هذا الحبيب يا محب 128


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فقد انتهى بنا الدرس إلى الأخلاق المحمدية، وها نحن الآن مع [العدل المحمدي] أي: مع العدل الذي كان يعرف به صلى الله عليه وسلم، ولا يشك مؤمن في أنه لن يساويه في هذا الشأن أحد من عباد الله.

قال: [إن العدل خلاف الجور، أمر الله تعالى به في القول والحكم] أي: أمرنا أن نقول العدل، وإذا حكمنا أن نحكم بالعدل [قال تعالى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام:152]]، فإذا قلت يا عبد الله، وإذا قلتِ يا أمة الله قولاً فلابد وأن لا تميلي يميناً ولا شمالاً، ولكن العدل العدل، وإذا قال عبد الله قولاً يجب أن لا ينحرف فيه ولا يميل مراعاة لحال من الأحوال، وهذا قول الله تعالى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ، أي: ولو كان الذي تقول له هو فيه من قرابتك.

قال: [وقال تعالى: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء:58]]، فلهذا العدل يكون في القول ويكون في الحكم [وعلى العدل قام أمر السماء والأرض، ومن هنا كيف لا يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم عادلاً، وهو القائل: ( ثلاثة إجلالهم من إجلال الله تعالى.. وذكر من بينهم: الإمام العادل )، وذكر أن سبعة] من عباد الله [يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وعدَّ منهم الإمام العادل، وقال: ( إن المقسطين على منابر من نور يوم القيامة )] من هم المقسطون؟ العادلون في أقوالهم وأحكامهم [وبين أنهم الذين يعدلون في حكمهم وما ولوا. ولذا كان صلى الله عليه وسلم عادلاً في قوله وفعله وحكمه، لا يجور ولا يحيف، وكان العدل من أخلاقه وأوصافه اللازمة له صلى الله عليه وسلم، فقد عرف به في الجاهلية قبل الإسلام] أي: عرف النبي صلى الله عليه وسلم بالعدل في الجاهلية قبل الإسلام.

قال: [وهذه مواقف] أي: ننظر إليها ونشاهد كيف كان يعدل صلى الله عليه وسلم [له صلى الله عليه وسلم يتجلى فيها هذا الخلق النبوي الكريم وهي:

تحكيم قريش للنبي في شأن وضع الحجر الأسود في مكانه من الكعبة

تحكيم قريش له في وضع الحجر الأسود بعد خلاف شديد بينهم كاد يفضي بينهم إلى الاقتتال]. فلما بنت قريش البيت بعد جرف السيول له، وأرادوا أن يبنوه، ثم لما بنوه ووصلوا إلى مكان الحجر، اختلفوا: من هو الذي يحمل الحجر ويضعه في مقامه، فيفوز بالشرف الخالد، فكل جماعة وكل فصيلة وقبيلة قالوا: نحن أولى بهذا، واحتكموا وكادوا يقتتلون.

قال: [فحكموا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا بتوفيق من الله تعالى: نحكم أول قادم علينا غداً]، أي: اتركوا القضية إلى غدٍ، وإذا كنا هنا أول من يدخل علينا نحكمه ويحكم بيننا ونرضى بحكمه، وهذا من توفيق الله عز وجل.

قال: [فكان النبي صلى الله عليه وسلم أول قادم، فقالوا: هذا الأمين .. هذا الحكم رضينا به] وهذا قبل النبوة، أي: ما بين ولادته والأربعين سنة، وقولهم: (هذا الأمين) أي: الذي ما عرف بخيانة قط لا في قول ولا عمل.

قال: [فحكم بأن يوضع الحجر في ثوب من الثياب، وتأخذ كل قبيلة بطرف] أي: من الثوب، فلما رفعوا الثوب [ثم أخذ الحجر بيديه ووضعه في مكان من جدار البيت؛ فحكم فعدل، وكان مظهراً من مظاهر عدله صلى الله عليه وسلم]. ومن الواجب إذا ذكر بين يديك صلى الله عليه وسلم، فقل: صلى الله عليه وسلم، وإلا تتعرض للهون والدون، وهذا الموقف يتجلى فيه العدل، فإنهم كادوا يقتتلون، فألهمه الله إلى أن يوضع الحجر في ثوب واحد، وكل قبيلة تأخذ بطرفه، ومعناه أنها ساهمت ولها شرف، ثم يأخذ الحجر بنفسه ويضعه في مكانه من البيت.

إقامة الحد الشرعي على القريب قبل البعيد، وعلى العزيز قبل الوضيع

ثاني موقف من مواقف العدل المحمدي ولاحظوا وتأملوا، قال: [لما سرقت المخزومية] هذه امرأة صحابية من بني مخزوم في المدينة سرقت سرقة، وشق على المسلمين إقامة الحد عليها فتقطع يدها، فما أطاق الأصحاب هذا، ماذا يصنعون كيف يفعلون؟

قال: [وشق على المسلمين إقامة الحد عليها فتقطع يدها، فتوسطوا له بحبه وابن حبه أسامة بن زيد ]، توسط الأصحاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ما تقطع يد المخزومية بولد حبه وهو حبه أيضاً أسامة بن زيد [فرفع إليه القضية أسامة ، فقال: ( أفي حد من حدود الله تشفع يا أسامة ! )]، أي: كيف تقبل على هذا وتقدر عليه؟ واسمع ما قال الحبيب صلى الله عليه وسلم، قال: [( والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها )]، هذا عدل فوق كل عدل ولا نظير له: ( والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها )، فكيف بهذه المخزومية.

معاشر المستمعين! أتدرون لماذا ندرس هذه السيرة؟ رجاء أن نتصف ببعض الصفات، والله ليس معنى هذا لنقول: الرسول عدل، ولكن من أجل أن نجاهد أنفسنا حتى نتصف بهذا الكمال المحمدي؛ لأنه أسوتنا وقدوتنا، وقد جعله الله أسوة: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، فإذا جاءت فتنة أو محنة نتذكر هذه الأحداث فنلزم العدل ولا نحيف ولا نجور، وليس الأمر مجرد سماع وتهكم.

أعيد هذا الموقف: قال: [لما سرقت المخزومية، وشق على المسلمين إقامة الحد عليها فتقطع يدها، فتوسطوا له بحبه وابن حبه أسامة بن زيد ، فرفع إليه القضية، فقال: ( أفي حد من حدود الله تشفع يا أسامة ! )] منكراً عليه هذا الموقف ومستنكراً له [( والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها ) فكان هذا المظهر عظيماً للعدل المحمدي]، والله إنه لصادق وهو أصدق الصادقين، هذا حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم فأين المحبون؟!

عدل النبي بين أهل بيته وعدله بين عامة المسلمين

وهناك موقف ثالث فانظر واسمع ولاحظ، قال: [وكانت تحته تسع نسوة] أي: وكان تحته تسع زوجات، وعلى رأسهم عائشة ، وعلى نهايتهم مارية القبطية [وكان يعدل ويتحرى العدل ثم يعذر إلى ربه وهو مشفق خائف، فيقول: ( اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك )]، أي: يبذل جهده وطاقته في أن يعدل بين نسائه، في الفراش، في الكلام، في الطعام، في اللباس، ومع هذا يقول: رب هذه قدرتي، هذا قسمي فيما تملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك، بمعنى: إن عجزت فهو عن عجز، لا عن إرادة انحراف أو سوء أو ظلم. فقال: (اللهم هذا قسمي فيما أملك) أي: من القدرة، فلا تلمني فيما تملك أنت يا رب ولا أنا لا أملك.

وأنتم عندكم إما اثنتان أو ثلاث، وقل من يكون له أربعة، فليذكر هذا ويعدل بين نسائه، ولا فرق بين الدميمة والجميلة، ولا بين الكبيرة والصغيرة، ولا بين الشريفة والوضيعة، إذ لكل واحدة حقها في ليلة الفراش وفي طعامها ولباسها، وهذا العدل.

هل يوجد هذا العدل بيننا الآن؟

الشكاوى والبكاء والتساؤلات والمحاكم والطلاق لا حد له، وسببه الجور وعدم العدل، وما سمعنا بهذا الخبر ولا علمناه، ولا حاولنا أنفسنا يوماً أن نقتدي برسول الله ونأتسي به، ونمشي وراءه لنكمل ونسعد، بل شغلتنا دنيانا، شغلتنا أهواؤنا وشهواتنا، وها نحن في حيرتنا نتخبط، ومن لم يمش مع الطريق السوي لابد وأن يتحطم.

وموقف آخر، قال: [وقوله للأعرابي البدوي الذي قال له: اعدل، فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله] هذا أعرابي جلف قاس جاهل، كان الرسول يقسم في غنيمة، فقال الأعرابي: اعدل يا محمد، فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. وهذه الكلمة لو قيلت لغير رسول الله لضربه على وجهه حتى يقع على الأرض، فقوله: (وهذه قسمة ما أريد بها وجه) معناها أن الرسول يواجه الناس ويعاملهم بحسب هواه.

فهذا أعرابي جاهل وغليظ وجاف، وليس من حقه أن يقول هذه الكلمة.

المهم قال الأعرابي: اعدل -أي: يا رسول الله- فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله.

قال: [فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( ويحك فمن يعدل إن لم أعدل )]، ويحك يا أعرابي، ما قال: ويلك؛ لأن ويحك تدل على الخير، وويلك تدل على الشر والبلاء، وويلك تدل على العذاب، وويحك تدل على الرحمة والإحسان [( خبتُ وخسرتُ إن لم أعدل )] فدعا على نفسه بالخيبة والخسران إن لم يعدل، هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فالأعرابي البدوي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اعدل، فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، فقال له الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( ويحك فمن يعدل إن لم أعدل؟ خبتُ وخسرتُ إن لم أعدل )) دعا على نفسه، وإن شاء الله من الليلة الذي عنده انحراف في أية قسمة يجب أن يذكر هذا، فلا يميل لا يمين ولا شمال، فالعدل العدل، وقد رأينا رسول الله يعدل هذا العدل ويرغب فيه، فكيف لا نتصف به؟!

عدل النبي في أكله وشربه ووقته

وموقف آخر، قال: [في الطعام والشراب] أي: موقف آخر من مواقف العدل النبوي ولكنه في الطعام والشراب [إذ كان يقول: ( ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه )]، أي: لم يملأ الإنسان إناء من الأواني شراً من بطنه؛ لأن البطن وعاء، حيث نرمي فيه القمح والدقيق والماء، فتأملوا هذا الكلام النبوي: ( ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه )، أي وعاء تملؤه حتى يفيد ما يضر، لكن شر الأوعية تملؤه هو البطن، فيصاب بالتخمة ثم الهلاك.

ثم قال: [( بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه )]، واللقيمات جمع لقمة، وهذا التصغير للتقليل، فلقيمات يقمن ظهره حتى يستوي ويمشي؛ لأنه لما يكون جائعاً يظهر منحنياً أو واضعاً في صدره شيئاً، فقال: ( بحسب ابن آدم ) أي: يكفيه ( لقيمات يقمن صلبه ).

قال: [( فإن كان ولابد فاعلاً )]، وتأملوا قوله: (فإن كان ولابد فاعلاً) أي: يريد أن يملأ بطنه [( فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس )] وجربوا الليلة يا من يريد الأسوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلما توضع المائدة بين يديه أو السفرة: ثلث للطعام، وثلث للماء، وثلث للنفس، أما كل الوعاء يملأه بالطعام، فأين يكون الماء وكيف يتنفس؟

وهذا الكلام من سيد الأطباء، والله ما عرفت الدنيا أطب منه للعقول والأبدان على حد سواء، فهو يتلقى معارفه من الملكوت الأعلى، وهل يستطيع طبيب ولو يجتمع أطباء العالم بأسرهم أن ينقلوا هذا الخبر؟ والله ما يستطيعون، ولن يقدروا على نقضه: ( بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان ولابد فاعلاً، فثلث للطعام وثلث للشراب، وثلث للنفس ).

قال: [وكان صلى الله عليه وسلم] اسمع يا عبد الله واسمعي يا أمة الله [يقسم وقته] يقسم الوقت ويقسم الطعام [ثلاثة أجزاء: جزءاً لربه تعالى، وجزءاً لأهله، وجزءاً لنفسه، ويقسم الجزء الذي لنفسه بينه وبين الناس] فأربعة وعشرين ساعة في اليوم والليلة يقسمها على ثلاثة، فيكون الثلث ثمانية ساعات، فثمان ساعات تكون لربه، وهذه معناه أن وقت الصلاة يقضي فيه ساعة ونصف وزيادة، أو ساعتين تقريباً، مع الذكر والدعاء والتنفل، فهذا الثلث فيه ثمان ساعات لله عز وجل، أكثرها صلاة وما تابعها.

وقوله: [وجزءاً لأهله] أي: من امرأة وولد [وجزءاً لنفسه] أي: للراحة [ويقسم الجزء الذي لنفسه بينه وبين الناس] فهذا يسأل، وهذا يقول: أعطني، وهذا .. وهذا، فهذا الجزء الذي هو له ليس خاصاً به، بل بينه وبين الناس صلى الله عليه وسلم.

قال: [فكان يستعين بالخاصة على العامة، ويقول: ( أبلغوا حاجة من لا يستطيع إبلاغي، فإنه من أبلغ حاجة من لا يستطيع إبلاغها آمنه الله يوم الفزع الأكبر )] كان صلى الله عليه وسلم يقول للناس ولأصحابه: ( أبلغوا حاجة من لا يستطيع إبلاغي ) فيا أصحابي! من عنده حاجة ولا يستطيع أن يصل بها إلي فاحملوه أنتم وأبلغوني إياها، ( فإنه من أبلغ حاجة عبد لا يستطيع إبلاغها إلي آمنه الله يوم الفزع الأكبر ) أي: أمنه الله يوم الفزع الأكبر.

مرة أخرى: معاشر المستمعين والمستمعات! نقول: [وكان صلى الله عليه وسلم يقسم وقته ثلاثة أجزاء] هيا نقسم أوقاتنا نحن، وإلا نحن خير منه؟!

هيا نقسم أوقاتنا ثلاثة، قال: [ثلاثة أجزاء: جزءاً منه لربه] فلتكن صلاتنا وذكرنا وعبادتنا ثمان ساعات، وهذا أهم شيء، وإذا كنا نشتغل بالعبادة والصلاة ونقضيها في ساعة ونصف أخذنا حصتنا، فثمان ساعات للعبادة.

قال: [وكان صلى الله عليه وسلم يقسم وقته ثلاثة أجزاء: جزءاً لربه تعالى، وجزءاً لأهله، وجزءاً لنفسه، ويقسم الجزء الذي لنفسه بينه وبين الناس، فكان يستعين بالخاصة على العامة] أي: يطلب الخاصة أن يساعدوا العامة [ويقول: ( أبلغوا حاجة من لا يستطيع إبلاغي) ] لأنه الحاكم [( فإنه من أبلغ حاجة من لا يستطيع إبلاغها آمنه الله )أو أمنه الله ( يوم الفزع الأكبر ) أي: يوم القيامة].

قال: [وكان الحسن ] أي: ابن فاطمة وابن علي رضي الله عنهما [يقول: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأخذ أحداً بقرف أحد )] أي: بتهمة أحد [( ولا يصدق أحداً على أحد )]. فهذا الحسن الحبيب يقول: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأخذ أحداً بقرف أحد، ولا يصدق أحداً على أحد ) إلا بالبينة العادلة التي تثبت ذلك.

قال: [وكان يتجلى خلق العدل في الحبيب صلى الله عليه وسلم بصورة واضحة تمام الوضوح، يدعو كل مؤمن إلى التخلق به ائتساء به صلى الله عليه وسلم، وهو أسوة كل مؤمن ومؤمنة في هذه الحياة].

وهكذا يتجلى خلق العدل في الحبيب صلى الله عليه وسلم بصورة واضحة، وهذا يدعو كل مؤمن إلى التخلق به ائتساء به صلى الله عليه وسلم، وهو حقاً أسوة كل مؤمن ومؤمنة في هذه الحياة.

كيف رأيتم خلق العدل؟ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تحكيم قريش له في وضع الحجر الأسود بعد خلاف شديد بينهم كاد يفضي بينهم إلى الاقتتال]. فلما بنت قريش البيت بعد جرف السيول له، وأرادوا أن يبنوه، ثم لما بنوه ووصلوا إلى مكان الحجر، اختلفوا: من هو الذي يحمل الحجر ويضعه في مقامه، فيفوز بالشرف الخالد، فكل جماعة وكل فصيلة وقبيلة قالوا: نحن أولى بهذا، واحتكموا وكادوا يقتتلون.

قال: [فحكموا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا بتوفيق من الله تعالى: نحكم أول قادم علينا غداً]، أي: اتركوا القضية إلى غدٍ، وإذا كنا هنا أول من يدخل علينا نحكمه ويحكم بيننا ونرضى بحكمه، وهذا من توفيق الله عز وجل.

قال: [فكان النبي صلى الله عليه وسلم أول قادم، فقالوا: هذا الأمين .. هذا الحكم رضينا به] وهذا قبل النبوة، أي: ما بين ولادته والأربعين سنة، وقولهم: (هذا الأمين) أي: الذي ما عرف بخيانة قط لا في قول ولا عمل.

قال: [فحكم بأن يوضع الحجر في ثوب من الثياب، وتأخذ كل قبيلة بطرف] أي: من الثوب، فلما رفعوا الثوب [ثم أخذ الحجر بيديه ووضعه في مكان من جدار البيت؛ فحكم فعدل، وكان مظهراً من مظاهر عدله صلى الله عليه وسلم]. ومن الواجب إذا ذكر بين يديك صلى الله عليه وسلم، فقل: صلى الله عليه وسلم، وإلا تتعرض للهون والدون، وهذا الموقف يتجلى فيه العدل، فإنهم كادوا يقتتلون، فألهمه الله إلى أن يوضع الحجر في ثوب واحد، وكل قبيلة تأخذ بطرفه، ومعناه أنها ساهمت ولها شرف، ثم يأخذ الحجر بنفسه ويضعه في مكانه من البيت.

ثاني موقف من مواقف العدل المحمدي ولاحظوا وتأملوا، قال: [لما سرقت المخزومية] هذه امرأة صحابية من بني مخزوم في المدينة سرقت سرقة، وشق على المسلمين إقامة الحد عليها فتقطع يدها، فما أطاق الأصحاب هذا، ماذا يصنعون كيف يفعلون؟

قال: [وشق على المسلمين إقامة الحد عليها فتقطع يدها، فتوسطوا له بحبه وابن حبه أسامة بن زيد ]، توسط الأصحاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ما تقطع يد المخزومية بولد حبه وهو حبه أيضاً أسامة بن زيد [فرفع إليه القضية أسامة ، فقال: ( أفي حد من حدود الله تشفع يا أسامة ! )]، أي: كيف تقبل على هذا وتقدر عليه؟ واسمع ما قال الحبيب صلى الله عليه وسلم، قال: [( والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها )]، هذا عدل فوق كل عدل ولا نظير له: ( والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها )، فكيف بهذه المخزومية.

معاشر المستمعين! أتدرون لماذا ندرس هذه السيرة؟ رجاء أن نتصف ببعض الصفات، والله ليس معنى هذا لنقول: الرسول عدل، ولكن من أجل أن نجاهد أنفسنا حتى نتصف بهذا الكمال المحمدي؛ لأنه أسوتنا وقدوتنا، وقد جعله الله أسوة: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، فإذا جاءت فتنة أو محنة نتذكر هذه الأحداث فنلزم العدل ولا نحيف ولا نجور، وليس الأمر مجرد سماع وتهكم.

أعيد هذا الموقف: قال: [لما سرقت المخزومية، وشق على المسلمين إقامة الحد عليها فتقطع يدها، فتوسطوا له بحبه وابن حبه أسامة بن زيد ، فرفع إليه القضية، فقال: ( أفي حد من حدود الله تشفع يا أسامة ! )] منكراً عليه هذا الموقف ومستنكراً له [( والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها ) فكان هذا المظهر عظيماً للعدل المحمدي]، والله إنه لصادق وهو أصدق الصادقين، هذا حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم فأين المحبون؟!