فقه العبادات [39]


الحلقة مفرغة

المقدم: في هذا اللقاء نود أن نعرف حكم من تجاوز الميقات بدون إحرام؟

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

من تجاوز الميقات بدون إحرام فلا يخلو من حالين:

إما أن يكون مريداً للحج أو العمرة، فحينئذ يلزمه أن يرجع إليه ليحرم منه بما أراد من النسك: الحج أو العمرة، فإن لم يفعل فقد ترك واجباً من واجبات النسك، وعليه عند أهل العلم فدية دم يذبحه في مكة، ويوزعه على الفقراء هناك.

وأما إذا تجاوزه وهو لا يريد الحج ولا العمرة، فإنه لا شيء عليه، سواء طالت مدة غيابه عن مكة أم قصرت؛ وذلك لأننا لو ألزمناه بالإحرام من الميقات في مروره هذا، لكان الحج أو العمرة يجب عليه أكثر من مرة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الحج لا يجب في العمر إلا مرة، وأن ما زاد فهو تطوع، وهذا هو القول الراجح من أقوال أهل العلم في من تجاوز الميقات بغير إحرام، أي: أنه إذا كان لا يريد الحج ولا العمرة فليس عليه شيء، ولا يلزمه الإحرام من الميقات.

المقدم: ما الفرق بين الإحرام كواجب والإحرام كركن من أركان الحج؟

الشيخ: الإحرام كواجب معناه: أن يقع الإحرام من الميقات، والإحرام كركن معناه أن ينوي النسك، فمثلاً: إذا نوى النسك بعد مجاوزة الميقات مع وجوب الإحرام منه فهذا ترك واجباً وأتى بالركن وهو الإحرام، وإذا أحرم من الميقات فقد أتى بالواجب والركن؛ لأن الركن: هو نية الدخول في النسك، وأما الواجب: فهو أن يكون الإحرام من الميقات، هذا هو الفرق بينهما.

المقدم: لكن نية الدخول في النسك هل يتلفظ بها في التلبية؟

الشيخ: لا، التلبية يقول: لبيك عمرة إن كانت لعمرة، ولبيك حجاً إن كانت لحج، وأما أن يقول: اللهم إني أريد العمرة، أو أريد الحج، فهذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم.

المقدم: إذاً: نود أيضاً أن تبينوا لنا كيفية إحرام القادم إلى مكة جواً؟

الشيخ: إحرام القادم إلى مكة جواً يجب عليه إذا حاذى الميقات أن يحرم، وعلى هذا فيتأهب أولاً بالاغتسال في بيته، ثم يلبس الإحرام قبل أن يصل إلى الميقات، ومن حين أن يصل إلى الميقات ينوي الدخول في النسك ولا يتأخر؛ لأن الطائرة مرها سريع، فالدقيقة يمكن أن تقطع بها مسافات كبيرة، وهذا أمر يغفل عنه بعض الناس، تجد بعض الناس لا يتأهب، فإذا أعلن موظف الطائرة بأنهم وصلوا الميقات، ذهب يخلع ثيابه ويلبس ثياب الإحرام، وهذا تقصير جداً، على أن الموظفين في الطائرة فيما يبدو بدءوا ينبهون الناس قبل أن يصلوا إلى الميقات بربع ساعة أو نحوها، وهذا عمل يشكرون عليه؛ لأنهم إذا نبهوهم قبل هذه المدة جعلوا لهم فرصة في تغيير ثيابهم وتأهبهم، ولكن في هذه الحال يجب على من أراد الإحرام أن ينتبه للساعة إذا أعلن موظف الطائرة بأنه قد بقي ربع ساعة، فلينظر إلى ساعته، حتى إذا مضى هذا الجزء الذي هو ربع الساعة أو قبله بدقيقتين أو ثلاث لبى بما يريده من النسك.

المقدم: ونطلب من فضيلتكم أن تبينوا لنا صفة الحج؟

الشيخ: نحن نذكر هنا صفة الحج على سبيل الإجمال والاختصار؛ لأن الوقت لا يتسع.

فنقول: إذا أراد الإنسان الحج أو العمرة وتوجه إلى مكة في أشهر الحج، فإن الأفضل أن يحرم بالعمرة أولاً ليكون متمتعاً، فيحرم من الميقات بالعمرة، وعند الإحرام يغتسل كما يغتسل من الجنابة ويتطيب في رأسه ولحيته ويلبس ثياب الإحرام، ويحرم عقب صلاة الفريضة إن كان وقتها حاضراً أو نافلة ينوي بها سنة الوضوء؛ لأنه ليس للإحرام نافلة معينة، إذ لم يرد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يلبي فيقول: لبيك اللهم عمرة، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، ولا يزال يلبي حتى يصل إلى مكة، فإذا شرع في الطواف قطع التلبية، فيبدأ بالحجر الأسود يستلمه ويقبله إن تيسر وإلا أشار إليه، ويقول: بسم الله والله أكبر، اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك ووفاء بعهدك واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يجعل البيت عن يساره ويطوف سبعة أشواط، يبتدئ بالحجر ويختتم به، وفي هذا الطواف يسن للرجل أن يرمل في الأشواط الثلاثة الأولى: بأن يسرع المشي ويقارب الخطا، وأن يضطجع في جميع الطواف، بأن يخرج كتفه الأيمن ويجعل طرفي الرداء على الكتف الأيسر، فإذا أتم الطواف صلى ركعتين خلف المقام، وفي طوافه كلما حاذى الحجر الأسود كبر، ويقول بينه وبين الركن اليماني: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ويقول في بقية طوافه ما شاء من ذكر ودعاء، وليس للطواف دعاء مخصوص لكل شوط، وعلى هذا فينبغي أن يحذر الإنسان من هذه الكتيبات التي بأيدي كثير من الحجاج، والتي فيها لكل شوط دعاء مخصوص، فإن هذا بدعة لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كل بدعة ضلالة )، ويجب أن ينتبه الطائف إلى أمر يخل به بعض الناس في وقت الزحام، فتجده يدخل من باب الحجر ويخرج من الباب الثاني، فلا يطوف بالحجر مع الكعبة، وهذا خطأ؛ لأن الحجر أكثره من الكعبة، فمن دخل من باب الحجر وخرج من الباب الثاني لم يكن قد طاف بالبيت فلا يصح طوافه.

ثم يصلي ركعتين خلف مقام إبراهيم إن تيسر له، وإلا ففي أي مكان من المسجد، ثم يخرج إلى الصفا، فإذا دنا منه قرأ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158]، ولا يعيد هذه الآية بعد ذلك، ثم يصعد على الصفا ويستقبل القبلة ويرفع يديه ويكبر الله ويحمده، ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم يدعو بعد ذلك، ثم يعيد الذكر مرة ثانية، ثم يدعو، ثم يعيد الذكر مرة ثالثة، ثم ينزل متجهاً إلى المروة، فيمشي إلى العلم الأخضر -أي: العمود الأخضر- ويسعى من العمود الأخضر إلى العمود الثاني سعياً شديداً، أي: يركض ركضاً شديداً إن تيسر له ولم يعتد أو يؤذِ أحداً، ثم يمشي بعد العلم الثاني إلى المروة مشياً عادياً، فإذا وصل المروة صعد عليها واستقبل القبلة ورفع يديه وقال مثلما قال على الصفا فهذا شوط، ثم يرجع إلى الصفا من المروة وهذا هو الشوط الثاني ويقول فيه ويفعل كما قال في الشوط الأول، فإذا أتم سبعة أشواط من الصفا إلى المروة شوط، ومن المروة إلى الصفا شوط آخر.

فإذا أتم سبعة أشواط فإنه يقصر شعر رأسه، ويكون التقصير شاملاً لجميع الرأس، بحيث يبدو التقصير واضحاً في الرأس، والمرأة تقصر من كل طرف رأسها بقدر أنملة، ثم يحل من إحرامه حلاً كاملاً، يتمتع بما أحل الله له من النساء والطيب واللباس وغير ذلك.

فإذا كان اليوم الثامن من ذي الحجة أحرم بالحج؛ فاغتسل وتطيب ولبس ثياب الإحرام، وخرج إلى منى فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر خمس صلوات، يصلي الرباعية ركعتين، وكل صلاة لوقتها، فلا جمع في منى، وإنما هو القصر فقط.

فإذا طلعت الشمس يوم عرفة سار إلى عرفة، فنزل بنمرة إن تيسر له، وإلا استمر إلى عرفة فينزل بها، فإذا زالت الشمس صلى الظهر والعصر قصراً وجمع تقديم، ثم يشتغل بعد ذلك بذكر الله ودعائه وقراءة القرآن وغير ذلك مما يقرب إلى الله تعالى، وليحرص على أن يكون آخر ذلك اليوم ملحاً في دعاء الله عز وجل، فإنه حري بالإجابة.

فإذا غربت الشمس انصرف إلى مزدلفة وصلى بها المغرب والعشاء جمعاً وقصراً، ثم يبقى هناك حتى يصلي الفجر، ثم يدعو الله عز وجل إلى أن يسفر جداً، ثم يدفع بعد ذلك إلى منى، ويجوز للإنسان الذي يشق عليه مزاحمة الناس أن ينصرف من مزدلفة قبل الفجر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لمثله.

فإذا وصل إلى منى بادر فرمى جمرة العقبة قبل كل شيء بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ثم ينحر هديه، ثم يحلق رأسه، وهو أفضل من التقصير، وإن قصره هو فلا حرج، والمرأة تقصر من أطرافه بقدر أنملة، وحينئذ يحل التحلل الأول، فيباح له جميع محظورات الإحرام ما عدا النساء، فيتطيب ويلبس ثيابه وينزل إلى مكة فيطوف طواف الإفاضة سبعة أشواط بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط، وهذا الطواف والسعي للحج، كما أن الطواف والسعي الذي حصل منه أول ما قدم للعمرة، فبهذا يحل من كل شيء حتى من النساء.

ولنقف هنا للنظر ماذا فعل الحاج يوم العيد؟ فالحاج يوم العيد رمى جمرة العقبة، ثم نحر هديه، ثم حلق أو قصر، ثم طاف، ثم سعى، فهذه خمسة أنساك يفعلها على هذا الترتيب، فإن قدم بعضها على بعض فلا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل يوم العيد عن التقديم والتأخير، فما سئل عن شيء قدم ولا أخر يومئذ إلا قال: ( افعل ولا حرج )، فإذا نزل من مزدلفة إلى مكة وطاف وسعى، ثم خرج ورمى فلا حرج، ولو رمى ثم حلق قبل أن ينحر فلا حرج، ولو رمى ثم نزل إلى مكة وطاف وسعى فلا حرج، ولو رمى ونحر وحلق، ثم نزل إلى مكة وسعى قبل أن يطوف فلا حرج.

المهم أن تقديم هذه الأنساك الخمسة بعضها على بعض لا بأس به؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ( ما سئل عن شيء قدم ولا أخر يومئذ إلا قال: افعل ولا حرج )، وهذا من تيسير الله سبحانه وتعالى ورحمته بعباده، وقد بقي من أفعال الحج: المبيت والرمي يوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، ونظراً لضيق الوقت في هذه الحلقة نؤجل الكلام عليه إن شاء الله تعالى إلى حلقة ثانية.

المقدم: نتوقف عند يوم العيد على أن نكمل في بداية الحلقة القادمة.