قصة مقتل خبيب بن عدي


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فهذه القصة التي سنذكرها -إن شاء الله تعالى- هي قصةٌ من قصص الصحابة رضي الله عنهم مما حصل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تبين شيئاً من تضحيات أولئك النفر العظام في سبيل هذا الدين، وكيف اصطفى الله منهم شهداء.

وقد روى هذه القصة الإمام البخاري رحمه الله تعالى في كتاب: المغازي من صحيحه، وفي كتاب: الجهاد والسِّيَر، وأبو داوُد رحمه الله في كتاب: الجهاد من سننه، وكذلك أخرجها الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم سريةً عيناً -عشرة رهط- وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت، فانطلقوا حتى إذا كانوا بـالهدَأة بين عُسْفان ومكة -اسم موضع- ذُكِروا لحي من هذيل يقال لهم: بنو لِحْيان -وبنو لِحْيان كانوا مشركين- فتبعوهم بقريب من مائة رامٍ، فتتبعوا آثارهم حتى أتوا منزلاً نزلوه، فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب ، فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم، فلما انتهى عاصم وأصحابه لجأوا إلى فدفد ...) وهو المكان المرتفع عن الأرض، حيث حاصر المشركون هؤلاء العشرة المسلمون في هذه الغزوة وهي غزوة الرجيع. (... وجاء القوم فأحاطوا بهم فقالوا -أي: المشركون-: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلاً، فقال عاصم -وهو أمير السرية-: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك، فقاتلوهم حتى قتلوا عاصماً في سبعة نفر بالنبل، وبقي خبيب ، وزيد ، ورجل آخر، فأعطوهم العهد والميثاق، فلما أعطوهم العهد والميثاق، نزلوا إليهم ...) نزل المسلمون الثلاثة إليهم، وقد عنون البخاري رحمه الله على هذه القصة بسؤال: هل يستسلم المسلم للكفار أم لا؟ هل يرضى بالأسر أم لا يرضى، أم يقاتل حتى يُقتل؟ (... فلما استمكنوا منهم حلوا أوتار قسيهم، فربطوهم بها -ربطوا المسلمين بوتر القوس- فقال الرجل الثالث -المسلم- الذي معهما: هذا أول الغدر -ربطنا معناه: غدر- فأبى أن يصحبهم، فجروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل -رفض الانقياد- فقتلوه، وانطلقوا بـخبيب وزيد حتى باعوهما بـمكة -من كفار قريش- فاشترى خبيباً بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث يوم بدر، فأهل الحارث المشرك اشتروا خبيباً لينتقموا منه ويقتلوه- فمكث عندهم أسيراً حتى إذا أجمعوا على قتله استعار مُوسَىً من بعض بنات الحارث - موسىً ليستحدَّ بها -أي: ليحلق العانة- فأعارته، قالت المرأة -التي كانت مشركة-: فغفلت عن صبي لي فدَرَج إليه -حبا إلى مكان موضع الأسير المسلم- فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه، فلما رأيته فزعت فزعةً عـرف ذاك مني -عرف أني الآن فزعةٌ على الولد- وهو في يده الموسى، فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذاك إن شاء الله، وكانت تقـول: ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب ، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بـمكة يومئذٍ ثمرة، وإنه لموثق في الحديد، وما كان إلا رزق رزقه الله، فخرجوا به من الحرم ليقتلوه، فقال: دعوني أصلي ركعتين، ثم انصرف إليهم، فقال: لولا أن تروا أن ما بي جزع من الموت لزدتُ -أي: على ركعتين- فكان أول من سن الركعتين عند القتل، ثم قال: اللهم احصهم عدداً، ثم قال:

ولست أبالي حين أُقتل مسلماً     على أي جنب كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشـأ     يبارك على أوصال شلوٍ ممزَّعِ

ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله، وبعثت قريش إلى عاصم -أمير السرية الذي قُتل في الطريق- ليؤتَوا بشيء من جسده يعرفونه -يقطعوا قطعة من جسده وهو ميت- وكان عاصم قد قتل عظيماً من عظمائهم يوم بدر ، فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبْر -سحابة من زنابير النحل تغطي جسده، وتظله- فحمته من رسلهم فلم يقدروا منه على شيء) ما استطاعوا مطلقاً أن يأخذوا قطعة من جسده.

هذه القصة هي قصة غزوة الرجيع، والرجيع: اسم موضع كانت هذه الوقعة بالقرب منه، وغزوة الرجيع هذه غير غزوة بئر معونة ، هؤلاء عشرة والذين في بئر معونة كان عددهم سبعون رجلاً من القراء.

وحديث عَضْل -وهم بطن من بعض قبائل العرب- والقارَة أكمة سوداء فيها حجارة نزلوا عندها، ويُضرب بهم المثل في الرمي.

وقصة العضل والقارَة كانت في غزوة الرجيع في أواخر السنة الثالثة من الهجرة.

و بئر معونة كانت في أوائل السنة الرابعة من الهجرة.

وقوع أصحاب الرجيع في كمين ومقتل أمير السرية

أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عاصم بن ثابت مع هؤلاء الصحابة العشرة فغدر بهم بنو لِحْيان.

ما هو السبب في إرسالهم؟ النبي صلى الله عليه وسلم أرسلهم سريةً -وقيل: إنه أرسلهم يأتون له بأخبار قريش، أي بعثهم عيوناً له صلى الله عليه وسلم- وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت -لما كانوا في الطريق بين عُسْفان ومكة خرج لهم هؤلاء القوم من بني لِحْيان المشركين- فتبعوهم بقريب من مائة رامٍ. وفي رواية: مائتي رجل -مائة رماة، ومائة من غير رماة- فتتبعوا آثارهم حتى أتوا منزلاً نزلوه، فوجدوه نوى تمر..

هؤلاء الصحابة نزلوا بـالرجيع في هذا المكان في السحر، وأكلوا تمر عجوة فسقطت نواة في الأرض وكانوا يخفون آثارهم. كان عيون النبي عليه الصلاة والسلام يسيرون بالليل، ويكمنون بالنهار؛ لكن لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً [الأنفال:42].. وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140] سقطت نواة من نوى تمر يثرب ؛ لأن التمر الذي كان معهم من تمر المدينة... فجاءت امرأة من هذيل ترعى غنماً فرأت النواة، فأنكرت صغرها -صغر النواة بالنسبة لحجم النوى في تلك المنطقة- فقالت: هذا تمر يثرب، فصاحت في قومها: أوتيتم ... فجاءوا في طلبهم، فتتبعوا آثار الصحابة حتى لحقوهم، ففوجئ الصحابة بهؤلاء القوم قد غشوهم وحاصروهم، فلجأ هؤلاء الصحابة العشرة إلى مرتفع من الأرض، وبدأ المشركون بالخداع، وقالوا: نعطيكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا مستسلمين ألا نقتل رجلاً منكم ولا نريد أن نقاتلكم.

فقال عاصم أمير السرية أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر ولا أقبل عهد مشرك... هؤلاء الناس لا يخافون الله، وليس لهم عهد ولا ميثاق: لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً [التوبة:8] فرفض أن يستسلم وقاتل، وقبل أن يموت قال: اللهم أخبر عنا رسولك، دعا عاصم الله عز وجل أن يبلغ خبر حصار المشركين لهم؛ وما حصل لهم للنبي عليه الصلاة والسلام، فاستجاب الله لـعاصم وأخبر رسوله بالخبر، فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه في المدينة بالخبر في اليوم نفسه، أن عاصماً قتل ومعه سبعة بنبل الرماة المشركين، وبقي خُبيب بن عدي، وزيد بن الدَّثِنة ، وعبد الله بن طارق.

مقتل خبيب وأصحابه

رأى هؤلاء المسلمون الثلاثة أن يَستأسروا -أي: ينزلوا أُسارى- فلما نزلوا ربطوهم، ولما أرادوا ربطهم رفض الثالث أن يستسلم، وجرُّوه وحاولوا أن يأخذوه، فما طاوعهم، فقتلوه، فبقي خُبيب بن عدي وزيد، فأخذوهما حتى باعوهما بـمكة، وانتهزوا فرصة أن قريشاً تريد الثأر من قتلاها يوم بدر ، فباعوا خبيب بن عدي وزيداً إلى الكفار، باعوهما أسيرين، خبيب -كما تقدم- قتل الحارث بن عامر يوم بدر وكان من المشركين، فأهله أرادوا الانتقام واشتروا خبيباً ليقتلوه ويكون ذلك انتقاماً لمقتل أبيهم. فمكث عندهم خبيب رضي الله عنه أسيراً حتى إذا أجمعوا على قتله عندما انقضت الأشهر الحرم أخرجوهما إلى التنعيم لقتلهما. وجاء في رواية: أنهم أساءوا إليه في أول الأسر، فقال لهم: [ما تصنع القوم الكرام هذا بأسيرهم] فأحسنوا إليه، وجعلوه عند امرأة تحرسه. وفي رواية: أنهم جعلوه عند موهب مولى آل نوفل، فقال له خبيب: يا موهب! أطلب إليك ثلاثاً:

أن تسقيني العذب؟

وأن تجنبني ما ذُبح على النصب، أي: لا تعطني طعاماً مذبوحاً على النصب، أي: للأصنام والآلهة.

وأن تُعْلِمَني إذا أرادوا قتلي.

حتى إذا أجمعوا على قتله أراد أن يتهيأ رضي الله عنه للقتل، فيحتاج إلى إزالة الشعر الذي لا بد من إزالته- فاستعار موسىً ...) طلب موسى لأجل حلق العانة من هذه المرأة، زينب بنت الحارث ، أخت عقبة بنت الحارث ، وعقبة بن الحارث هو الذي قَتل خبيباً، وقيل: إن المرأة التي تحرس خبيباً هي أخته أو زوجته، فاستعار منها موسى، فدرج ولد لها - كان عندها صبي غفلت عنه، فالصبي هذا درج- حتى وصل إلى مكان الأسير الموثق بالحديد -المربوط- وبيده الموسى، فنظرت إليه -وانتبهت- فزعةً، وظنت أنه يريد أن يقتله؛ لأنه ما دام هو مقتول فلينتقم منهم بقتل الولد ما دام قد قُدِر عليه، ولكن الأسير المسلم ما كان ليقتل الأطفال، وما ذنب الأطفال؟! فتركه وقال: أتخشين أن أقتله؟! لا أقتله إن شاء الله -تقول هذه المرأة في ذكرياتها عن خبيب: إنها رأته وهو في الأسر وهو مقيد- في يده عنقود عنب مثل رأس الرجل -أي: في الحجم يأكل منه -و مكة كلها ما فيها عنب ولا ثمر أصلاً، فهي تذكر هذا المشهد جيداً، وأن خبيباً رُزِق من الله بهذا القطف من العنب- ولما خرجوا بـخبيب من الحرم، أي: من منطقة الحرم إلى التنعيم؛ لأن التنعيم خارج الحرم في الحل، ولذلك يحرم منها من أراد العمرة من أهل مكة أو من في حكمهم ممن ذهب إليهم إذا أراد أن يعتمر لابد أن يحرم من الحل، وأقرب موضع من الحل إلى الحرم هو: التنعيم ، والمكان الذي أحرمت منه عائشة وفيه مسجدها إلى اليوم يحرم الناس عنده، فإن الحل الذي يخرج الإنسان إليه في عدة أماكن؛ الجعرانة والتنعيم وغيرها. أخرجوه خارج الحرم؛ لأن قريشاً كانت تعتقد أنه لا يجوز القتل داخل منطقة الحرم وفي الأشهر الحرم، فانتظَروا الأشهر الحرم حتى تمضي، وأخرجوا خبيباً إلى خارج منطقة الحرم إلى التنعيم ليقتلوه، فلما أرادوا قتله، قال: دعوني أصلي، فصلى ركعتين -في موضع مسجد التنعيم- وقال للكفار: لولا أنكم تظنون أني أخشى الموت لزدتُ -صليتُ ركعتين أخريين، لكنه اكتفى بهاتين الركعتين- ثم دعا الله، قال: (اللهم احصهم عدداً واقتلهم بدداً -أي: متفرقين- ولا تبقِ منهم أحداً). وفي رواية: قال: (اللهم إني لا أجد من يبلِّغ رسولك مني السلام فبلِّغه). وفي رواية: فلما رفع على الخشبة استقبل الدعاء، قال: فلبد رجل بالأرض خوفاً من دعائه، وكانت قريش تعتقد أن الإنسان المدعو عليه إذا نزل بالأرض وألصق جنبه بها فاتته الدعوة -أي: ما أصابته الدعوة- وأحد الكافر عندما دعا خبيب لبد بالأرض مباشرة.

وجاء عند ابن إسحاق : أن معاوية بن أبي سفيان كان مع أبيه، وكان أبوه مشركاً في ذلك الوقت، قال: [كنتُ مع أبي، فجعل يُلقيني إلى الأرض حين سمع دعوة خبيب] أول ما سمع أبو سفيان الدعاء ألقى معاوية إلى الأرض مخافة أن تصيبه الدعوة بحسب ما كانوا يعتقدون، فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بخبر خبيب -فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ذلك اليوم وهو جالس: وعليك السلام يا خبيب ! قَتَلَتْه قريش.

وقال هذه الأبيات العظيمة:

ولست أبالي حين أُقتل مسلماً     على أي جنب كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ     يبارك على أوصال شلوٍ ممزَّع

الأوصال: جمع وصل، والوصل: هو العضو.

والشلو: الجسد.

ممزَّعِ: مقطع.

وقد ساق ابن إسحاق في روايته عدة أبيات قالها خبيب، ربما تصل إلى ثلاثة عشر بيتاً، وبعضهم ينكر أن تكون له، والذي في صحيح البخاري هذان البيتان، وعند ابن إسحاق:

لقد جمع الأحزاب حولي وألَّبوا     قبائلهم واستجمعوا كل مجمعِ

وقد جمعوا أبناءهم ونساءهـم     وقُرِّبتُ من جذع طويل ممنعِ

إلى الله أشكو غربتي ثم كربـتي     وما أرصد الأعداءُ لي عند مصرعي

فذا العرش صبرني على ما يراد بي     فقد قطعوا لحمي وقد يئس مطمعي

وذلك في ذات الإله وإن يشـأ     يبارك على أوصال شلو ممزَّعِ

وقد خيروني الكفر والموت دونه     وقد همَلَت عيناي من غير مجزعِ

وما بي حذارُ الموت إني لميـتٌ     ولكن حذاري جحم نار ملفَعِ

فوالله ما أرجو إذا مت مسلماً     على أي جنب كان في الله مضجعي

على أية حال! هذان البيتان في صحيح الإمام البخاري رحمه الله، ومنها الأبيات التي قالها خبيب ، وقيل: إن حسان بن ثابت رضي الله عنه قد رثاه بأبيات منها:

ما بال عينك لا ترقى مدامعها     صحاً على الصدر مثل اللؤلؤ الفلقِ

على خبيب فتى الفتيان قد علموا     لا فََشِلٍ حين تلقاه ولا نزقِ

فاذهب خبيب جزاك الله طيِّبةً     وجنة الخلد عند الحور في الرُّفُقِ

ماذا تقولون إن قال النبي لكم     حين الملائكةُ الأبرارُ في الأفقِ

فيمَ قتلتم شهيد الله في رجـلٍ     طاغٍ قد أوعث في البلدان والرُّفَقِ

فرثاه حسان بن ثابت وكان لسان إعلام المسلمين.

إكرام الله لجسد عاصم بن ثابت

وأما بالنسبة لـعاصم بن ثابت -رضي الله تعالى عنه- الذي هو أمير السرية، فإنه لما قُتل أراد الكفار قطعة من جسده، وقيل: إنهم أرادوا أن يأخذوا رأسه؛ لأن قريبة له نَذَرَت أن تشرب الخمر في قحف رأسه -قريبة للمقتول المشرك الذي قتله عاصم في بدر أرسلوا رسلاً منهم ليأتي برأس عاصم -فأرسل الله الظلة السحابة- من الزنابير -أي: ذكور النحل- فحمته منهم، ولم يستطيعوا أن يمدوا أيديهم ليأخذوا شيئاً من جسده، فلم يقدروا منه على شيء.

أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عاصم بن ثابت مع هؤلاء الصحابة العشرة فغدر بهم بنو لِحْيان.

ما هو السبب في إرسالهم؟ النبي صلى الله عليه وسلم أرسلهم سريةً -وقيل: إنه أرسلهم يأتون له بأخبار قريش، أي بعثهم عيوناً له صلى الله عليه وسلم- وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت -لما كانوا في الطريق بين عُسْفان ومكة خرج لهم هؤلاء القوم من بني لِحْيان المشركين- فتبعوهم بقريب من مائة رامٍ. وفي رواية: مائتي رجل -مائة رماة، ومائة من غير رماة- فتتبعوا آثارهم حتى أتوا منزلاً نزلوه، فوجدوه نوى تمر..

هؤلاء الصحابة نزلوا بـالرجيع في هذا المكان في السحر، وأكلوا تمر عجوة فسقطت نواة في الأرض وكانوا يخفون آثارهم. كان عيون النبي عليه الصلاة والسلام يسيرون بالليل، ويكمنون بالنهار؛ لكن لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً [الأنفال:42].. وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140] سقطت نواة من نوى تمر يثرب ؛ لأن التمر الذي كان معهم من تمر المدينة... فجاءت امرأة من هذيل ترعى غنماً فرأت النواة، فأنكرت صغرها -صغر النواة بالنسبة لحجم النوى في تلك المنطقة- فقالت: هذا تمر يثرب، فصاحت في قومها: أوتيتم ... فجاءوا في طلبهم، فتتبعوا آثار الصحابة حتى لحقوهم، ففوجئ الصحابة بهؤلاء القوم قد غشوهم وحاصروهم، فلجأ هؤلاء الصحابة العشرة إلى مرتفع من الأرض، وبدأ المشركون بالخداع، وقالوا: نعطيكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا مستسلمين ألا نقتل رجلاً منكم ولا نريد أن نقاتلكم.

فقال عاصم أمير السرية أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر ولا أقبل عهد مشرك... هؤلاء الناس لا يخافون الله، وليس لهم عهد ولا ميثاق: لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً [التوبة:8] فرفض أن يستسلم وقاتل، وقبل أن يموت قال: اللهم أخبر عنا رسولك، دعا عاصم الله عز وجل أن يبلغ خبر حصار المشركين لهم؛ وما حصل لهم للنبي عليه الصلاة والسلام، فاستجاب الله لـعاصم وأخبر رسوله بالخبر، فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه في المدينة بالخبر في اليوم نفسه، أن عاصماً قتل ومعه سبعة بنبل الرماة المشركين، وبقي خُبيب بن عدي، وزيد بن الدَّثِنة ، وعبد الله بن طارق.

رأى هؤلاء المسلمون الثلاثة أن يَستأسروا -أي: ينزلوا أُسارى- فلما نزلوا ربطوهم، ولما أرادوا ربطهم رفض الثالث أن يستسلم، وجرُّوه وحاولوا أن يأخذوه، فما طاوعهم، فقتلوه، فبقي خُبيب بن عدي وزيد، فأخذوهما حتى باعوهما بـمكة، وانتهزوا فرصة أن قريشاً تريد الثأر من قتلاها يوم بدر ، فباعوا خبيب بن عدي وزيداً إلى الكفار، باعوهما أسيرين، خبيب -كما تقدم- قتل الحارث بن عامر يوم بدر وكان من المشركين، فأهله أرادوا الانتقام واشتروا خبيباً ليقتلوه ويكون ذلك انتقاماً لمقتل أبيهم. فمكث عندهم خبيب رضي الله عنه أسيراً حتى إذا أجمعوا على قتله عندما انقضت الأشهر الحرم أخرجوهما إلى التنعيم لقتلهما. وجاء في رواية: أنهم أساءوا إليه في أول الأسر، فقال لهم: [ما تصنع القوم الكرام هذا بأسيرهم] فأحسنوا إليه، وجعلوه عند امرأة تحرسه. وفي رواية: أنهم جعلوه عند موهب مولى آل نوفل، فقال له خبيب: يا موهب! أطلب إليك ثلاثاً:

أن تسقيني العذب؟

وأن تجنبني ما ذُبح على النصب، أي: لا تعطني طعاماً مذبوحاً على النصب، أي: للأصنام والآلهة.

وأن تُعْلِمَني إذا أرادوا قتلي.

حتى إذا أجمعوا على قتله أراد أن يتهيأ رضي الله عنه للقتل، فيحتاج إلى إزالة الشعر الذي لا بد من إزالته- فاستعار موسىً ...) طلب موسى لأجل حلق العانة من هذه المرأة، زينب بنت الحارث ، أخت عقبة بنت الحارث ، وعقبة بن الحارث هو الذي قَتل خبيباً، وقيل: إن المرأة التي تحرس خبيباً هي أخته أو زوجته، فاستعار منها موسى، فدرج ولد لها - كان عندها صبي غفلت عنه، فالصبي هذا درج- حتى وصل إلى مكان الأسير الموثق بالحديد -المربوط- وبيده الموسى، فنظرت إليه -وانتبهت- فزعةً، وظنت أنه يريد أن يقتله؛ لأنه ما دام هو مقتول فلينتقم منهم بقتل الولد ما دام قد قُدِر عليه، ولكن الأسير المسلم ما كان ليقتل الأطفال، وما ذنب الأطفال؟! فتركه وقال: أتخشين أن أقتله؟! لا أقتله إن شاء الله -تقول هذه المرأة في ذكرياتها عن خبيب: إنها رأته وهو في الأسر وهو مقيد- في يده عنقود عنب مثل رأس الرجل -أي: في الحجم يأكل منه -و مكة كلها ما فيها عنب ولا ثمر أصلاً، فهي تذكر هذا المشهد جيداً، وأن خبيباً رُزِق من الله بهذا القطف من العنب- ولما خرجوا بـخبيب من الحرم، أي: من منطقة الحرم إلى التنعيم؛ لأن التنعيم خارج الحرم في الحل، ولذلك يحرم منها من أراد العمرة من أهل مكة أو من في حكمهم ممن ذهب إليهم إذا أراد أن يعتمر لابد أن يحرم من الحل، وأقرب موضع من الحل إلى الحرم هو: التنعيم ، والمكان الذي أحرمت منه عائشة وفيه مسجدها إلى اليوم يحرم الناس عنده، فإن الحل الذي يخرج الإنسان إليه في عدة أماكن؛ الجعرانة والتنعيم وغيرها. أخرجوه خارج الحرم؛ لأن قريشاً كانت تعتقد أنه لا يجوز القتل داخل منطقة الحرم وفي الأشهر الحرم، فانتظَروا الأشهر الحرم حتى تمضي، وأخرجوا خبيباً إلى خارج منطقة الحرم إلى التنعيم ليقتلوه، فلما أرادوا قتله، قال: دعوني أصلي، فصلى ركعتين -في موضع مسجد التنعيم- وقال للكفار: لولا أنكم تظنون أني أخشى الموت لزدتُ -صليتُ ركعتين أخريين، لكنه اكتفى بهاتين الركعتين- ثم دعا الله، قال: (اللهم احصهم عدداً واقتلهم بدداً -أي: متفرقين- ولا تبقِ منهم أحداً). وفي رواية: قال: (اللهم إني لا أجد من يبلِّغ رسولك مني السلام فبلِّغه). وفي رواية: فلما رفع على الخشبة استقبل الدعاء، قال: فلبد رجل بالأرض خوفاً من دعائه، وكانت قريش تعتقد أن الإنسان المدعو عليه إذا نزل بالأرض وألصق جنبه بها فاتته الدعوة -أي: ما أصابته الدعوة- وأحد الكافر عندما دعا خبيب لبد بالأرض مباشرة.

وجاء عند ابن إسحاق : أن معاوية بن أبي سفيان كان مع أبيه، وكان أبوه مشركاً في ذلك الوقت، قال: [كنتُ مع أبي، فجعل يُلقيني إلى الأرض حين سمع دعوة خبيب] أول ما سمع أبو سفيان الدعاء ألقى معاوية إلى الأرض مخافة أن تصيبه الدعوة بحسب ما كانوا يعتقدون، فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بخبر خبيب -فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ذلك اليوم وهو جالس: وعليك السلام يا خبيب ! قَتَلَتْه قريش.

وقال هذه الأبيات العظيمة:

ولست أبالي حين أُقتل مسلماً     على أي جنب كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ     يبارك على أوصال شلوٍ ممزَّع

الأوصال: جمع وصل، والوصل: هو العضو.

والشلو: الجسد.

ممزَّعِ: مقطع.

وقد ساق ابن إسحاق في روايته عدة أبيات قالها خبيب، ربما تصل إلى ثلاثة عشر بيتاً، وبعضهم ينكر أن تكون له، والذي في صحيح البخاري هذان البيتان، وعند ابن إسحاق:

لقد جمع الأحزاب حولي وألَّبوا     قبائلهم واستجمعوا كل مجمعِ

وقد جمعوا أبناءهم ونساءهـم     وقُرِّبتُ من جذع طويل ممنعِ

إلى الله أشكو غربتي ثم كربـتي     وما أرصد الأعداءُ لي عند مصرعي

فذا العرش صبرني على ما يراد بي     فقد قطعوا لحمي وقد يئس مطمعي

وذلك في ذات الإله وإن يشـأ     يبارك على أوصال شلو ممزَّعِ

وقد خيروني الكفر والموت دونه     وقد همَلَت عيناي من غير مجزعِ

وما بي حذارُ الموت إني لميـتٌ     ولكن حذاري جحم نار ملفَعِ

فوالله ما أرجو إذا مت مسلماً     على أي جنب كان في الله مضجعي

على أية حال! هذان البيتان في صحيح الإمام البخاري رحمه الله، ومنها الأبيات التي قالها خبيب ، وقيل: إن حسان بن ثابت رضي الله عنه قد رثاه بأبيات منها:

ما بال عينك لا ترقى مدامعها     صحاً على الصدر مثل اللؤلؤ الفلقِ

على خبيب فتى الفتيان قد علموا     لا فََشِلٍ حين تلقاه ولا نزقِ

فاذهب خبيب جزاك الله طيِّبةً     وجنة الخلد عند الحور في الرُّفُقِ

ماذا تقولون إن قال النبي لكم     حين الملائكةُ الأبرارُ في الأفقِ

فيمَ قتلتم شهيد الله في رجـلٍ     طاغٍ قد أوعث في البلدان والرُّفَقِ

فرثاه حسان بن ثابت وكان لسان إعلام المسلمين.