواسعة، ومعنى ينفذهم البصر: يخترقهم حتى يجوزهم؛ يخترق العباد حتى يجوزهم، فهؤلاء العباد سيجمعون يوم القيامة جميعاً، إنساً وجناً، ذكوراً وإناثاً كباراً وصغاراً، مؤمنين وكفاراً.. سيجمعون يوم القيامة في صعيد واحد ليس فيهم علم لأحد، ولا فيهم مرتفع ولا منخفض، وليس فيه مكان يتوارى خلفه أحد، ينفذهم بصر الرحمن، ويسمعهم صوته سبحانه، ويناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، يخترقهم البصر حتى ينفذ من خلالهم.. يَوْمَ يَدْعُ الدَّاع [القمر:6] يحشرون، فيطلع عليهم رب العالمين، فإذا حشر الناس قاموا شاخصة أبصارهم إلى السماء، والشمس على رءوسهم في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، وقد جاء في الحديث الحسن الذي رواه الإمام أحمد رحمه الله: (أنه يخفف الوقوف عن المؤمنين حتى يكون كصلاة مكتوبة أو كما بين صلاة الظهر والعصر) كما جاء في حديث آخر، وهذا لأهل الإيمان، أما أهل الفسق والفجور وأهل الكفر والضلال والبدع؛ فشأنهم شأن آخر.

اتباع الناس لمعبوداتهم

قال صلى الله عليه وسلم في الحديث: (فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ومن كان يعبد القمر القمر) الذي كان يعبد القمر يتبع القمر، والذي كان يعبد الشمس يتبع الشمس؛ هؤلاء عباد الكواكب يتبعون معبوداتهم إلى النار.. جاء في حديث ابن مسعود : (ثم ينادي منادٍ من السماء: أيها الناس! أليس عدل من ربكم الذي خلقكم وصوركم ورزقكم ثم توليتم غيره أن يولي كل عبد منكم ما كان تولاه؟ فيقولون: بلى! ثم يقول: لتنطلق كل أمة لمن كانت تعبد) وفي رواية: (ألا ليتبع كل إنسان ما كان يعبد) وجاء في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (فيلقى العبد -الله عز وجل يلقى العبد يوم القيامة- فيقول: ألم أكرمك وأزوجك وأسخر لك؟ فيقول: بلى! فيقول الله عز وجل: أظننت أنك ملاقيَّ؟ فيقول: لا. فيقول: إني أنساك كما نسيتني، ويلقى الثالث فيقول: آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت، فيقول: ألا نبعث عليك شاهداً؟ فيختم على فيه وتنطق جوارحه) من هذا من الأصناف؟ هذا هو المنافق: (وذلك المنافق، ثم يناي منادٍ: ألا لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، ومن كان يعبد الطواغيت يتبع الطواغيت).

والطاغوت: هو كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع.

إذاً: الطاغوت قد يكون جماداً وقد يكون إنساناً، كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع يكون طاغوتاً إذا كان راضياً، إذا كان ممن يعقل ورضي، يدخل في الطواغيت معبود أو متبوع تصرف له عبادة، أو يتبع على ضلالة في تحليل حرام أو تحريم حلال، فكل ما عبد من دون الله وهو راض فهو طاغوت، ولا يصح أبداً أن نقصر العبادة على السجود؛ فنقول: العبادة هي السجود لصنم أو شخص أو ما شابه ذلك، بل إن العبادة -أيها الإخوة- مفهومها واسع، ولذلك كل من أطاع شخصاً في تحليل حرام أو تحريم حلال فقد عبده.

كذلك فسر النبي صلى الله عليه وسلم الآية لـعدي بن حاتم وقال: (فتلك عبادتكم إياهم) هؤلاء الذين اتبعوه في تحريم الحلال وتحليل الحرام، هؤلاء الذين اتبعوه في الحكم بغير ما أنزل الله، هؤلاء الطواغيت كل من اتبعهم فهو معهم في نار جهنم وسيحشر معهم، ولذلك كما قال في الحديث: (فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم، وأصحاب الأوثان مع أوثانهم، وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم) والحديث الذي معنا قال فيه: (ومن كان يعبد الطواغيت يتبعهم) فهذا فيه إشارة إلى مبدأ المعاملة بالمثل؛ كما اتبعه في الدنيا يتبعه في الآخرة.

وما حال من عبد من دون الله وهو غير راضٍ كالملائكة وعيسى عليه السلام؟ فقد عبد بعض الناس الملائكة، كما عبدت النصارى عيسى، هؤلاء لا يكونون معهم في النار؛ لأنهم لم يرضوا بهذه العبادة، وجاء في رواية: (فيتمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصاوير تصاويره) هذه الأصنام والأوثان المعبودة، وهذا التمثيل لكي يزدادوا عذاباً، عندما يرى الشخص أن الشيء الذي كان يقدسه في الدنيا ويوقره ويعبده ويبذل له كل شيء، قد صار معه من حطب جهنم، هذا تذكير وتحزين وتعذيب وخذلان؛ لأنه هو ومن عبده في النار.

بقاء الموحدين من هذه الأمة ومن غيرها

قال عليه الصلاة والسلام: (وتبقى هذه الأمة) يحتمل أن يكون المراد بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يراد ما هو أعم من ذلك؛ فيدخل فيهم من كان من بقية الأمم ممن كان في الدنيا -ولو ظاهراً- يعبد الله، فبعدما ذهب أهل المعبودات مع معبودات إلى النار يبقى من كان يعبد الله ولو ظاهراً؛ يبقون ليأتيهم الله عز وجل فيقودهم إلى الصراط.. (تبقى هذه الأمة فيها منافقوها) وفي رواية: ( حتى يبقى من كان يعبد الله من بر وفاجر ) فلو كان هناك رجل موحد لكنه فاجر فاسق زاني شارب خمر سارق مرتشي، هؤلاء ما حالهم؟ قال: (حتى يبقى من كان يعبد الله من بر وفاجر. وفي رواية: وغبرات أهل الكتاب) الغبرات: جمع غابر، والمقصود بهم من كان يوحد الله من أهل الكتاب؛ لأن أهل الكتاب فيهم الموحد وفيهم المشرك، فيهم الموحد مثل ورقة بن نوفل رضي الله عنه، وغيره في بقايا أهل الكتاب، وفيهم المشرك.

يبقى في النهاية الموحدون من المسلمين والموحدون من أهل الكتاب، ويبقى الفجرة الموحدون أيضاً ويبقى المنافقون، فما هو شأن المنافقين؟

لما كانوا يتسترون للمؤمنين في الدنيا بقوا معهم، والذي يحصل أنهم يتميزون في ذلك المقام، ظن المنافقون أن تسترهم بالمؤمنين ينفعهم في الآخرة، كما كان ينفعهم في الدنيا، فيحشرون معهم، كما كانوا يظهرون الإسلام يحشرون مع أهل الإسلام، لكن سيحدث تمييز عندما يأتي الله تعالى في صورته الحقيقية، فيطلع عليهم رب العالمين، والمؤمنون يعرفونه بصفاته مع أنهم لم يروه من قبل في الدنيا، لكن إذا جاء الله إلى البقية الباقية في أرض المحشر -بعد ما ذهب اليهود والنصارى، وعبدة الأوثان، وعبدة بوذا، وعبدة الكواكب، وعبدة النار المجوس، وعبدة الطواغيت من البشر، كلهم ذهبوا إلى جهنم مع معبوداتهم حطباً- فماذا يحصل؟ يرون الله فيعرفونه، فكيف عرفوه وهم ما رأوه من قبل؟

يعرفونه بأسمائه وصفاته التي كانوا يعرفونها في الدنيا، وهذا ما يبين أهمية توحيد الأسماء والصفات، فإن معرفة صفات الله تعالى في الدنيا هو الذي يقود إلى معرفته عز وجل في الآخرة، فيقول لهم: (أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا) وفي رواية: (ثم يقال بعد ذلك للمؤمنين: هل بينكم وبينه علامة؟ أي: آية تعرفونها، فيقولون: الساق، فيكشف عن ساقه سبحانه وتعالى)، وصفاته لا تشابه صفات البشر؛ فلا يده كأيديهم، ولا وجهه كوجوههم، وهكذا في سائر صفاته سبحانه.

فإذا رأوا الساق -العلامة- سجد المؤمنون سجوداً صحيحاً، وأما المنافق فينكشف في هذا الموقف بالعلامة، فالعلامة هي التي تميز وتكشف، قال عليه الصلاة والسلام: (ويبقى من كان يسجد رياءً وسمعة)، الذي كان منافقاً في الدنيا وكان يسجد رياءً وسمعة (فيصير ظهره طبقاً واحداً) يستوي فلا ينثني الظهر، يصبح متصلباً، وفي رواية مسلم : (فلا يبقى من كان يسجد من تلقاء نفسه إلا أذن له في السجود) أي: هون عليه وسهل له ومكن منه، (ولا يبقى من كان يسجد اتقاءً ورياءً إلا جعل الله ظهره طبقاً واحداً كلما أراد أن يسجد خر لقفاه) وفي رواية ابن مسعود : (وتبقى أصلاب المنافقين كأنها صياصي البقر)، وفي رواية الحاكم : (وتبقى ظهور المنافقين طبقاً واحداً كأنما فيها السفافيد) والسفافيد: جمع سفود، والسفود هو السيخ العظيم الذي يدخل في الشاة عند شوائها؛ لكي تتماسك على السيخ.. فيجعل الله ظهور المنافقين طبقاً واحداً، كأنما السفافيد في هذه الفقرات، وهي مضمومة بها سيخ، فلا يمكن أن ينثني، فلذلك كلما أراد أن يسجد وقع.

في رواية علي بن عبد الرحمن قال: (ثم يطلع عز وجل عليهم فيعرفهم نفسه بالآية ثم يقول: أنا ربكم فاتبعوني فيتبعه المسلمون، يكونون في ذلك تابعين لربهم كما عبدوه يتبعونه) أولئك عبدوا الصليب اتبعوا الصليب، عبدوا البقر اتبعوا البقر، وهؤلاء عبدوا الله فيتبعون الله، فإلى أين يقودهم عز وجل؟ يقودهم إلى الصراط، وهذه الرؤية التي تحصل في أرض المحشر غير الرؤية التي تقع في الجنة فهذه رؤية الامتحان، وتلك لزيادة الإكرام، ورؤية الجنة هي المقصودة بقوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] الحسنى: هي الجنة، والزيادة: هي النظر إلى وجه الله عز وجل، هناك امتحانات في الموقف تابعة لامتحانات الدنيا، فالذي رسب هناك يرسب هنا، والذي نجح هناك ينجح هنا، ولا تنقطع الامتحانات إلا بالاستقرار في الجنة أو النار، والقبر أو منازل الآخرة وفيه ابتلاء وامتحان بفتنة السؤال وغير ذلك، وكما يكون في الدنيا تكاليف ففي الآخرة تكاليف قبل دخول الجنة وقبل دخول النار.

تقسيم النور على حسب الأعمال

بعد ذلك يقال للمسلمين: (ارفعوا رءوسكم إلى نوركم بقدر أعمالكم) وفي لفظٍ: (فيعطون نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل ودون ذلك، ومثل النخلة ودون ذلك، حتى يكون آخرهم من يعطى نوره على إبهام قدمه) وفي رواية مسلم : (ويعطى كل إنسان منهم نوراً... إلى أن قال: ثم يطفأ نور المنافقين) وفي رواية ابن عباس عند ابن مردويه : (فيعطى كل إنسان منهم نوراً -هؤلاء المتجهون إلى الصراط- ثم يوجهون إلى الصراط، فما كان من منافق طفأ نوره)، وفي لفظ: (فإذا استوى على الصراط سلب الله نور المنافقين، فيقولون للمؤمنين: انظرونا -أي: انتظرونا- نقتبس من نوركم) وفي حديث أبي أمامة : (وإنكم يوم القيامة في مواطن حتى يغشى الناس أمر من أمر الله؛ فتبيض وجوه وتسود وجوه، ثم ينتقلون إلى منزل آخر فتغشى الناس الظلمة فيقسم النور) ، يقسم النور على حسب الأعمال، والصلوات، والصدقات، والصيام، والخشية، والحياء، ونحو ذلك.. (فيختص بذلك المؤمن ولا يعطى المنافق شيئاً؛ فيقول المنافقون للذين آمنوا: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً [الحديد13]، فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور) المنافقون لما فقدوا النور وأرادوا الذهاب مع المؤمنين لا يمكنون من ذلك، بل يقال لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً؛ فيرجعون إلى المكان الذي قسمت فيه الأنوار من قبل؛ فلا يجدون شيئاً، فيريدون العودة فيضرب بينهم وبين المؤمنين بسور: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13]، باطنة أي: من جهة المؤمنين فيه الرحمة، وظاهره: من جهة المنافقين فيه العذاب، وهذه هي الخدعة العظيمة التي يخدع الله بها المنافقين: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ النساء:142] وهذه الخدعة هي القاضية عليهم.

المرور على الصراط

قوله صلى الله عليه وسلم: (ويضرب جسر جهنم -جسر مضروب على متن جهنم- ثم يكلف الناس بالعبور) الآن المنافقون اختزلوا إلى النار، وبعد الخدعة إلى النار من بقي؟ بقي الموحدون، فيهم الفجرة، وفيهم أهل الطاعة والإيمان، فيهم فجرة من الموحدين لم يخرجهم فجورهم عن الإسلام، لا زالوا داخل دائرة الإسلام، لكنهم أصحاب معاصي وفسق، وبقي أهل الطاعة والحسنات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون: اللهم سلم سلم) من الذي يقول؟ الأنبياء فقط. الناس في صمت مطبق من هول الموقف، لا يتكلم يومئذ إلا الرسل، وكلامهم: اللهم سلم سلم، فقط لا غير، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فأكون أنا وأمتي أول من يجوز) أول من يجوز ويقطع المسافة على هذا الصراط النبي صلى الله عليه وسلم -أولاً- ثم تقطع الصراط أمته خلفه، فإذا جاز هو وأمته جاز الأنبياء بأقوامهم.

جاء في حديث عبد الله بن سلام عند الحاكم : (ثم ينادي منادٍ: أين محمد وأمته؟ فيقوم فتتبعه أمته برها وفاجرها، فيأخذون الجسر، فيطمس الله أبصار أعدائه العصاة الفجرة، فيتهافتون من يمين وشمال -يقعون في النار من يمين وشمال- وينجوا النبي والصالحون) وفي رواية: (فتفرج لنا الأمم عن طريقنا، فنمر غراً محجلين من آثار الوضوء، ودعاء الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم، ولا يتكلم إلا الأنبياء، فيمر المؤمن كطرف العين وكالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب) وفي رواية: (فيمر أولهم كمر البرق، ثم كمر الريح، ثم كمر الطير، وشد الرحال، تجري بهم أعمالهم) بحسب الأعمال يكون الجواز والمرور، والسرعة تتناسب تناسباً طردياً بحسب الأعمال الصالحة، كلما كانت الأعمال الصالحة أكثر كلما كان العبور أسرع، والناس يتفاوتون في السرعة بحسب أعمالهم؛ فمنهم من يمر كالبرق، وهؤلاء أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، أولياء الله يجوزون كالبرق، ثم أناس كطرف العين، ثم أناس بعدهم كالريح، وأناس كالطير، وأناس كشد الرحال، وأناس كالسحاب، وأناس كانقضاض الكواكب، وأناس كشد الفرس، حتى يمر الرجل الذي أعطي نوره على إبهام قدمه يحبو على وجهه ويديه ورجليه، يجر بيد ويعلق يداً، ويجر برجل ويعلق رجلاً، وتضرب جوانبه النار، حتى يمر آخر واحد ويتعثر في المشي وتضرب جوانبه النار ويتكفأ به الصراط، يميل الصراط ويهتز به، وجاء في رواية: (كأسرع البهائم، حتى يمر الرجل سعياً ثم مشياً، ثم آخرهم يتلبط على بطنه فيقول: يا رب لِمَ أبطأت بي؟ فيقول: أبطأ بك عملك) الله عز وجل لم يبطئ به ولكن الذي أبطأ به عمله.

صفة الصراط

قال في الحديث في وصف الصراط: (وبه كلاليب، وفي رواية: وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به) والكلاليب جمع كلوب، والكلوب هو الخطاف الذي يخطف الناس، وهذا الخطاف عظيم جداً للغاية، تقف الأمانة والرحم على جنبتي الصراط لعظم شأنهما وفخامة أمرهما؛ لكي يؤدب ويعاقب الخائن وينجو الأمين، ويعاقب القاطع وينجو الواصل لرحمه.. الأمانة والرحم يشهدان للمحق ويشهدان على المبطل.. إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ [الأحزاب:72].. (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ النساء:1]، فلما كانتا بهذه العظمة جعلتا على جنبتي الصراط.

قال صلى الله عليه وسلم في وصف الكلاب والخطاف الذي يخطف الناس: (مثل شوك السعدان) السعدان: جمع سعدانة، والسعدانة نبات ذو شوك يضرب به المثل في طيب مرعاه، يقال: مرعى ولا كالسعدان.. (أما رأيتم شوك السعدان؟) شبه صورة الكلاليب بشوك السعدان، لكن عن عظم حجمها قال: (غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله) فهذه الكلاليب مثل الشوك تخطف الناس، قال: (فتخطف الناس بأعمالهم) فشبه الكلاليب بشوك السعدان لسرعة اختطافها وكثرة الانتشال فيها، عرفوها في الدنيا وألفوها مباشرة فعرض عليهم التشبيه بها، قال: (وبحافتيه -أي: الصراط- ملائكة معهم كلاليب من نار، يختطفون بها الناس).

وفي رواية أبي سعيد : (قلنا: وما الجسر؟ قال: مدحضة مزلة) أي: تزل فيه الأقدام، وفي رواية قال أبو سعيد : (بلغني أن الصراط أَحَدُّ من السيف، وأدق من الشعرة) رواه مسلم ، وهذا له حكم الرفع؛ لأنه لا يقوله برأيه، لابد أن يكون الصحابي قد سمعه.. ( أَحَدُّ من السيف، وأدق من الشعرة )، فمن الذي سينجو من عليه؟ قال الفضيل بن عياض رحمه الله: [[بلغنا أن الصراط أدق من الشعرة، وأحد من السيف على متن جهنم، لا يجوز عليه إلا ضامر مهزول من خشية الله].

قال صلى الله عليه وسلم في أصناف الناس على الصراط: (منهم الموبق بعمله)، وفي رواية: (الموثق بعمله، ومنهم المخردل)، الخردل من صفته أنه مقطع، فهذا المخردل تقطعه كلاليب النار؛ فيهوي فيها، وخراديل، أي: قطع تقطعهم، ويحتمل أن يكون المعنى: تقطعهم عن اللحوم لمن نجا ثم ينجو.

إذاً: هؤلاء الذين يعبرون الصراط ثلاثة أنواع جاء في حديث أبي سعيد : (فناجيٍ مسلََّم، ومخدوش، ومكدوس في جهنم، حتى يمر أحدهم فيسحب سحباً).

إذاً: المارون على الصراط ثلاثة أصناف:

1/ ناجٍ بلا خدوش، مسلَّم لم يصبه شيء.

2/ مخدوش ثم ينجو، فهو في النهاية يعبر لكن بعد خدوش تصيبه من هذه الكلاليب.

3/ وهناك هالك من أول وهلة.

فإذاً: هناك هالك من أول وهلة، مكردس، هذا يقع في النار، وهناك ناجٍ يعبر بعد أن يصيبه ما يصيبه، وهناك من ينجو بلا خدوش.. والمكردس أو المكدوس المنكفئ في قعر جهنم؛ نظراً لأن سيئاته كثيرة، فلابد من تطهير النار حتى يدخل الجنة طاهراً؛ لذلك يقع في النار، وكذلك الذي يصيبه على الصراط ما يصيبه؛ لكي يطهره ما أصابه من الآثام التي اقترفها ثم ينجو، وبعد ذلك يدخل الجنة نظيفاً، فلا يدخل الجنة شخص غير نظيف، لابد أن يطهر بما يصاب به، إن كان في الدنيا فبالمصائب والهم والغم والأمراض والخوف ونقص الأموال والأنفس والثمرات، وإن كان في القبر فبفتنة القبر وما يصيبه، وإن كان في الآخرة فبدنو الشمس والعرق والحر والزحام وطول الموقف، وإن كان بقي عليه شيء فإنه إذا عبر الصراط يخدش بهذه الكلاليب، ما دام أن سيئاته أكثر من حسناته، حتى إذا كان ذلك كافياً عبر، وإذا لم يكن كافياً كفى به في النار.

وهنا نقف في شرح هذا الحديث؛ لنتحدث -إن شاء الله- بعد ذلك عن الشفاعة، وآخر من يخرج من النار متجهاً إلى الجنة، له قصة أخرى سنتحدث عنها -إن شاء الله- وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

قوله: (قال أناس: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟) الصحابة يسألون النبي صلى الله عليه وسلم: هل نرى ربنا يوم القيامة؟

إذاً: الصحابة يعرفون أن الله لا يرى في الدنيا، فسؤالهم الآن: هل نرى ربنا يوم القيامة؟

إذاً: لا يرى الله تعالى في الدنيا، لم ير الله أحدٌ من العباد في الدنيا، وحتى النبي صلى الله عليه وسلم لم يره بعيني رأسه، ولكن رؤيته يوم القيامة مؤكدة وثابتة، وهي من عقيدة أهل السنة والجماعة ، ويدل على أن الله لا يرى في الدنيا حديث الإمام مسلم رحمه الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا) ولذلك من ادعى ممن يسمون أنفسهم بالأولياء أو الأقطاب والأوتاد أنه يرى الله في الدنيا فهو كاذب؛ فإن الله عز وجل لا يُرى في الدنيا، وإنما يُرى سبحانه وتعالى يوم القيامة، وهذا الحديث ذكر فيه الحساب، فقال: (لتتبع كل أمة ما كانت تعبد).