الأخوة[2]


الحلقة مفرغة

لا يستطيع قوم بناء مجتمع يسود هذه الأرض إلا إذا كانت لبناته كالبنيان المرصوص، أما أن يكون أفراده شذر مذر: كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون:53]، فخصوماتهم الدقيقة التافهة يمكن أن تقوض أركان المحبة الزائفة التي يدعيها بعضهم مع بعض.

تعامل الأنصار مع المهاجرين وإيثارهم على أنفسهم

إن أسباب نجاح المجتمع الذي كونه النبي صلى الله عليه وسلم كان من أساسه: صدقهم في هذه الأخوة، فقد كانت الأخوة عقداً نافذاً لا لفظاً فارغاً.

في صحيح البخاري أن الأنصار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (اقسم بيننا وبين إخواننا النخل، قال لهم: لا) لماذا؟ لأن المهاجرين لم يكونوا يحسنون الزرع، فمعنى أنهم يأخذون نصف النخل ولا يحسنون الزرع أنهم سيتلفونه ولا يستفيدون به، إذاً: ماذا يفعلون؟

قال المهاجرون للأنصار: ( تكفوننا وتقتسمون معنا الثمر )، يعني: أنتم تشتغلون بالفلاحة وبما يتطلبه النخل، ونحن نقسم معكم هذا الثمر في آخر الموسم.

بل كان من شأن الأنصار عجباً! أنهم كانوا إذا أرادوا أن يقسموا التمر وضعوا أيضاً معه سعف النخيل -وهو الجريد- فكانوا يأخذون بعض الثمر مع السعف، ويجعلون في مقابل هذا السعف تمراً كثيراً للمهاجرين، يعني: كانوا يبخسون أنفسهم حقها، وهم أصحاب الزرع والثمر.

فلما كان يوم خيبر وتدفقت الأموال، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يوفيهم حقهم، فقالوا: (يا رسول الله! إننا فعلنا الذي أمرتنا به -يعني فعلنا ما شرطت علينا- وإنك وعدتنا شيئاً في مقابل هذا، فنريد أن توفي لنا به، قد وعدتنا الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فذلك لكم) ، أين في المسلمين الآن من يقتسم اللقمة مع أخيه بحق، فضلاً عن أن يجور عليه أو أن يتهمه أو أن يأكله؟

إننا وضعنا أيدينا على مكمن الداء، وهو أن كل رجل في المسلمين إنما هو بمفرده يتحرك وحده، لا يلتصق بأخيه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر).

هذا المجتمع مجتمع المؤمنين، وليس مجتمع أدعياء الإيمان، مجتمع المؤمنين الحق: إن أخاك إن تألم شعرت بوجع في قلبك.. هذا هو مجتمع المؤمنين! أما مجتمع أدعياء الإيمان فحدث عن الخلل الذي فيه ولا حرج، فهو أشبه بمجتمع اليهود الذين قال الله عز وجل فيهم: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر:14]، انظر إلى قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ [البقرة:178]، حتى في معرض القتل يذكره بأنه أخوه، لم يقل له فمن عفي له ممن قتله شيئاً، إنما قال: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ [البقرة:178] حتى في معرض القتل والقلوب لدى الحناجر يذكرهم بأنهم إخوة، فما بالك إن لم يكن هناك قتل؛ فإن وجود رابطة الأخوة أدعى؟!

وقد قال الله عز وجل أيضاً: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10] قال هذه الآية بعد قوله عز وجل: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9] هم يقتتلون، والذين يقتتلون عادة ينسون روابط المودة، بدليل أنه يمكن أن يقتل أخاه -في ساحة الحرب- الذي كان يبادله الود بالود، لكن هذه حرب، ومع ضراوة هذه الحرب يذكرهم الله سبحانه بأنهم إخوة: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10].

وفي معرض الطلاق الذي يشحن النفوس ويشحذ، ويكون كل طرف متربصاً بالآخر، يقول الله عز وجل: وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237] ليس لمجرد أنك طلقت المرأة أن تقطع روابط الصلة بينك وبين أهلها، في مثل هذه المواقف -التي تتغلب فيه النزعة الترابية الجسدية على نزعة الإيمان والروح- يذكر الله تبارك وتعالى بوجود هذه الروابط بين المؤمنين.

فهذه الأشياء إن لم تكن موجودة؛ فمن باب أولى أن يوجد هذا الحب والود.

إن ضياع هذه الأخوة أوقعنا في مأزق كبير جداً، فلا نستطيع الآن أن نجمع بين شتات المؤمنين؛ حتى عيرنا الكفرة، وأخذوا سفاسفنا وأظهروها على أنها كبائر، وصاروا يعيرون المؤمنين، والله تبارك وتعالى :لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11] (ما بأنفسهم) أي: الذي علق بأنفسهم، وإن الله تبارك وتعالى سنته لا تتخلف ولا تختلف.

قرأت اليوم لأحد الصحفيين، يقول: إن العالم كله الآن مبهور، ويتابع باهتمام سفينة الفضاء التي أطلقوها من اثني عشر عاماً، وقد قطعت أكثر من أربعة آلاف مليون كيلومتر، يقول: فبينما العالم يهتم بهذا فماذا نجد في بلادنا؟ نجد القوم يناقشون فوائد البنوك هل هي حرام أو حلال، وستر الوجه أهو واجب أم مستحب، ونقل الأعضاء أهو جائز أم لا.

انظروا إلى هذا الجاهل! وما علاقة أن ترسو سفينة الفضاء على أي كوكب بالذي قاله؟! أيريدنا أن نأكل الربا مثلاً، وما علاقة هذا بهذا؟! وهل سلط الله عز وجل خراف البشر على هذه الأمة المتآكلة التي أكلها الجهل والهوى إلا بعد أن أكلوا الربا؟!

إنهم رأونا أمة مستضعفة، كلؤنا مستباح، وليس هناك أحد ينتقم منهم ويردهم على أعقابهم، فشددوا وطأتهم.

يقول الصحفي: وقد سمعت أحد الدعاة هنا في خطبة جمعة يقول: جاءني رجل فقال لي: إني ألقيت يمين الطلاق على امرأتي، وقلت لها كذا وكذا.. هل وقع اليمين أم لا؟

يقول الصحفي: العالم وصل إلى القمر وهذا يسأل عن هذا، وهذا رجل داعية يعتلي منبر أكبر مسجد ويتحدث عن هذا.

فنقول له: كفى جهلاً! فما تمكن الأعداء من الأمة إلا عندما ضيعت أمر ربها وشرعه، وأصبحت أمة ينخر فيها السوس، ولا صريخ ولا منقذ؛ لأنها هانت على الله، وتركت شرعه، وخالفت الأخوة الإسلامية التي بنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام.

فأين أخوتكم أيها المسلمون؟ إننا نرى الرجل يختلف مع أخيه في مسألة فرعية أو مسألة تافهة؛ فيكون حاله كما قال الشاعر الجاهلي:

ألا لا يجهلنْ أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا

يعني: إن تضربني مرة أضربك عشر مرات، ورجعت العصبية المقيتة التي قتلها النبي صلى الله عليه وسلم ووضعها تحت قدميه، وبدأت تطل برأسها على المسلمين.

وكان من نتيجة غياب هذه الأخوة أن ظهرت هذه الأنانية، وأن ظهر هذا الكبر والاعتداد بالنفس، وما ظهرت هذه الصفات في مجتمع إلا قتل، وكلمة (أنا) قد فتكت بثلاثة عتاة؛ فتكت بإبليس عندما قال لله عز وجل: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12] فما كان مصيره؟ كان مصيره النار خالداً مخلداً فيها أبداً.

وكذلك قارون عندما قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78] هذا بعبقريتي وذكائي، أنا كنت أعلم أنني سأكون غنياً؛ لأنني ذكي أحسن التدبير والخطط: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78]، اعتداده بنفسه، فماذا فعل الله به؟ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ [القصص:81].

وكذلك صاحب الجنتين المذكور في سورة الكهف الذي قال الله عز وجل فيه: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ [الكهف:32]، هذا الرجل قال لصاحبه وهو يحاوره: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا [الكهف:34] فماذا كان جزاؤه؟ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا [الكهف:42]، صاحبه قال له: إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا [الكهف:39]، فلعل بعضكم يقول: هذا الرجل الصالح قال: (أنا) أيضاً؟!

نقول: هناك فرق شديد بين (أنا) هنا و(أنا) هناك، إنك لو حذفت كلمة (أنا) في قول الرجل المتكبر ما استقام المعنى، ولو حذفتها في كلام الرجل الصالح لاستقام المعنى: فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا [الكهف:34] أحذف كلمة أنا تجد أن المعنى لا يستقيم، فهذا يدل على أن كلمة (أنا) يدور حولها المعنى، بخلاف قول هذا الرجل الصالح: إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا [الكهف:39] فلو حذفت كلمة (أنا) استقام المعنى: ( إن ترني أقل منك مالاً وولداً )؛ فيدل على أنه لم يعني كلمة (أنا)، إنما قالها في مقابل قول الرجل: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا [الكهف:34]، فهو يقول له: إن كنت تراني أنا -هذا المستضعف- أقل منك مالاً وولداً فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا [الكهف:40].

وفي صحيح البخاري من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري قال: (طرقت الباب على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من؟ فقلت: أنا. فسمعته من داخل الدار يقول: أنا.. أنا! كأنما كرهها) لماذا كرهها؟ لأنها تشعر بكبر، وإن كنا لا نعتقد أن جابر بن عبد الله الأنصاري كذلك، إنما غيره يمكن أن يكون كذلك، فكأنما -وهو يقول: (أنا)- يقول: أنا مستغن عن نسبي وعن تعريفي، (أنا) فلم يقل: أنا جابر أو أنا ابن عبد الله الأنصاري، إنما قال: (أنا) ، قال ابن الجوزي رحمه الله: (فيها نبرة كبر) لذلك كرهها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

والنبي صلى الله عليه وسلم لا يكره شيئاً إلا أن يكون ممقوتاً ولا يأتي بخير، ونحن نتابعه صلى الله عليه وسلم، ونعمل بسنته، فإنه ما تضيع سنة إلا تحل مكانها بدعة، وما يزول إيمان عن بقعة من الأرض إلا حل محله مثله من الكفر، كالزجاجة الفارغة إن لم يملأها شيء ملأها الهواء، فلابد أن تملأ بشيء، ونفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل.

إن ضياع الأخوة كانت نتيجته كارثة كبرى؛ إذ تهرأت روابط الأخوة وتمزقت أواصر المحبة بين المسلمين الآن، وأصبح بعضهم يتجنى على بعض، ولا يعرف أحد لأخيه حقه الذي أوجبه له الدين، وقد صح عن النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين أنه (سمع عائشة رضي الله عنها وهي تقول للبعير: لعنك الله -بعير صعب كما قالت عائشة، أي: أنه بطيء لا يكاد يمشي- فلما سمعها قال: يا عائشة ! إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه) وهذا مع بعير أعجم، ليس بإنسان، فضلاً أن يكون مسلماً، وإنما بعير، يقول لها: (إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه).

فأين اللين في معاملاتنا مع إخواننا المسلمين والرفق بهم؟! إن فقدان هذا الرفق سبب في فقدان الأخوة الإسلامية.

ونتمنى أن أحدنا يخاصم أخاه على أمر شرعي، كأن يكون مقصراً في حق الله عز وجل، ولكنك تجد أكثر الخصومات انتقام للذات وانتصار للنفس! ونكون بهذا قد ضيعنا الحب في الله والبغض في الله.

ونقول لمن هذا حاله: أما سمعت بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه).

هل تنظر في حالك الآن؛ فترى أنك تحب في الله عز وجل وتبغض فيه؟! وانظر إلى صرمة بن قيس ، هذا الشاعر الذي قال في حق النبي صلى الله عليه وسلم:

نعادي الذي عادى من الناس كلهم بحق وإن كان الحبيب المواتيا

يقول: نحن نعادي الذي يعاديه النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان أحب الخلق إلينا؛ فأين نحن من قول هذا الشاعر؟

هل تغير وجهك مرة لأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم انتهك، سواء في بيتك أو على مستوى صحبتك؟

وهل تمعر وجهك له عليه الصلاة والسلام، وتفجرت ينابيع الغيرة في قلبك؟!

راجع نفسك؛ فإن هذا هو معيار كمال الحب:

نعادي الذي عادى من الناس كلهم بحق ولو كان الحبيب المواتيا

قتل كعب بن الأشرف

كعب بن الأشرف آذى النبي صلى الله عليه وسلم، وشبب بنساء المؤمنين، فقال عليه الصلاة والسلام يوماً -كما في الصحيحين - : (من لـكعب بن الأشرف فإنه آذى الله ورسوله. قال محمد بن مسلمة : أتأذن لي في قتله؟!) ، أتعلمون من هو كعب بالنسبة لـمحمد بن مسلمة ؟ إنه خاله، ونحن نعرف أن الروابط من جهة الأم تكون أقوى من الروابط من جهة الأب في محل الحنان، فتجد خالك أحن عليك من عمك.

وهذا خاله، لكنه آذى الله ورسوله، فلا يساوي بعرة ولا قيمة له فقال: (أتأذن لي في قتله؟ قال: نعم. قال: فهل تأذن لي أن أقول له شيئاً؟ -يعني أن أكذب عليه حتى أستدرجه- قال: نعم) ، فذهب معه أبو نائلة ، أخو كعب بن الأشرف من الرضاعة، يعني: ليس رجلاً غريباً، إنما تربطه به أواصر محبة، كان من الممكن أن يحابي ويقول: يذهب غيري؛ فإن قلبي لا يطاوعني.. ولكن:

نعادي الذي عادى من الناس كلهم بحق ولو كان الحبيب المواتيا

فذهبا إليه وقالا له: ( إن هذا الرجل -يعنيان النبي صلى الله عليه وسلم- قد أعنتنا وشق علينا، وطلب منا صدقة ونحن لا نجد ما نأكل. قال: قد علمت والله ليشقن عليكم. قالوا: ولكنا لا نريد أن نظهر أننا تركناه حتى نرى شأنه أو ما يؤول إليه أمره، فهلا أعطيتنا وسقاً أو وسقين من شعير فنعطيهما لهذا الرجل؟! قال: ارهنوني شيئاً -وسق من شعير أو وسقين لا قيمة لهما، فانظر إلى هذا المشرك الكافر ماذا يريد في مقابل وسق!- قالوا له: وما تريد؟ قال: ارهنوني نساءكم. فقالوا له: أنت أجمل العرب، وقلما جاءتك امرأة إلا فتنت بك؛ فاغتر في نفسه، فقال: إذاً ارهنوني أولادكم. قالوا: معاذ الله أن يسب أولادنا يوماً أنهم رهنوا بوسق من شعير! ولكن نرهنك اللأمة -اللأمة هي الدرع والسيف، وإنما قالوا: نرهنك اللأمة حتى إذا أتوا بالسلاح لا يشعر بريبة، وأنهم جاءوا ليقتلوه- قال: نعم. فحددوا موعداً، فلما أرادوا -لأنهم اصطحبوا اثنين آخرين- أن يذهبوا إلى كعب بن الأشرف صحبهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: الله معكم. فذهبوا إليه وناداه أبو نائلة : انزل يا كعب . فقالت امرأته: إلي أين يا كعب في هذه الساعة؟ قال: إنه أخي أبو نائلة ، أخي من الرضاعة، وإن الكريم إذا دعي إلى طعان بليل أجاب، كيف لا أنزل؟! قالت: لا تنزل، فإني أشم رائحة الدم. فقال: هذا أخي أبو نائلة ، ونزل، وكان قد تطيب، وكان ريحه يسبقه، فقال محمد بن مسلمة : ذروني أقول له: دعني أشم رأسك، فإذا استمكنت من ذؤابتيه ورأسه فدونكم فاقتلوه.

فلما جاء كعب قال له محمد بن مسلمة : ما رأيت كاليوم ريحاً! هلا تأذن لي أن أشم رأسك؟ قال: نعم، فأعطاه رأسه، فاستمكن منه وقال: دونكم فاقتلوه، فسمعوا قعقة السيوف على عظمه، وانطلقوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآهم قال: أفلحت الوجوه..! قالوا: ووجهك يا رسول الله!).

هذا عدوا الله ورسوله لا قيمة له:

نعادي الذي عادى من الناس كلهم بحق ولو كان الحبيب المواتيا

موقف عبد الله بن عبد الله بن أبي من أبيه رأس النفاق

وهذا عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول ، ابن زعيم المنافقين ورأسهم: (قال عبد الله بن أبي ابن سلول : الذي قال لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ [المنافقون:8] -ويقصد بنفسه الأعز وبالنبي صلى الله عليه وسلم الأذل، لعنه الله- فقال عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دعني أقطع عنقه. قال: (معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه). فقام عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول وقال: يا رسول الله! إني لا أحب أن أرى قاتل أبي يمشي على الأرض، فأنا أقتله. قال له: لا تقتل أباك، فماذا يفعل عبد الله ؟- ذهب إلى أبيه وأخذ بتلابيبه، وقال: والله لن تدخل المدينة حتى تقول: أنك الأذل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم الأعز، وما تركه يدخل المدينة حتى قالها) .

نعادي الذي عادى من الناس كلهم بحق ولو كان الحبيب المواتيا

موقف أبي قتادة مع كعب بن مالك

وهذا أبو قتادة الأنصاري لما تخلف كعب بن مالك في غزوة تبوك، ومنع النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين من كلامه، قال كعب : ( فكنت أمشي في الأسواق ولا يكلمني أحد -يأتي على الناس فينصرفون ويتركونه وحده- قال: فلما شق عليَّ ذلك، كنت في الحال الذي وصف الله عز وجل: ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ [التوبة:118] قال: فتسورت حائط أبي قتادة وهو ابن عمي، وأحب الناس إليَّ ، فسلمت عليه فوالله ما رد عليَّ السلام، فقلت له: يا أبا قتادة ! أما تعلم أني أحب الله ورسوله؟ -لماذا هذه الجفوة؟ أما تعلم أني أحب الله ورسوله؟- فالتفت إليه أبو قتادة وقال: الله أعلم. قال كعب: ففاضت عيناي رثاءً لنفسه.

فهؤلاء هم الناس الذين انتظمت حياتهم في سلك واحد وهم الذين انتصروا على أهل الأرض جميعاً؛ لأن هذا يؤذن أن قلبهم واحد، وأن مشاعرهم واحدة لا تتخلف، فانظروا إلى حالهم وانظروا إلى حال المسلمين الآن، ترى أنهم أجدر الناس، وأحقهم بنصر الله عز وجل، وترى أننا الآن لا نستحق نصر الله تبارك وتعالى، كيف وقلوبنا ليست على قلب رجل واحد كما أومأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إن اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

إن أسباب نجاح المجتمع الذي كونه النبي صلى الله عليه وسلم كان من أساسه: صدقهم في هذه الأخوة، فقد كانت الأخوة عقداً نافذاً لا لفظاً فارغاً.

في صحيح البخاري أن الأنصار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (اقسم بيننا وبين إخواننا النخل، قال لهم: لا) لماذا؟ لأن المهاجرين لم يكونوا يحسنون الزرع، فمعنى أنهم يأخذون نصف النخل ولا يحسنون الزرع أنهم سيتلفونه ولا يستفيدون به، إذاً: ماذا يفعلون؟

قال المهاجرون للأنصار: ( تكفوننا وتقتسمون معنا الثمر )، يعني: أنتم تشتغلون بالفلاحة وبما يتطلبه النخل، ونحن نقسم معكم هذا الثمر في آخر الموسم.

بل كان من شأن الأنصار عجباً! أنهم كانوا إذا أرادوا أن يقسموا التمر وضعوا أيضاً معه سعف النخيل -وهو الجريد- فكانوا يأخذون بعض الثمر مع السعف، ويجعلون في مقابل هذا السعف تمراً كثيراً للمهاجرين، يعني: كانوا يبخسون أنفسهم حقها، وهم أصحاب الزرع والثمر.

فلما كان يوم خيبر وتدفقت الأموال، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يوفيهم حقهم، فقالوا: (يا رسول الله! إننا فعلنا الذي أمرتنا به -يعني فعلنا ما شرطت علينا- وإنك وعدتنا شيئاً في مقابل هذا، فنريد أن توفي لنا به، قد وعدتنا الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فذلك لكم) ، أين في المسلمين الآن من يقتسم اللقمة مع أخيه بحق، فضلاً عن أن يجور عليه أو أن يتهمه أو أن يأكله؟

إننا وضعنا أيدينا على مكمن الداء، وهو أن كل رجل في المسلمين إنما هو بمفرده يتحرك وحده، لا يلتصق بأخيه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر).

هذا المجتمع مجتمع المؤمنين، وليس مجتمع أدعياء الإيمان، مجتمع المؤمنين الحق: إن أخاك إن تألم شعرت بوجع في قلبك.. هذا هو مجتمع المؤمنين! أما مجتمع أدعياء الإيمان فحدث عن الخلل الذي فيه ولا حرج، فهو أشبه بمجتمع اليهود الذين قال الله عز وجل فيهم: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر:14]، انظر إلى قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ [البقرة:178]، حتى في معرض القتل يذكره بأنه أخوه، لم يقل له فمن عفي له ممن قتله شيئاً، إنما قال: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ [البقرة:178] حتى في معرض القتل والقلوب لدى الحناجر يذكرهم بأنهم إخوة، فما بالك إن لم يكن هناك قتل؛ فإن وجود رابطة الأخوة أدعى؟!

وقد قال الله عز وجل أيضاً: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10] قال هذه الآية بعد قوله عز وجل: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9] هم يقتتلون، والذين يقتتلون عادة ينسون روابط المودة، بدليل أنه يمكن أن يقتل أخاه -في ساحة الحرب- الذي كان يبادله الود بالود، لكن هذه حرب، ومع ضراوة هذه الحرب يذكرهم الله سبحانه بأنهم إخوة: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10].

وفي معرض الطلاق الذي يشحن النفوس ويشحذ، ويكون كل طرف متربصاً بالآخر، يقول الله عز وجل: وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237] ليس لمجرد أنك طلقت المرأة أن تقطع روابط الصلة بينك وبين أهلها، في مثل هذه المواقف -التي تتغلب فيه النزعة الترابية الجسدية على نزعة الإيمان والروح- يذكر الله تبارك وتعالى بوجود هذه الروابط بين المؤمنين.

فهذه الأشياء إن لم تكن موجودة؛ فمن باب أولى أن يوجد هذا الحب والود.

إن ضياع هذه الأخوة أوقعنا في مأزق كبير جداً، فلا نستطيع الآن أن نجمع بين شتات المؤمنين؛ حتى عيرنا الكفرة، وأخذوا سفاسفنا وأظهروها على أنها كبائر، وصاروا يعيرون المؤمنين، والله تبارك وتعالى :لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11] (ما بأنفسهم) أي: الذي علق بأنفسهم، وإن الله تبارك وتعالى سنته لا تتخلف ولا تختلف.

قرأت اليوم لأحد الصحفيين، يقول: إن العالم كله الآن مبهور، ويتابع باهتمام سفينة الفضاء التي أطلقوها من اثني عشر عاماً، وقد قطعت أكثر من أربعة آلاف مليون كيلومتر، يقول: فبينما العالم يهتم بهذا فماذا نجد في بلادنا؟ نجد القوم يناقشون فوائد البنوك هل هي حرام أو حلال، وستر الوجه أهو واجب أم مستحب، ونقل الأعضاء أهو جائز أم لا.

انظروا إلى هذا الجاهل! وما علاقة أن ترسو سفينة الفضاء على أي كوكب بالذي قاله؟! أيريدنا أن نأكل الربا مثلاً، وما علاقة هذا بهذا؟! وهل سلط الله عز وجل خراف البشر على هذه الأمة المتآكلة التي أكلها الجهل والهوى إلا بعد أن أكلوا الربا؟!

إنهم رأونا أمة مستضعفة، كلؤنا مستباح، وليس هناك أحد ينتقم منهم ويردهم على أعقابهم، فشددوا وطأتهم.

يقول الصحفي: وقد سمعت أحد الدعاة هنا في خطبة جمعة يقول: جاءني رجل فقال لي: إني ألقيت يمين الطلاق على امرأتي، وقلت لها كذا وكذا.. هل وقع اليمين أم لا؟

يقول الصحفي: العالم وصل إلى القمر وهذا يسأل عن هذا، وهذا رجل داعية يعتلي منبر أكبر مسجد ويتحدث عن هذا.

فنقول له: كفى جهلاً! فما تمكن الأعداء من الأمة إلا عندما ضيعت أمر ربها وشرعه، وأصبحت أمة ينخر فيها السوس، ولا صريخ ولا منقذ؛ لأنها هانت على الله، وتركت شرعه، وخالفت الأخوة الإسلامية التي بنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام.

فأين أخوتكم أيها المسلمون؟ إننا نرى الرجل يختلف مع أخيه في مسألة فرعية أو مسألة تافهة؛ فيكون حاله كما قال الشاعر الجاهلي:

ألا لا يجهلنْ أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا

يعني: إن تضربني مرة أضربك عشر مرات، ورجعت العصبية المقيتة التي قتلها النبي صلى الله عليه وسلم ووضعها تحت قدميه، وبدأت تطل برأسها على المسلمين.

وكان من نتيجة غياب هذه الأخوة أن ظهرت هذه الأنانية، وأن ظهر هذا الكبر والاعتداد بالنفس، وما ظهرت هذه الصفات في مجتمع إلا قتل، وكلمة (أنا) قد فتكت بثلاثة عتاة؛ فتكت بإبليس عندما قال لله عز وجل: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12] فما كان مصيره؟ كان مصيره النار خالداً مخلداً فيها أبداً.

وكذلك قارون عندما قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78] هذا بعبقريتي وذكائي، أنا كنت أعلم أنني سأكون غنياً؛ لأنني ذكي أحسن التدبير والخطط: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78]، اعتداده بنفسه، فماذا فعل الله به؟ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ [القصص:81].

وكذلك صاحب الجنتين المذكور في سورة الكهف الذي قال الله عز وجل فيه: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ [الكهف:32]، هذا الرجل قال لصاحبه وهو يحاوره: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا [الكهف:34] فماذا كان جزاؤه؟ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا [الكهف:42]، صاحبه قال له: إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا [الكهف:39]، فلعل بعضكم يقول: هذا الرجل الصالح قال: (أنا) أيضاً؟!

نقول: هناك فرق شديد بين (أنا) هنا و(أنا) هناك، إنك لو حذفت كلمة (أنا) في قول الرجل المتكبر ما استقام المعنى، ولو حذفتها في كلام الرجل الصالح لاستقام المعنى: فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا [الكهف:34] أحذف كلمة أنا تجد أن المعنى لا يستقيم، فهذا يدل على أن كلمة (أنا) يدور حولها المعنى، بخلاف قول هذا الرجل الصالح: إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا [الكهف:39] فلو حذفت كلمة (أنا) استقام المعنى: ( إن ترني أقل منك مالاً وولداً )؛ فيدل على أنه لم يعني كلمة (أنا)، إنما قالها في مقابل قول الرجل: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا [الكهف:34]، فهو يقول له: إن كنت تراني أنا -هذا المستضعف- أقل منك مالاً وولداً فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا [الكهف:40].

وفي صحيح البخاري من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري قال: (طرقت الباب على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من؟ فقلت: أنا. فسمعته من داخل الدار يقول: أنا.. أنا! كأنما كرهها) لماذا كرهها؟ لأنها تشعر بكبر، وإن كنا لا نعتقد أن جابر بن عبد الله الأنصاري كذلك، إنما غيره يمكن أن يكون كذلك، فكأنما -وهو يقول: (أنا)- يقول: أنا مستغن عن نسبي وعن تعريفي، (أنا) فلم يقل: أنا جابر أو أنا ابن عبد الله الأنصاري، إنما قال: (أنا) ، قال ابن الجوزي رحمه الله: (فيها نبرة كبر) لذلك كرهها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

والنبي صلى الله عليه وسلم لا يكره شيئاً إلا أن يكون ممقوتاً ولا يأتي بخير، ونحن نتابعه صلى الله عليه وسلم، ونعمل بسنته، فإنه ما تضيع سنة إلا تحل مكانها بدعة، وما يزول إيمان عن بقعة من الأرض إلا حل محله مثله من الكفر، كالزجاجة الفارغة إن لم يملأها شيء ملأها الهواء، فلابد أن تملأ بشيء، ونفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل.

إن ضياع الأخوة كانت نتيجته كارثة كبرى؛ إذ تهرأت روابط الأخوة وتمزقت أواصر المحبة بين المسلمين الآن، وأصبح بعضهم يتجنى على بعض، ولا يعرف أحد لأخيه حقه الذي أوجبه له الدين، وقد صح عن النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين أنه (سمع عائشة رضي الله عنها وهي تقول للبعير: لعنك الله -بعير صعب كما قالت عائشة، أي: أنه بطيء لا يكاد يمشي- فلما سمعها قال: يا عائشة ! إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه) وهذا مع بعير أعجم، ليس بإنسان، فضلاً أن يكون مسلماً، وإنما بعير، يقول لها: (إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه).

فأين اللين في معاملاتنا مع إخواننا المسلمين والرفق بهم؟! إن فقدان هذا الرفق سبب في فقدان الأخوة الإسلامية.

ونتمنى أن أحدنا يخاصم أخاه على أمر شرعي، كأن يكون مقصراً في حق الله عز وجل، ولكنك تجد أكثر الخصومات انتقام للذات وانتصار للنفس! ونكون بهذا قد ضيعنا الحب في الله والبغض في الله.

ونقول لمن هذا حاله: أما سمعت بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه).

هل تنظر في حالك الآن؛ فترى أنك تحب في الله عز وجل وتبغض فيه؟! وانظر إلى صرمة بن قيس ، هذا الشاعر الذي قال في حق النبي صلى الله عليه وسلم:

نعادي الذي عادى من الناس كلهم بحق وإن كان الحبيب المواتيا

يقول: نحن نعادي الذي يعاديه النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان أحب الخلق إلينا؛ فأين نحن من قول هذا الشاعر؟

هل تغير وجهك مرة لأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم انتهك، سواء في بيتك أو على مستوى صحبتك؟

وهل تمعر وجهك له عليه الصلاة والسلام، وتفجرت ينابيع الغيرة في قلبك؟!

راجع نفسك؛ فإن هذا هو معيار كمال الحب:

نعادي الذي عادى من الناس كلهم بحق ولو كان الحبيب المواتيا