قصة صاحب الحديقة


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعــد:

فهذه قصة عظيمة تتعلق بالصدقة والنفقة، يرويها أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينا رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتاً في سحابة يقول: اسقِ حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرَّة، فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحوِّل الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله ما اسمك؟ قال: فلان، للاسم الذي سمع في السحابة، فقال: يا عبد الله! لِمَ تسألني عن اسمي؟ قال: إني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسقِ حديقة فلان لاسمك، فما تصنع فيها؟ قال: أمَّا إذا قلتَ هذا، فإني أنظر إلى ما يَخرج منها فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثاً، وأردُّ فيها ثلثه) هذا حديث صحيح أخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى وأحمد في مسنده في كرامة وليٍّ من أولياء الله كان مشهوراً بالصدقة، والإنفاق في سبيل الله .

وقد حصل أن رجلاً كان يمشي بفلاةٍ من الأرض فسمع صوتاً في سحابة، ولعل هذا الصوت صوت ملَك من ملائكة الله عز وجل، يقول: (اسقِ حديقة فلان) -يأمر السحاب، فالسحاب تنحَّى إلى حرَّة؛ وهي الأرض الملبسة بالحجارة السوداء، تنحَّى السحاب إليها، وأفرغ ماءه فيها كله- (فإذا شرجة من تلك الشراج ...) شرجة من تلك الشراج، وهي: مسايل الماء في الحِرار أو الحرَّة، فيها طرق وأخاديد تمشي فيها المياه وتسيل، إحدى الشراج استوعبت الماء الذي أُمطر على الحرَّة كله، فتتبع الماء إلى أين يذهب؛ فإذا الماء يذهب إلى حديقة وبستان معين، وإذا رجل في البستان يحوِّل الماء بمسحاته، صاحب الحديقة يحوِّل الماء بالمسحاة وهي: المجرفة من الحديد.

فالذي سمع الصوت في السحابة يقول: (اسق حديقة فلان) جاء إلى صاحب الحديقة وقال له: (... يا عبد الله -وهذا الذي ينادَى به الشخص غير المعروف الاسم، قال له بدل ما يقول: يا فلان قال: يا عبد الله- ما اسمك؟ قال: فلان ...) سمَّى نفسه، فإذا بالاسم يطابق الاسم الذي سمعه في السحابة، الصوت الذي قال: (اسق حديقة فلان).

ثم إن صاحب البستان استغرب من سؤال هذا الرجل عن اسمه، فسأله: (... لماذا تسأل عن اسمي؟) -فأخبره أنه سمع صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه لأنه تتبع المطر الذي نزل من هذه السحابة حتى وصل إلى هذا البستان- (فقال له: إني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسقِ حديقة فلان باسمك -نفس الاسم، تطابَقَ الاسم- فما تصنع فيها؟ ...) لماذا الماء الذي نزل من السحابة على الحرَّة نَزَل كلُّه في إحدى الشراج التي تؤدي إلى بستانك أنت بالذات؟ ماذا تصنع في هذه الحديقة؟ (... قال: أمَّا إذا قلتَ هذا -أمَّا وقد قلتَ ما قلتَ وغُلِبْتُ ولا طريقة لإخفاء عملي- فإني أنظر إلى ما يَخرج منها -ثمار هذا البستان- فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثه، وأرد فيها ثلثه) فقسَّم الغلة ثلاثة أقسام.

يؤخذ من هذا الحديث:

إثبات كرامات أولياء الله

أولاً: إثبات كرامات أولياء الله تعالى :

وأن الله عز وجل قد يسخر سحاباً لسُقيا حديقة معينة وبستان معين من بين جميع البساتين في المنطقة؛ وذلك لصلاح صاحبه، ونفقته في سبيل الله.

فضل الإنفاق في سبيل الله وعلى الأهل والولد وأن الله يخلفه

ثانياً: فضل الإنفاق في سبيل الله، والإنفاق على الأهل والأولاد.

الفائدة الثالثة: أن الله سبحانه وتعالى يخلف النفقة ولا يضيع أجر المحسنين لا في الدنيا ولا في الآخرة :

ولذلك فإنه سبحانه يعوِّض هذا الرجل كلما أنفق بماء يسقي بستانه من غير حفر من صاحبه ولا تعب، ماء يسيل بالذات لأجل إكرام هذا العبد.

إمكان سماع صوت الملائكة

ورابعاً: أنه يمكن شرعاً أن يسمع بعض الناس صوت الملائكة :

وقد حدث أن الله سبحانه وتعالى أرسل بعض الملائكة لبعض الناس مثل: الملَك الذي أرسله الله على مدرجة رجل ذهب ليزور أخاً له في الله، فسأله واستوثق منه عن سبب ذهابه إليه، ثم أخبره أن الله يحبه على هذا الفعل.

وكان عمران بن حصين من الصحابة رضوان الله تعالى عنهم يسمع تسليم الملائكة عليه.

فإذاً: يمكن لبعض الناس البشر أن يسمع صوت الملائكة.

للسحاب ملائكة موكلون

وخامساً: أن الله تعالى قد وكل بالسحاب ملائكة يسوقونها إلى المكان الذي قدر الله عزوجل وشاء أن تمطر فيه فتمطر.

الحكمة في التصرفات المالية

والفائدة السادسة: أهمية الحكمة في التصرفات المالية :-

فإن بعض الناس سفهاء، لا يجوز أن يوضع المال في أيديهم أصلاً، قال الله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء:5]؛ لأنهم لا يحسنون التصرف فيها، ولذلك جُعل على مال السفيه وليٌّ في الشريعة، يشرف على إنفاق ماله وتنميته له: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً [النساء:5] فالمال قوام الحياة والعيش.

هذا الرجل يحسن ما لا يحسنه كثير من الناس.

هذا الرجل قد قسم غلة بستانه إلى ثلاثة أقسام:

- قسم يتصدق به: وهذا الذي بدأ به في الحديث، قال: (فإني أنظر إلى ما يَخرج منها فأتصدق بثلثه ...) هذا أولاً.

- (وآكل أنا وعيالي ثلثاً) .

- (وأرد فيها ثلثاً) .

فانظر إلى حكمة هذا الرجل وحسن تصرفه، كيف قسَّمها أثلاثاً.

إذاً توزيع الدخل إلى نسب معينة هذا من الحكمة وحسن التخطيط؛ أن يعرف الإنسان الراتب الشهري الذي يأخذه مثلاً، العائد الذي يعود عليه، الرزق الذي يُرْزَقَه يقسم أقساماً، فتقسيم الراتب، أو تقسيم العائد ليست عمليةً مبتدَعة جديدة جاء بها الاقتصاديون الجدد أبداً، وإنما هو شيء قديم ومعروف فعله هذا الرجل الصالح من قبلِنا، فعله هذا الرجل الصالح الذي قسَّم دخل بستانه إلى هذه الثلاثة أقسام.

فإذاً تقسيم المدخول إلى أقسام معينة يُصرف كل قسم في مصرف معين لا شك أنه من الحكمة، وبُعد النظر، وحسن التصرف، وهذا شيء مطلوب شرعاً.

لا بد من رعاية المال

الفائدة السابعة: أن الإنسان عليه أن يرعى ماله :

ولذلك قال الرجل: (وأرد فيها ثلثاً) فالمزرعة والبستان تحتاج إلى نفقة؛ قيمة بذور، أجرة عمال، ونحو ذلك من الأشياء، وهذه النفقة قد أخذها هذا الرجل من الغلة التي تعود عليه لإصلاح ماله وتنميته والقيام عليه، وهذا من الحكمة أيضاً.

(الشخص الذي لم يعرف اسمه ينادى بـ(عبد الله

وثامناً في هذه القصة: أن الإنسان إذا لم يعرف اسم شخص فإنه يناديه: بعبد الله :

إذا أردت أن تنادي شخصاً في الشارع لسبب من الأسباب، أو في محل وأنت لا تعرف اسمه فلا تقل يا ... بعض الناس يقول: يا ... بدون شيء؛ وهذا من قلة الأدب، أو يقول: أنت يا هاء ؛ وهذا أيضاً ليس من الأدب، فما هو الأدب الشرعي في هذه الحالة؟

الأدب الشرعي كما ورد في عدد من الأحاديث: أن ينادَى بعبد الله، فيقال: يا عبد الله، وهو فعلاً عبدٌ لله، فأنت صادق في إطلاق هذا الاسم عليه لأنه عبدٌ لله، وبعد ذلك يمكن سؤاله عن اسمه: (يا عبد الله! ما اسمك؟ قال: فلان).

رفع الحرج في سؤال الشخص عن اسمه

وفيه أنه لا حرج شرعاً مطلقاً في سؤال الشخص عن اسمه بهذه الطريقة :

( يا عبد الله! ما اسمك؟ ) فأجابه.

وأنه لا حرج على الإنسان أن يسأل السائل عن اسمه لماذا يسأله عن اسمه، فيقول له: (لِمَ تسألني عن اسمي؟) كما فعل هذا الرجل.

الإخبار بالكرامة مع عدم أمن الفتنة

الفائدة العاشرة: أنه لا بأس بإخبار الشخص عن كرامة الله له إذا كان يؤمن عليه من الفتنة :

فمن باب البشارة يقال له: حصل كذا وكذا من الأشياء الصالحة، أو النعم، أو الكرامات التي أكرمه الله بها.

الأصل والأفضل إخفاء الأعمال الصالحة

الفائدة الحادية عشرة: أن على الإنسان أن يخفي عمله الصالح :

وألا يجاهر به، وألا يعرضه للبطلان والحبوط بالرياء السمعة.

والفرق بين الرياء والسمعة:

أن الإنسان يفعل العمل أمام الناس ليراه الناس، هذا الرياء.

السمعة: أن يتحدث الإنسان عن أعماله الصالحة، العبادات مثلاً ليسمعه الناس؛ كلا هذين الأمرين خطير جداً ويُبطل العمل، والله يقول يوم القيامة للعبد هذا: (اذهب خذ أجرك من الذين راءيتهم، أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَن عمل عملاً أشرك معي فيه أحد غيري تركته وشركه) .

فإذاً إخفاء الأعمال مطلوب.

ولكن الإنسان إذا اضطر إلى الإجابة عن شيء معين تطييباً لخاطر شخص، أو أن يُقتدى به فلا بأس أن يُخبِر عن عمله الصالح، ما دام لا يقصد الرياء والسمعة واحتيج إلى ذلك، دعت الحاجة إليه، لا بأس أن يُخبِر بما عمل إذا كان هناك مصلحة شرعية في هذا العمل.

جواز التحديث عن أخبار من قبلنا

وفي هذا الحديث أيضاً من الفوائد: التحديث عن أخبار من قبلَنا حتى يكون في ذلك عبرة لنا وقدوة :-

وهكذا دائماً دأب الصالحين الاقتداء بمن قبلَهم: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ [يوسف:111] .. فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90] .

أولاً: إثبات كرامات أولياء الله تعالى :

وأن الله عز وجل قد يسخر سحاباً لسُقيا حديقة معينة وبستان معين من بين جميع البساتين في المنطقة؛ وذلك لصلاح صاحبه، ونفقته في سبيل الله.

ثانياً: فضل الإنفاق في سبيل الله، والإنفاق على الأهل والأولاد.

الفائدة الثالثة: أن الله سبحانه وتعالى يخلف النفقة ولا يضيع أجر المحسنين لا في الدنيا ولا في الآخرة :

ولذلك فإنه سبحانه يعوِّض هذا الرجل كلما أنفق بماء يسقي بستانه من غير حفر من صاحبه ولا تعب، ماء يسيل بالذات لأجل إكرام هذا العبد.