فقه العبادات [3]


الحلقة مفرغة

المقدم: في لقاءٍ ماضٍ سألناكم سؤالاً حول أنواع التوحيد مع التوضيح بالأمثلة، وذكرتم أن أنواع التوحيد ثلاثة: توحيد الربوبية، وهو إفراد الله بالخلق والملك والتدبير، وتوحيد الألوهية وهو: إفراد الله بالعبادة، وتوحيد الأسماء والصفات وهو: إفراد الله بما سمى به نفسه، أو وصف به نفسه، أو سماه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تكييف ولا تمثيل، والحقيقة أننا انتهينا من حلقتنا الماضية، ولكن كأننا نريد والمستمعين بيان التفصيل في القسم الأخير من أقسام التوحيد وهو توحيد الأسماء والصفات؟

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الحقيقة أن هذا النوع من التوحيد -وهو توحيد الأسماء والصفات- ينبغي أن يقال فيه القول: بأنه مهم؛ ولأن الأمة الإسلامية تفرقت فيه تفرقاً كثيراً، فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا من السلف وأتباعهم لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:213] .

تقدم لنا قاعدة في هذا النوع وهو أنه يجب علينا أن نثبت ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله من الأسماء والصفات على وجه الحقيقة، من غير تحريفٍ ولا تعطيل، ولا تكييفٍ ولا تمثيل، وذكرنا أمثلة لأسماء الله عز وجل، ومثالاً لصفةٍ من صفاته وهي صفة اليدين، وذكرنا أنه يجب فيما يتعلق بالأسماء أن نثبت ما سمى الله به نفسه اسماً لله، وأن نثبت ما تضمنه من صفة وما تضمنه من حكم، -وهو الأثر- تقتضيه ذلك الصفة، وذكرنا أنه يجب علينا أن نؤمن بما وصف الله به نفسه من الصفات على وجه الحقيقة أيضاً، وذكرنا مثالاً وهو اليدان، حيث أثبت الله لنفسه يدين اثنتين وهما ثابتتان لله على وجه الحقيقة، لكن لا يجوز لنا أن نمثل هاتين اليدين بأيدي المخلوقين، ولا أن نتصور بقلوبنا أو ننطق بألسنتنا عن كيفية هاتين اليدين؛ لأن التمثيل تكذيبٌ لقول الله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] ، وعصيانٌ لقوله تعالى: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ [النحل:74] .

وأما التكييف فهو وقوعٌ فيما حرم الله ونهى عنه؛ لأن الله يقول: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، ويقول تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء:36].

نزيد مثالاً ثانياً في الصفات: وهو استواء الله تعالى على عرشه؛ لأن الله تعالى أثبت لنفسه أنه استوى على عرشه في سبعةٍ مواضعٍ من كتابه، كلها أتت بلفظ: استوى، وإذا رجعنا إلى الاستواء في اللغة العربية وجدناه إذا عدي بعلى لا يقتضي إلا الارتفاع والعلو، فيكون معنى قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، وأمثالها من الآيات معناه: أن الله على عرشه عز وجل علواً خاصاً غير العلو العام على جميع الإخوان، وهذا العلو ثابتٍ لله تعالى على وجه الحقيقة، فهو عالٍ على عرشه علواً يليق به عز وجل، لا يشبه علو الإنسان على السرير، ولا علوه على الأنعام، ولا علوه على الفلك الذي ذكره الله في قوله: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ [الزخرف:12-14] .

فاستواء المخلوق على شيء لا يمكن أن يماثله استواء الله على عرشه؛ لأن الله ليس كمثله شيءٌ في جميع الأمور، وقد أخطأ خطأً عظيماً من قال: إن معنى استوى على العرش: استولى على العرش؛ لأن هذا تحريف للكلم عن مواضعه، ومخالفٌ لما أثنى عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، ومتضمنٌ، ومستلزمٌ للوازم باطلة، لا يمكن للمؤمن أن يتفوه بها بالنسبة إلى الله عز وجل، فالقرآن الكريم نزل باللغة العربية بلا شك، كما قال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف:3]، وقال تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:193-195].

ومقتضى هذه الصيغة (استوى على كذا) في اللغة العربية: العلو والاستقرار، بل هو معناها المطابق للفظ، فمعنى استوى على العرش، أي: علا عليه علواً خاصاً يليق بجلاله وعظمته، فإذا فسرناه باستولى فقد حرفنا الكلم عن مواضعه، حيث أخرجنا هذا المعنى الذي تدل عليه لغة القرآن وهو العلو إلى معنى الاستيلاء، ثم إن السلف والتابعين لهم بإحسانٍ مجمعون على هذا المعنى؛ إذ لم يأت عنهم حرفٌ واحد بتفسيره بخلاف ذلك، وإذا جاء اللفظ في القرآن والسنة ولم يرد عن السلف تفسيره بما يخالف ظاهره، فالأصل أنهم أبقوه على ظاهره، واعتقدوا ما يدل عليه، ولهذا لو قال لنا قائل: هل عندكم لفظ صريح بأن السلف فسروا استوى بمعنى علا؟ قلنا: نعم، ورد ذلك عن السلف، وعلى فرض أن لا يكون ورد عنهم صريحاً؛ فإن الأصل بما دل عليه اللفظ في القرآن الكريم والسنة النبوية أنه باقٍ على ما تقتضيه اللغة العربية من المعنى.

أما اللوازم الباطلة التي تلزم على تفسير الاستواء بمعنى الاستيلاء، فإننا إذا تدبرنا قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]، وقلنا: استوى بمعنى استولى، لزم من ذلك أن يكون العرش قبل خلق السموات والأرض ليس ملكاً لله عز وجل؛ لأنه قال: خلق ثم استوى، فإذا قلت: ثم (استولى) لزم من ذلك أن يكون العرش ليس ملكاً لله سبحانه وتعالى قبل خلق السموات والأرض، ولا حين خلق السموات والأرض، ويلزم منه أن يصح التعبير بقولنا: إن الله استوى على الأرض واستوى على أي شيءٍ من مخلوقاته، وهذا لا شك أنه معنىً باطل لا يليق بالله عز وجل.

فتبين بهذا أن تفسير الاستواء بالاستيلاء فيه محظوران:

أحدهما: تحريف الكلم عن مواضعه.

والثاني: أن يتصف الله عز وجل بما لا يليق به.

المقدم: يا شيخ أثابكم الله، عرفنا الآن أنواع التوحيد: توحيد الربوبية، والألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، كما عرفنا أشياء من الواجب تجاه هذه الأنواع، لكن نريد أيضاً أن نخصص الواجب نحو كل نوعٍ منها على حدة؟

الشيخ: الواجب علينا أن نعتقد ما يتضمنه كل نوع، وأن نوحد الله عز وجل بما يقتضيه هذا النوع من المعاني. نعم.

المقدم: ما حكم صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله سبحانه وتعالى؟

الشيخ: ربما يفهم الجواب مما سبق آنفاً أن قلنا: إن توحيد العبادة إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، بأن لا يتعبد أحدٌ بغير الله تعالى بشيء من أنواع العبادة، ومن المعلوم أن الذبح قربة يتقرب به الإنسان إلى ربه؛ لأن الله تعالى أمر به في قوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2] ، وكل قربةٍ فهي عبادة، فإذا ذبح الإنسان شيئاً لغير الله تعظيماً له وتذللاً وتقرباً إليه كما يتقرب بذلك ويعظم ربه عز وجل كان مشركاً بالله سبحانه وتعالى، وإذا كان مشركاً فإن الله تعالى قد بين أن المشرك حرم الله عليه الجنة، وأن مأواه النار.

وبناءً على ذلك نقول: إن ما يفعله بعض الناس من الذبح للقبور -قبور الذين يزعمونهم أولياء- شركٌ مخرجٌ عن الملة، ونصيحتنا لهؤلاء: أن يتوبوا إلى الله عز وجل مما صنعوا، وإذا تابوا إلى الله وجعلوا الذبح لله وحده كما يجعلون الصلاة لله وحده والصيام لله وحده، فإنه يغفر لهم ما سبق، كما قال الله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38]، بل إن الله سبحانه وتعالى يثيبهم فوق ذلك فيبدل الله سيئاتهم حسنات، كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:68-70].

فنصيحتي لهؤلاء الذين يتقربون إلى أصحاب القبور بالذبح لهم أن يتوبوا إلى الله تعالى من ذلك، وأن يرجعوا إليه، وأن يبشروا إذا تابوا التوبة من الكريم المنان، فإن الله سبحانه وتعالى يفرح بتوبة التائبين.