قصة بني إسرائيل مع البقرة


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود:120].

لقد جاءت هذه الآية التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في فترةٍ هي من أحرج الفترات التي مرت بها الدعوة في مكة ، فاحتاج النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون إلى مواساةٍ وأنس وتثبيت، فجاءت هذه القصص لتثبتهم في غمرة هجوم أهل الباطل الشرس ضد جنود الحق، وكذلك فإن هذه القصص عبرة لأولي الألباب كما قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف:111].

القصص توجد عند أهل الكتاب من حيث العموم

وهذه القصص التي في القرآن يوجد بعضها عند اليهود والنصارى، بل الكثير منها موجود من جهة العموم، يعرفون قصة يوسف من جهة العموم، يعرفون قصة أصحاب الكهف من جهة العموم، لكن التفصيلات التي جاءت في القرآن لا توجد عندهم، بل إنهم قد اختلفوا في أشياء، وجاء القرآن يفصل بينهم: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [النمل:76].

فأكثره قد فصل بينهم فيه في هذا الكتاب العزيز، ولذلك فإننا لسنا بحاجة إليهم: وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف:22] لا تستفتِ في أهل الكهف أحداً من أهل الكتاب، فعندك المرجع، وعندك الكفاية.

موقفنا مما عند أهل الكتاب من العلم

ولذلك فإن اللجوء إلى الإسرائيليات في معرفة التفاصيل ليس من الحكمة في شيء، فهذه الإسرائيليات كثيرٌ منها كذبٌ وافتراءٌ على الأنبياء، وفيه ما لا يليق بهم، والقصص عن الماضين غيب فإننا لم نكن معهم، كما قال الله تعالى بعد سياق قصة نوح: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا [هود:49] وقال في ختام قصة يوسف: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ [يوسف:102]، وقال في قصة مريم: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُون [آل عمران:44] فإذاً هذه القصص بالنسبة لنا غيب؛ لأننا لم نشهدها، ولم نسمعها، ولم نعاصرها من قبل، ولذلك لا يجوز أن نأتي على الغيب بشواهد من الإسرائيليات الموجودة عند الكفار في كتبهم من أهل الكتاب، فإن الله سبحانه وتعالى قد أغنانا عنها، وهذه الإسرائيليات الموجودة ثلاثة أقسام:

القسم الأول: ما يوافق ما عندنا فهذا نأخذه بطبيعة الحال.

والقسم الثاني: يخالف ما عندنا ويصادمه ويضاده، فهذا نرفضه ونكذب به.

وقسم ثالث: لا يوافق ولا يخالف، فقد يكون فيه تفصيل معين ليس مذكوراً في القصة التي وردت في الكتاب والسنة، كذكر بعض البقرة الذي ضرب به القتيل من بني إسرائيل فحيي، مثل هذا نحن لا نصدق به ولا نكذب؛ لأنه قد يكون حقاً فنكذبه، وقد يكون باطلاً فنصدقه، فالنبي صلى الله عليه وسلم رخص لنا في رواية أخبارهم -غير المصادمة للشريعة- لكنه قال: (لا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإنه قد يكون حقاً فتكذبونهم به، وقد يكون باطلاً فتصدقونهم به) ولذلك فهذا موقفنا من الإسرائيليات.

الفائدة من سرد هذه القصص في القرآن

وبالنسبة لهذه القصص فإنها بديعة الطريقة، عجيبة الأسلوب، صادقة الخبر، بتدبرها تظهر السنن الربانية، فإنه في نهاية كل قصة يكون فيه خبر التمكين والنصر للمؤمنين والهلاك والعذاب للمكذبين، كما قال الله تعالى: وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود:120] وهذه القصص ليست مخترعةً، بل إنها واقعة حقاً وحقيقة كما أخبرنا ربنا عز وجل، وينبغي أن يكون موقفنا منها الاعتبار والتفكر كما تقدم.

وما نعجبه أشد العجب: ما الذي أصاب هذه الأمة حتى غضت النظر عن القصص التي قصها ربها عليها في كتابه، وأهملت أمرها، وظن أهلها أنها أمور تاريخية لا تفيد إلا المؤرخين، وحتى إن بعض المرتدين في هذا العصر زعم أن في القرآن خرافات مثل عصا موسى وقصة الكهف، ولا شك أن هذا الكلام كفرٌ وردة وخروج عن ملة الإسلام.

وكذلك فإن هذه القصص فيها نوعٌ من التربية عظيم، فإن التربية بالقصة من ألوان التربية المهمة، فإن الحادث المرتبط بالأسباب والنتائج تهفو لها الأسماع، فإذا تخللتها مواطن العبرة في أخبار الماضي كان حب الاستطلاع لمعرفتها من أقوى العوامل على رسوخ عبرتها في النفس، وكذلك نستفيد منها الإيمان بالرسل، فإننا وإن كنا نؤمن بجميعهم على وجه العموم والإجمال، لكن لما تأتي تفاصيل قصة بعض الأنبياء بالدقائق والأحداث فإن ذلك يزيدنا إيماناً بهم على إيمان، وكذلك فإن في هذه القصص تقريراً للإيمان بالله وتوحيده وإخلاص العمل له عز وجل، وكذلك فإن فيها عبرة للمؤمنين يقتدون بها في سائر المقامات، كالعبودية والدعوة والصبر والثبات والطمأنينة والسكون والصدق والإخلاص لله رب العالمين.

ويوجد في كثيرٍ من القصص أحكامٌ فقهية وشرعية يعرفها أهل العلم، كما استدل أهل العلم من قوله: وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ [يوسف:72] على جواز عقد الجعالة والكفالة؛ بابان من أبواب الفقه دليلهما في هذه الكلمات من الآية في قصة يوسف.

وكذلك فإن في هذه القصص التسلية عن المؤمنين فيما يلاقونه من أنواع التكذيب والاتهام الباطل من الكفار، وفيها إبراز أن الأنبياء كلهم جاءوا بشيءٍ واحد وهو التوحيد والإسلام وإن اختلفت شرائعهم.

وكذلك فيها أن الابتلاء لابد أن يحدث للمؤمنين وأن هذه سنة الله فيهم، وأن وظيفة رسل الله البلاغ، وأنهم لا يملكون للناس نفعاً ولا ضراً، وقد يوجد لنبيٍ ولدٌ كافر لا يغني عنه شيئاً، وقد يوجد لنبي أبٌ كافر لا يغني عنه شيئاً، وقد يوجد لنبي زوجة كافرة لا يغني عنها شيئاً.

وكذلك فإننا نستفيد من القصص التي ذكرها ربنا عز وجل مواعظ، الآفة التي وقع فيها كل قوم فنستفيد معرفة عيب قوم نوح في غوايتهم وغرورهم، وقوم فرعون في ثروتهم وعتوهم، وقوم لوط في فاحشتهم، وقوم عاد في قوتهم وبطشهم، وقوم ثمود في أشرهم وبطرهم، وقوم مدين في تطفيفهم للمكيال وإخسارهم للموازين، وبني إسرائيل في تمردهم وتحايلهم ونكوصهم.

وكذلك فإننا نستفيد من هذه القصص بمقارعة أهل الكتاب الحجة بالحجة والبيان، وكذلك فإننا سنكون شهداء لكل نبي على أمته يوم القيامة.

ومن شروط الشاهد: أن يعلم ما يشهد به، والدليل على هذه الشهادة قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (يدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم. فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك، فيقول: محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلغ ويكون الرسول عليكم شهيداً) كذلك قوله عز وجل: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة:143].

ثم إن في هذه القصص بياناً لبلاغة القرآن الكريم، وهذه الخصيصة العظيمة كيف جاء هذا النسق وهذا الأسلوب البديع في القرآن الكريم وهو ولا شك معجزةٌ من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم.

فهذه طائفة من فوائد القصة وشيء من التربية في القصة، ولنشرع الآن في ذكر قصة من القصص في هذا القرآن وهي قصة البقرة.

وهذه القصص التي في القرآن يوجد بعضها عند اليهود والنصارى، بل الكثير منها موجود من جهة العموم، يعرفون قصة يوسف من جهة العموم، يعرفون قصة أصحاب الكهف من جهة العموم، لكن التفصيلات التي جاءت في القرآن لا توجد عندهم، بل إنهم قد اختلفوا في أشياء، وجاء القرآن يفصل بينهم: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [النمل:76].

فأكثره قد فصل بينهم فيه في هذا الكتاب العزيز، ولذلك فإننا لسنا بحاجة إليهم: وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف:22] لا تستفتِ في أهل الكهف أحداً من أهل الكتاب، فعندك المرجع، وعندك الكفاية.

ولذلك فإن اللجوء إلى الإسرائيليات في معرفة التفاصيل ليس من الحكمة في شيء، فهذه الإسرائيليات كثيرٌ منها كذبٌ وافتراءٌ على الأنبياء، وفيه ما لا يليق بهم، والقصص عن الماضين غيب فإننا لم نكن معهم، كما قال الله تعالى بعد سياق قصة نوح: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا [هود:49] وقال في ختام قصة يوسف: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ [يوسف:102]، وقال في قصة مريم: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُون [آل عمران:44] فإذاً هذه القصص بالنسبة لنا غيب؛ لأننا لم نشهدها، ولم نسمعها، ولم نعاصرها من قبل، ولذلك لا يجوز أن نأتي على الغيب بشواهد من الإسرائيليات الموجودة عند الكفار في كتبهم من أهل الكتاب، فإن الله سبحانه وتعالى قد أغنانا عنها، وهذه الإسرائيليات الموجودة ثلاثة أقسام:

القسم الأول: ما يوافق ما عندنا فهذا نأخذه بطبيعة الحال.

والقسم الثاني: يخالف ما عندنا ويصادمه ويضاده، فهذا نرفضه ونكذب به.

وقسم ثالث: لا يوافق ولا يخالف، فقد يكون فيه تفصيل معين ليس مذكوراً في القصة التي وردت في الكتاب والسنة، كذكر بعض البقرة الذي ضرب به القتيل من بني إسرائيل فحيي، مثل هذا نحن لا نصدق به ولا نكذب؛ لأنه قد يكون حقاً فنكذبه، وقد يكون باطلاً فنصدقه، فالنبي صلى الله عليه وسلم رخص لنا في رواية أخبارهم -غير المصادمة للشريعة- لكنه قال: (لا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإنه قد يكون حقاً فتكذبونهم به، وقد يكون باطلاً فتصدقونهم به) ولذلك فهذا موقفنا من الإسرائيليات.

وبالنسبة لهذه القصص فإنها بديعة الطريقة، عجيبة الأسلوب، صادقة الخبر، بتدبرها تظهر السنن الربانية، فإنه في نهاية كل قصة يكون فيه خبر التمكين والنصر للمؤمنين والهلاك والعذاب للمكذبين، كما قال الله تعالى: وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود:120] وهذه القصص ليست مخترعةً، بل إنها واقعة حقاً وحقيقة كما أخبرنا ربنا عز وجل، وينبغي أن يكون موقفنا منها الاعتبار والتفكر كما تقدم.

وما نعجبه أشد العجب: ما الذي أصاب هذه الأمة حتى غضت النظر عن القصص التي قصها ربها عليها في كتابه، وأهملت أمرها، وظن أهلها أنها أمور تاريخية لا تفيد إلا المؤرخين، وحتى إن بعض المرتدين في هذا العصر زعم أن في القرآن خرافات مثل عصا موسى وقصة الكهف، ولا شك أن هذا الكلام كفرٌ وردة وخروج عن ملة الإسلام.

وكذلك فإن هذه القصص فيها نوعٌ من التربية عظيم، فإن التربية بالقصة من ألوان التربية المهمة، فإن الحادث المرتبط بالأسباب والنتائج تهفو لها الأسماع، فإذا تخللتها مواطن العبرة في أخبار الماضي كان حب الاستطلاع لمعرفتها من أقوى العوامل على رسوخ عبرتها في النفس، وكذلك نستفيد منها الإيمان بالرسل، فإننا وإن كنا نؤمن بجميعهم على وجه العموم والإجمال، لكن لما تأتي تفاصيل قصة بعض الأنبياء بالدقائق والأحداث فإن ذلك يزيدنا إيماناً بهم على إيمان، وكذلك فإن في هذه القصص تقريراً للإيمان بالله وتوحيده وإخلاص العمل له عز وجل، وكذلك فإن فيها عبرة للمؤمنين يقتدون بها في سائر المقامات، كالعبودية والدعوة والصبر والثبات والطمأنينة والسكون والصدق والإخلاص لله رب العالمين.

ويوجد في كثيرٍ من القصص أحكامٌ فقهية وشرعية يعرفها أهل العلم، كما استدل أهل العلم من قوله: وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ [يوسف:72] على جواز عقد الجعالة والكفالة؛ بابان من أبواب الفقه دليلهما في هذه الكلمات من الآية في قصة يوسف.

وكذلك فإن في هذه القصص التسلية عن المؤمنين فيما يلاقونه من أنواع التكذيب والاتهام الباطل من الكفار، وفيها إبراز أن الأنبياء كلهم جاءوا بشيءٍ واحد وهو التوحيد والإسلام وإن اختلفت شرائعهم.

وكذلك فيها أن الابتلاء لابد أن يحدث للمؤمنين وأن هذه سنة الله فيهم، وأن وظيفة رسل الله البلاغ، وأنهم لا يملكون للناس نفعاً ولا ضراً، وقد يوجد لنبيٍ ولدٌ كافر لا يغني عنه شيئاً، وقد يوجد لنبي أبٌ كافر لا يغني عنه شيئاً، وقد يوجد لنبي زوجة كافرة لا يغني عنها شيئاً.

وكذلك فإننا نستفيد من القصص التي ذكرها ربنا عز وجل مواعظ، الآفة التي وقع فيها كل قوم فنستفيد معرفة عيب قوم نوح في غوايتهم وغرورهم، وقوم فرعون في ثروتهم وعتوهم، وقوم لوط في فاحشتهم، وقوم عاد في قوتهم وبطشهم، وقوم ثمود في أشرهم وبطرهم، وقوم مدين في تطفيفهم للمكيال وإخسارهم للموازين، وبني إسرائيل في تمردهم وتحايلهم ونكوصهم.

وكذلك فإننا نستفيد من هذه القصص بمقارعة أهل الكتاب الحجة بالحجة والبيان، وكذلك فإننا سنكون شهداء لكل نبي على أمته يوم القيامة.

ومن شروط الشاهد: أن يعلم ما يشهد به، والدليل على هذه الشهادة قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (يدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم. فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك، فيقول: محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلغ ويكون الرسول عليكم شهيداً) كذلك قوله عز وجل: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة:143].

ثم إن في هذه القصص بياناً لبلاغة القرآن الكريم، وهذه الخصيصة العظيمة كيف جاء هذا النسق وهذا الأسلوب البديع في القرآن الكريم وهو ولا شك معجزةٌ من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم.

فهذه طائفة من فوائد القصة وشيء من التربية في القصة، ولنشرع الآن في ذكر قصة من القصص في هذا القرآن وهي قصة البقرة.

كنا قد مررنا بهذه القصة في تلاوتنا في سورة البقرة في التراويح، قال الله تعالى: إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ... [البقرة:67] الآيات.

خلاصة القصة

وهذه القصة خلاصتها: أنها وقعت جريمة قتل في بني إسرائيل في زمن موسى، ولم يعرف القاتل، وتدافعوا في ذلك وصارت الاتهامات متبادلة، وأراد الله تعالى أن يكشف لهم القاتل بواسطة معجزة مادية محسوسة، فأوحى الله إلى موسى عليه السلام أن يأمرهم بذبح بقرةٍ، أي بقرة كانت بدون تحديدٍ لمواصفاتها، ولكن طبيعة اليهود في التلكؤ والمماطلة والجدال جعلتهم يسألونه عن عمر البقرة أولاً، ثم عن لونها ثانياً، ثم عن عملها ثالثاً، وأخيراً ذبحوها وما كادوا يفعلون، وأمروا بضرب القتيل ببعضها فضرب، فأحياه الله فأخبر عن قاتله وقال: قتلني فلان، ثم قيل: إنه قد مات في وسط دهشة بني إسرائيل.

وهذه القصة ولا شك من القصص العظيمة التي قصها علينا ربنا في القرآن الكريم عن بني إسرائيل لنأخذ منها العبرة والعظة.

وهذه القصة لا شك قد اكتنفتها إسرائيليات، وجاءت في بعض تفاصيلها أخبار، لكننا على الموقف السابق لا نحتاج إلى هذه التفصيلات؛ لأنه لو كان لنا فيها خير وفائدة لذكرها ربنا عز وجل، فنحن لا نستفيد شيئاً إذا عرفنا أن البعض الذي ضرب منه القتيل من البقرة هو الذَّنب أو غضروف الكتف، أو الرجل، أو الرأس، هذا التفصيل لا يفيدنا، فإن كان ورد في بعض الإسرائيليات فإننا في غنية عنه.

هذه القصة توضح بجلاء تنطع بني إسرائيل وتشددهم في الأحكام، وكيف أن الله شدد عليهم، وقد كره لنا كثرة السؤال.

أسلوب القرآن في عرض القصة

وجاءت هذه القصة بأسلوب يأخذ بمجامع القلوب، ويحرك الفكر في النظر إليها تحريكاً، ويهز النفس للاعتبار بها هزاً، وقال الله تعالى فيها: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [البقرة:72] هذا ذكرت فيه المخالفة أو الاختلاف (فادارأتم فيها) ثم المنة في الخلاصة بقوله فقلنا: (فاضربوه ببعضها) ولكن وسيلة الخلاص من هذه الاتهامات وهذا اللغط، الوسيلة ذكرت قبل السبب الذي من أجله أمروا بذبح البقرة، فإننا أول ما نطالع الآيات: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] نحن لا نعرف لماذا في البداية، لكن عندما نقرأ التكملة: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [البقرة:72] ثم قال: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [البقرة:73] عرفنا السبب الذي من أجله أمروا بذبح البقرة.

فإذاً: تقديم ذبح البقرة كان فيه تشويق للسامع إلى معرفة ما وراء القصة، وما هو السبب الذي من أجله أمروا بذبح البقرة، ثم يفاجأ الشخص وهو يقرأ بحكاية السبب، وقد حصل عنده تشويقٌ سابق لمعرفة السبب الذي من أجله أمروا بذبح البقرة، فتتوجه الفكرة بأجمعها لتلقي ذلك، وتظهر الحكمة في أمر الله تعالى لأمةٍ من الأمم بذبح بقرة خفية.

تنطعهم في تنفيذ الأوامر

وظاهر الأمر أن نبيهم موسى عليه السلام أمرهم بذبح بقرةٍ غير معينة، ولكنهم تنطعوا وتشددوا فشدد الله عليهم، فقوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] أي بقرة كانت، وكونهم بحثوا في صفاتها تكلفاً منهم، كان ينبغي لهم أن يتنزهوا عنه، وأن يمتثلوا الأمر بذبح البقرة، ولو كان هناك صفة معينة في هذا لذكرها لهم ربهم على لسان نبيهم، ولذلك عنفهم الله تعالى بقوله: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [البقرة:68]، وفي قوله: فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة:71] وعلمنا تقصيرهم في الإتيان بما أمروا به أولاً، وجاء عن ابن عباس بإسنادٍ صحيح أنه قال: [لو ذبحوا أي بقرة أرادوا لأجزأت منهم، لكنهم شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم] وقد كانوا محتاجين إلى ذبح البقرة لمعرفة القاتل، والله تعالى لم يذكر لهم صفة معينة في أول الأمر، فدل ذلك على أنه يجزئ أي بقرة، ولو كان البيان متعيناً لجاء، إذ لا يجوز من الله أن يؤخر البيان عن وقت الحاجة، فكلفوا في البداية بذبح أية بقرة كانت، وثانياً كلفوا ألا تكون لا فارضٌ ولا بكر، بل عوان بين ذلك، فلما لم يفعلوا كلفوا أن تكون بقرة صفراء، فلما لم يفعلوا كلفوا أن تكون لا ذلول، تثير الأرض ولا تسقي الحرث، كلما تشددوا في السؤال، شدد الله عليهم بصفات إضافية في هذه البقرة.

ولما أمرهم بذبح البقرة قالوا له: أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً [البقرة:67] يعني: أتجعلنا مكاناً للهزأ والسخرية؟ أتهزأ بنا؟ أتتخذنا سخريةً؟

سوء أدبهم مع نبي الله عليه السلام

بهذا يواجهون نبيهم، نبي يأمرهم بأمر يقولون: أتهزأ بنا؟ أتسخر منا؟ هل هذا خطاب يليق بنبي؟ هل هذا أدب ينبغي للنبي؟

هذا من شأن بني إسرائيل الذين تمردوا على نبيهم، وظنوا أنه يلاعبهم، ظنوا أنه يهزأ بهم، وأشعر جوابهم هذا ما ثبت من فضاضتهم وسوء أدبهم، ولذلك رد موسى عليهم بقوله: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67] لأن الاستهزاء في أثناء التبليغ لا يليق بنبي، كيف يهزأ نبي وهو يبلغ قومه؟! كيف يجعل في التبليغ مجالاً للسخرية والاستهزاء والمزاح والضحك والعبث؟! لا يمكن، ولذلك تجلى سوء أدبهم، لما قالوا له: أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً [البقرة:67].

وفي قول موسى: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67] فائدة بديعة في دفاع الداعية عن نفسه إذا اتهم بشيءٍ باطل، وهذا الهزأ في أثناء تبليغ أمر الله تعالى جهلٌ وسفه نفاه موسى عن نفسه، وأكد أنه جاد غاية التأكيد، وقال: أعوذ بالله، ألتجئ وأعتصم به أن أكون من الجاهلين الذين يتقدمون في الأمور بغير علم، فرموا موسى بالسفه والجهالة، ودافع موسى عليه السلام عن نفسه، وقال: ألتجئ إلى الله وأعتصم بتأديبه إياي من الجهالة والهزأ بالناس.

وكان موسى عليه السلام حكيماً لما قال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ [البقرة:67] لم يقل: أنا آمركم، أو اذبحوا بقرة؛ لأن موسى يعلم طبيعة هؤلاء القوم، ويعلم تلكؤهم وتباطؤهم وتمردهم، ولذلك قال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ [البقرة:67] بيَّن لهم أن الأمر من الله حتى يقطع عليهم الطريق على التأخر في التنفيذ أو التحايل، ويقطع عليهم الطريق في المناقشة. ربما قالوا له: إنما أتيت به من عند نفسك، هذا رأيك الشخصي أن نذبح بقرة، لكنه قال لهم بكلمات واضحة ومحددة: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] وقوله: (بقرة) هذه نكرة في سياق الأمر تفيد العموم، اذبحوا أي بقرة، التنكير هنا يفيد العموم، لا يهم لونها ولا حجمها ولا عمرها، ولا عملها، ولا ثمنها، المهم أن تذبحوا بقرة، لكن اليهود قومٌ بهت، لم ينقادوا للأمر ولم ينفذوه فوراً، ولم يطيعوا الله ورسوله، وأنى لهم أن يفعلوا ذلك؟

فلذلك بدلاً من أن يوقروا نبيهم وينفذوا أمره، تواقحوا عليه وأساءوا الأدب واعترضوا قائلين: أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً [البقرة:67] وكأنهم يقولون: عجيب! ما هي الصلة بين ذبح البقرة وبين كشف هوية القاتل؟

نحن جئناك في حل قضيتنا نريد أن نعرف القاتل، وبما أنك نبي تعلم الغيب بإذن الله فأخبرنا من هو القاتل، ثم أنت تطلب منا أن نذبح بقرة بدلاً من أن تكشف لنا عن القاتل؟! وهذا طلبٌ مريبٌ يدل على أنك تريد أن تتخذنا هزواً.

خطورة الاستهزاء والمزاح في الأمور الدينية

أولاً: هذه طبيعة نفسية بني إسرائيل، يعتبرون أمر الله تعالى نوعاً من الهزأ والسخرية، وثانياً: يظنون أنه بهذا الطلب يريد أن يشغلهم عن قضيتهم الأساسية لمعرفة القتيل، وثالثاً: يظنون أن موسى الجاد عليه السلام الذي هو من أولي العزم من الرسل يظنون أنه يسخر ويهزأ ويلعب من خلال الأوامر التي يوجهها لهم، وهذا يشبه ما فعله قوم إبراهيم لما قالوا له: أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ [الأنبياء:55] ونفى موسى التهمة عن نفسه، وقال: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67] وهذا دليل على أن السخرية والاستهزاء جهل.

وفيه فائدة تربوية مهمة: وهي أن الإفراط في المزاح وعدم الجدية من الجهل.

وأن الشخص المزاح اللعوب الذي يكثر السخرية والاستهزاء إنسانٌ جاهل، وبذلك نعلم أيضاً من هذه الآية خطورة الاستهزاء والطرف التي يرويها بعض الناس التي يسمونها نكتاً في قضايا عقدية أو شرعية، وأن هذا أمرٌ خطير يؤدي إلى الكفر والخروج عن الملة، كما ينسب بعضهم الجنة والنار ويعملون (نكت) وطرائف على بعض أحكام الشريعة.

وكذلك نعلم أن الذين حولوا حياتهم وحياة الآخرين إلى ضحكٍ دائم فيما يسمونه (بالكوميديا) اليوم، ويعملون لها مسرحيات وأفلاماً ويكون هم الشخص هو الضحك واللعب، يتبين لنا أن هؤلاء الناس من الجاهلين.

وكذلك يتبين أن المسلم الصادق جاد وملتزم، قد يمزح ولكنه لا يقول إلا حقاً، وقد يضحك ولكن بأدبٍ ووقار، وليس المعنى تحريم الضحك أو المزاح، بل إن المقصود هو منع تحويل الحياة إلى ضحكٍ كلها ومزاحٍ وعدم الجدية، فإن المسلم الجاد لا يرضى أن يكون من الجاهلين.

تجرؤهم بقولهم: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ)

قالوا له بعد ذلك لما قال: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ [البقرة:67-68] قولهم (ادع لنا ربك) كأنهم يقولون: ربك أنت وليس بربنا نحن، وهذا ربما دل على سوء أدبهم مع الله تعالى، وقد قالوا أشياء كبيرة مثل هذا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24].

وهذا يكشف عن طبيعتهم ويبين الفرق بينهم وبين الصحابة في الأدب مع الله، فإن صحابة نبينا صلى الله عليه وسلم قالوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285] لما نزل قول الله عز وجل: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284] شق ذلك على الصحابة، لكن لم يتمردوا ولم يرفضوا، قالوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285] فلما زلت بهم ألسنتهم أنزل الله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ... [البقرة:286] إلى آخر الآية التي فيها تجاوز عن الناسي والجاهل والمخطئ، الجاهل الذي لا يعلم الحكم وهو معلومٌ بجهله.

لكن بنو إسرائيل يختلفون عن الصحابة تماماً، لم يقولوا: سمعنا وأطعنا، قالوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ [البقرة:68] قالوا: أنت حيرتنا، أنت أبهمت علينا الأمر، كلامك غير واضح، يحتاج إلى زيادة تفصيل، حدد لنا عمر هذه البقرة وكأنهم يقولون: لو حددت لنا عمر البقرة نكتفي وننفذ، فأجابهم بقوله: (إنه يقول) مرة أخرى يعزو الأمر إلى الله، والتفصيل من الله، والحكم من الله لا من عنده: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [البقرة:68] لا فارض يعني: غير مسنة انقطعت ولادتها، ولا بكرٌ لم تلد بالمرة، وإنما المراد من ولدت قليلاً ولم تلد كثيراً، عوانٌ بين ذلك: يعني: سنها لا هو صغيرٌ ولا هو كبير فهي متوسطة، حتى قيل: إن العوان معناها: النصف في السن من النساء والبهائم تسمى عوان، ولما ضيقوا ضيق الله عليهم، وجاءهم بهذا القيد الإضافي على البقرة، وقال لهم نبيهم وهو يحس بطبيعتهم ويعلمها: لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [البقرة:68] أكد عليهم الفعل؛ لأنه يعلم حالهم، كأنه يقول: اذبحوها الآن على هذه الصفات ولا تكرروا السؤال، وإنما اندفعوا للتنفيذ فوراً.

ويستفاد من هذا أن الوسط هو الطيب، ولذلك الآن في الأضحية والعقيقة لا يجزئ أقل من ستة أشهر في الضأن وسنة في المعز، وأن ما كان وسطاً في عمره هو أجود اللحوم، فلحم الحيوان الصغير الذي لا يزال في بداية نموه قد تنقصه بعض الفوائد والكمية، ولحم الحيوان الكبير يكون قد قسا ويبس وفقد بعض فائدته الغذائية فيكون الوسط هو الأفضل.

قال لهم نبيهم: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [البقرة:68] اتركوا المزاجية والاعتراض والتلكؤ، والسؤال الذي نهيتم عنه، واشرعوا في التنفيذ، لكن هل فعلوا ذلك؟ وهل امتثلوا الأمر؟

الجواب: لا.

فائدة أصولية في باب الأمر

وفي قوله: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [البقرة:68] دليلٌ لما ذهب إليه أهل العلم من أن الأمر يقتضي الوجوب، أي أمر في القرآن والسنة يقتضي الوجوب إلا أن يصرفه صارف عن الوجوب إلى الاستحباب، وهذا هو الصحيح في أصول الفقه.

وكذلك من هذه الآية يستدل أيضاً على قاعدة أصولية أخرى تتعلق بالأمر، وهي: الأمر على الفور لا على التراخي، فإذا أمرنا بشيء يجب أن ننفذ فوراً، وهذه حجة من ذهب من العلماء إلى أن الواجب الحج فوراً: (إن الله كتب عليكم الحج فحجوا) أول ما تتمكن تحج، لا يجوز لك التأخير بدون عذر، فإذاً الأمر يفيد الوجوب، والأمر على الفور لا على التراخي، وهذا مذهب أكثر الفقهاء، لكن هل هم نفذوا على الفور؟

الجواب: لا.

مواصلة العناد وزيادة التشديد عليهم

قالوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا [البقرة:69] انتقلوا إلى السؤال عن اللون، كان السؤال الأول عن عمر البقرة، الآن صار السؤال عن اللون، دائماً اللجاجة تقود إلى سؤالٍ جديد، فالذي لا يريد الحق دائماً يخرج لك أسئلة جديدة، والذي من طبيعته التلكؤ والنكوص يخرج أسئلة جديدة.

كانوا يزعمون أن الإبهام في الأمر الذي أمروا به في العمر، فإذا بهم الآن يرونه إبهاماً من وجهٍ آخر، ويقولون: إننا لا نعرف ما لونها، ما اللون المطلوب؟ وكأنهم يقولون: لو عرفنا اللون ذبحناها، ما لونها؟ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا [البقرة:69].

فلما شددوا شدد الله عليهم، ووضعهم في ضيقٍ أشد، فأمرهم بذبح بقرةٍ صفراء فاقع لونها مع أن اللون الأصفر الفاقع في البقر نادر، لكن لما شددوا شدد الله عليهم، ولعل أهلها لا يبيعونها إلا بثمن مرتفع -هذه البقرة الصفراء الفاقع لونها التي تسر الناظرين- ولا شك أن هذا من التضييق عليهم.

قال لهم: صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا [البقرة:69] والفقوع أشد ما يكون من الصفرة وأنصعه، ويقال في التوكيد: أصفر فاقع، وأسود حالك، وأبيض يقق، وأحمر قانٍ، وأخضر ناظر، فالمقصود في قوله: صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا [البقرة:69] يعني: شديدة الصفرة، نقية ما فيها إلا اللون الأصفر، ولا شعرة إلا صفراء، تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [البقرة:69] يعجب الناظرون إليها، حتى إن جمهور المفسرين أشاروا إلى أن الصفرة من الألوان السارة، ولذلك قالوا في أحكام المعتدة: إنها تترك الزينة في الذهب والحلي والملابس الجميلة، فقالوا: تترك الملابس الصفراء والحمراء ... إلخ، فيعتبرونه من الألوان السارة (تسر الناظرين) حتى إن بعضهم ربما كان يلبس الأصفر من النعال، ويقول: اتركوا لبس النعال السود لأنها تغم، فاللون الأسود قد يدل على الغم، ولكن الأصفر يدل على السرور، فهو لونٌ جميل محببٌ إلى النفوس.

ومحبة الألوان الجميلة ليس مما ينافي الشريعة سواء كان حيواناً، أو فاكهةً، أو طعاماً، أو لباساً، أو أثاثاً، فالشريعة لا تحرم الاهتمام بالألوان الجميلة، لكن الفنون الجميلة هذه مما ينبغي أن تضع تحتها خطوطاً حمراء؛ لأنهم قد شغلوا بها عباد الله عن ذكر الله وسموها (فنون جميلة) وصار الواحد ينفق في الساعات والأيام والشهور في لوحة يرسمها ويتعب فيها، ويقولون: هذه أشياء تشجع عليها الشريعة والفن الإسلامي، قاتلهم الله! أشغلوا الناس عن ذكر الله بالفنون الجميلة.

الشريعة لا تحرم أن تستمع وأن تمتع ناظريك ونفسك بالأزهار وألوانها، وتتأمل فيما خلق الله، وأن تسبح ربك على هذه الخلقة التي تسر الناظرين، لكن إنفاق الأوقات والنحت والتصوير والرسم بدعوى أن هذه فنون جميلة والإسلام لا يحرم الفنون الجميلة، وليس للإسلام موقف من الفنون الجميلة، فأشغلوا الناس عن ذكر الله بهذه الهوايات السخيفة الفارغة المضيعة للأوقات.

نعود إلى قصتنا: لما بين لهم أنها بقرة صفراء فاقعٌ لونها، هل نفذوا ذلك؟ وهل سارعوا إلى ذبحها؟

الجواب: لا. بل إنهم عمدوا إلى سؤال ثالث في مشوارهم من المماطلة والتلكؤ والتباطؤ عن تنفيذ أوامر الله.

ما يستفاد من العِبر في التلكؤ وسؤالهم عن عمل البقرة

قالوا: كان الإبهام في العمر، ثم صار الإبهام في اللون، الآن يقولون: ما عمل هذه البقرة؟ ماذا تعمل؟ تحرث .. تزرع .. تسقي .. تعمل؟

ثم إنهم لما أرادوا أن يسألوا سؤالاً ثالثاً وكأنهم استثقلوا الثالث أبدوا عذراً فقالوا: قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [البقرة:70] كرروا السؤال عن الحال والصفة، ولا شك أنه تنطع بعد تنطع، ولذلك قيل: إن بعض الخلفاء كتب إلى عامله يقول: اذهب إلى القوم الفلانين فاقطع أشجارهم وهدم بيوتهم، فكتب إليه العامل يقول: بأيهما أبدأ بتخريب البيوت أم بقطع الأشجار؟ فرد عليه الخليفة يقول: إن قلت لك بقطع الشجر ابدأ ستقول لي بسؤالٍ آخر: بأي نوعٍ من الشجر أبدأ؟

وكذلك كتب أحد الأمراء إلى وكيله يقول: إذا أمرتك أن تعطي فلاناً شاةً سألتني أضأنٌ أم ماعز؟ فإن بينت لك قلت: أذكرٌ أم أنثى؟ فإن أخبرتك قلت: أسوداء أم بيضاء؟ فإذا أمرتك بشيءٍ فلا تراجعني.

فهؤلاء قالوا: إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا [البقرة:70] ما عمل هذه البقرة؟ وضح لنا وظيفة هذه البقرة؟ لقد تشابه الأمر واختلط ولا ندري أي بقرة هي المطلوبة من بين البقر.

وهذا فيه فائدة كبيرة وهي: أن الاشتباه والالتباس نتيجة طبيعية للحيرة، ضريبة يدفعها كل من يترك التشريع الرباني الميسر ويذهب للتشديد والتعقيد، مثال: الموسوسين، الشخص الموسوس الذي تقول له: توضأ بهذه الكيفية ترى أنه يأتي لك بأشياء شديدة، اغسل النجاسة، المطلوب إزالة النجاسة، يقول: وهل يلزم نتر الذكر، أو عصره، أو القفز، أو النحنحة، أو الربط، والقيام والقعود، أو النزول من درجات السلم، كل هذا من تشديدات الموسوسين.

إذاً هذه القضية وهي قضية الحيرة والاشتباه والالتباس تحدث نتيجة طبيعية للتشديد والتعقيد والبحث عما لا يلزم شرعاً، ولذلك ترى الموسوس يعيش في عذاب وحيرة وهم وغم؛ بسبب تشديده على نفسه.

فلما أخبروا بهذه الصفات المطلوبة منهم في البقرة، يا ترى أين سيجدونها؟ ومتى سيجدونها؟ وكم سيكون ثمنها؟ وهل هم مستعدون لدفع الثمن؟

ولذلك: فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة:71] وقالوا لنبيهم بعبارة يشتم منها رائحة سوء الأدب، قالوا: الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ [البقرة:71] يعني: بعد البيان الثالث (الآن جئت بالحق) كأنهم يقولون: الذي قبل هذا لم يكن حقاً، الآن هذا حق، وكأنه موسى عليه السلام كان يتكلم بالباطل. وحاشاه.

قال لهم في الصفة الثالثة: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا [البقرة:71] أما قوله: (إنها بقرة لا ذلول) الذلول: من الدواب بينة الذل التي ذللها الذين يستخدمونها، (تثير الأرض) يعني: تقلبها للزراعة، يعني: أن هذه البقرة التي أمرتم بها ليست ذلولاً تثير الأرض، ولا تسقي الحرث، ولا يستقى عليها الماء لسقي الزرع ويحمل عليها الماء ويستقى بها الماء، وإنما هي (مسلَّمة) يعني: خالية ومسلَّمة من العيوب، مسلَّمة من العمل، يعني: كأنها عند أهلها للنظر والاستمتاع لا للعمل والكد، (لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث) وإنما هي (مسلَّمة لا شية فيها) يعني: لا عيب، ولا خلط في الألوان، فلما سمعوا هذه الأوصاف ولم يبق متسع لمزيدٍ من التساؤلات، العمر واللون والعمل، فماذا بقي؟

التباطؤ في التنفيذ طبيعة اليهود والمنافقين

كان الأمر يسيراً فعسروه، وكان واسعاً فضيقوه، وفي النهاية فذبحوها، لكن بعد ماذا؟

( فذبحوها وما كادوا يفعلون ) ما كادوا يفعلون ما أمروا به، ولذلك فإن الله تعالى ذمهم وعابهم على هذا الفعل، وشدد عليهم وجعل الأمر شاقاً عليهم، وكذلك شق عليهم في اللحوم وما يؤكل منها والشحوم، وحرَّم عليهم أشياء، فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء:160] وهذا التباطؤ والتلكؤ يدل على نفسية لا تريد العمل، ولا تريد التنفيذ.

إن نفس المؤمن فيها شوقٌ ولهفة وهمة وحيوية للتنفيذ؛ لأن هذا هو أمر الله، فالمؤمن يتحمس لتنفيذ أمر الله، ولكن المنافق يتكاسل ويتباطأ ويتحايل ويتهرب، فإذا فشلت المحاولات نفذ مضطراً مكرهاً مرغماً فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة:71] لكن المؤمن إذا نفذ الصلاة والحج ينفذ بطواعية وسرور نفس ومسارعة، واستسلام، لا اعتراض ولا تلكؤ، أما المنافق وطبائع اليهود هذا هو، وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً [النساء:142].

ولكن إذا رأى الإنسان أنه يجرجر نفسه إلى الطاعة جرجرةً، ومرة يفعل ومرة لا يفعل، ويسأل أهل العلم فإذا أجابوه اعترض بسؤالٍ آخر، وتراه يجادل لا للتعلم، ولكن لإضاعة الوقت، ولعله ينفذ من الحكم، ويجد له مخرجاً من هذه الفتوى، فهذه طبيعة يهودية إسرائيلية بغيضة من بني إسرائيل.

المبادرة للتنفيذ هي المقصود من أمرهم بالذبح

ومعلوم أنه ليس المقصود الآن مجرد الذبح، المقصود الأساسي المبادرة للتنفيذ، فالله عز وجل أمرنا بذبح الضحايا والهدايا، وقال: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا [ الحج:36] يعني: طاحت بعد نحرها: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ [الحج:36-37].

ولولا أنهم استثنوا ما ذبحوها، ولذلك لما قالوا: قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [البقرة:70] لو لم يستعملوا المشيئة كانوا ما ذبحوها أبداً كما قال المفسرون، وهذا من بركة المشيئة، فإنها معينة على تنفيذ الأمر، ولذلك قال الله: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24].