فوربك لنسألنهم أجمعين (1، 2)


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

إن من أوجب الواجبات، ومن أعظم مسئوليات المسلم في هذه الحياة، أن يستغل فرصتها، وأن يغتنم فترتها، ليتعلم كيف يجيب على السؤالين الهامين، اللذين أخبر الله عز وجل في كتابه الكريم، أنهما سيقدمان إلى كل مكلف في هذه الدنيا؛ لأن بمقدار قدرته على الإجابة الصحيحة على هذين السؤالين، يكون مقدار فوزه وسعادته، أو هلاكه وخسارته -والعياذ بالله- وانشغال الناس الآن، وبذل القسط الأوفر والجزء الأكبر من حياتهم، لشيءٍ لا ينفعهم في الآخرة، هذا من نقص عقولهم، ولذا يوم القيامة حينما تنكشف لهم الحقائق وحينما تزول الحجب ويرون الأمور على حقائقها يعترفون بأنهم لم يكونوا عقلاء، قال عز وجل: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10].

أي يقولون: والله لو عندنا عقول وأسماع، ما تورطنا هذه الورطة، ولا تركنا هذه الفرصة، وما كنا بضلالنا وجهالتنا وإعراضنا وانشغالنا بما لا ينفعنا، ما كنا في أصحاب السعير، ولكن الذي جعلهم -والعياذ بالله- في السعير؛ أنهم ما كانوا يسمعون، ولا كانوا يعقلون، فلم يكونوا يسمعون عن الله، ولم يعقلوا دين الله، لكنهم يسمعون شيئاً لا يريده الله منهم، ويعقلون ويتفكرون ويبدعون، لكن في غير الميدان الطبيعي الذي خلقهم الله له، فإذا زالت الحُجب ورأوا أن جهدهم ضياع وعمرهم هباء قالوا: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10].

ما هذان السؤالان؟

ورد السؤال الأول في كتاب الله عز وجل، يقول الله عز وجل فيه: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92-93] هذا هو السؤال الأول، والخطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم، والله يقسم بنفسه تبارك وتعالى في هذا الأمر الهام، والذي يتأمل الأقسام القرآنية كما يقول ابن القيم في كتاب مخصص اسمه أقسام القرآن: يعني بهذه الأشياء التي أقسم بها الله عز وجل، فلا يقسم الله عز وجل بذاته إلا في الأشياء المهمة، مثل: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7] ومثل: فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [الذاريات:23].

وفي هذه الآية يقول الله عز وجل: فَوَرَبِّكَ [الحجر:92] يا محمد لَنَسْأَلَنَّهُمْ [الحجر:92] وجاء الأمر بعدة مؤكدات: لام التوكيد، ونون التوكيد الثقيلة لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر:92] توكيد لفظي عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:93] و(ما) هنا: اسم موصول تعم العاقل وغيره، تعم كل شيء، فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92-93].

تذكرة الآخرة وأحوال أهل النار

قل لي يا أخي! بربك إذا وقفت ذلك الموقف الرهيب، تصور -يا أخي- ولا تعش في الخيالات ولا تلغِ عقلك.

مثل لنفسك أيها المغرور     يوم القيامة والسماء تمور

قد كورت شمس النهار وأدنيت     حتى على رأس العباد تفور

وإذا الجبال تقلعت بأصولها     ورأيتها مثل السحاب تسير

وإذا البحار تأججت نيرانها     ورأيتها مثل الحميم تفور

وإذا الوحوش لدى القيامة أحضرت     وتقول للأملاك أين نسير

فيقال سيروا تشهدون فضائحاً     وعائبٌ قد أحضرت وأمور

وإذا الجنين بأمه متعلق     يخشى الحساب وقلبه مذعور

يخاف، يقول الله: يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً [المزمل:17]كيف أنا وأنت ذلك اليوم؟ الأمر أصعب من ذلك، بم تجيب إذا سُئلت هذا السؤال؟ ماذا كنت تعمل؟ ماذا تقول؟ أعد من الآن الجواب.

وأنت الآن في الدنيا إذا مت وفارقت الحياة عند القبر، وقيل لك: ماذا كنت تعمل؟ وقلت لهم: كنت مديراً، هل ينفعك هذا؟ كنت ملازماً، طبيباً، وزيراً، أميراً، ملكاً، رياضياً، نجماً، روائياً، مطرباً، كل هذه لا تنفعك، عندك شيء ثانٍ، ابحث عن غير هذه الوظائف، هذه كلها تنفعك هنا في الدنيا، لكنها عند الموت لا تسقي صاحبها شربة ماء.

يقولون: ماذا كنت؟

كنت مصلياً، قواماً في الليل، صواماً، آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر، تالياً لكتاب الله.

هل كانت مخافة الله بين عينيك، فترى عذاب الله دائماً، كأنما لا يعذب في الدنيا إلا أنت، أم أنك تقتحم الذنوب والمعاصي كأنك ضد النار.

فالذي يرى أعمال بعض العباد يقول: إما أن هؤلاء ضد النار أو أنهم مكذبون بالنار، فإن كانوا هم ضد النار فليجربوا وليأخذوا عود كبريت، لا نقول: يأخذوا جمرة، ولا تنوراً كبيراً، ولا النار الكبيرة التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سمع وجبةً وهو مع بعض أصحابه فقال: (أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إن هذا حجر ألقي من شفير جهنم منذ سبعين خريفاً والآن وصل).

ولما نزل قول الله عز وجل: النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة:24] قال رجلٌ: (يا رسول الله! أحجارة جهنم كحجارة الدنيا؟ -أي: مثل الجبال هذه- قال: والذي نفس محمد بيده! لصخرة من صخر جهنم أعظم من جبال الدنيا بأسرها) ويذكر الإمام السيوطي في صحيح الجامع حديثاً يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مقعد الكافر في النار كما بين مكة والمدينة- أربعمائة وعشرون كيلو متراً، هذا الكرسي للكافر في جهنم، وهذا ذكره في صحيح الجامع-: وإن ضرس الكافر في النار مثل جبل أحد ) وهذا الضرس! فكيف بالرأس الذي فيه اثنان وثلاثون ضرساً.

والجسم له سبعة جلود؛ لأن الله يقول: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56] لأن وسائل الإحساس في الجلد، فلو احترق هذا الجلد وما بُدل فلن يحس بالنار، فالله يبدل الجلود، لكي يستمر الإحساس بعذاب النار، وأنت عندما تدخل الإبرة في جلدك، تحس بها في أول الوخزة؛ لكن بعدها لا تحس؛ لأن وسائل الإحساس جعلها الله في خارج الجسد، حتى يحمى الجلد، بحيث تحس بأي شيء، لكن إذا لم يوجد إحساس فإنه يمكن لشخص أن يؤذيك، ويخرج دمك، وأنت لم تحس، وهذه من حكمة الله.

سبعة جلود ما بين الجلد والجلد مسيرة ثلاثة أيام، وغلظ الجلد مسيرة ثلاثة أيام، ومن شدة الإحراق تبدل في كل يوم أربعمائة مرة، فستسأل في ذلك اليوم: ماذا كنت تعمل؟ وهناك: يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:52].. وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [الشعراء:227].. وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47] ما لم يكن يخطر في باله من العذاب، شيء لا يتصوره العقل إذا سقطوا في الإجابة على هذا السؤال.

فمن الآن صحح المسار، واضبَّط العمل، واعرف أنك عن كل شيء مسئول، والله يقول: وَقِفُوهُمْ [الصافات:24] أي: قفوهم في عرصات القيامة: إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ [الصافات:24] أي: مناقشون ومحاسبون: مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [الصافات:25-26] فليس هناك أنصار، ولا شيع، ولا أحزاب، ولا قوميات، ولا معسكر شرقي، ولا معسكر غربي، إنما بعضهم يلعن بعضاً: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً [الأعراف:38] إذا تجمعوا: قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ [الأعراف:38] فكل جماعة تقول: هؤلاء الذين أضلونا لينالوا ضعف نصيبهم لكن: قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:38] نعوذ بالله وإياكم من النار.

فأعد لهذا السؤال جواباً، واجعل هذا السؤال بين عينيك: عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:93] فإذا أردت أن تسهر في الليل، فاسأل نفسك: هل هذا العمل ستجيب عليه ورأسك مرفوع، أم منكوس؟ فإن كان مما تفخر به بين يدي الله فاعمله، وإن كان مما تخجل منه بين يدي الله فكف عنه: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ [الصافات:24]... فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92-93].

النفس بين المجاهدة والدعة

النفس أيها الإخوة! تحب الدعة، وتكره القيود، تحب اللعب والغفلة، وأنت تعرف نفسك إذا أعطيتها لعبة، فإنك تبذل فيها أربع أو خمس ساعات لا تمل ولا تكل، لكن أعطها كتاب علم أو آية أو حديثاً تضيق، لكن ما هو موقفك أنت أمام نفسك؟ هل الانهزام أم السيطرة؟ اسمعوا لهذه الآية الكريمة: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ [النازعات:40] وماذا؟ وَنَهَى [النازعات:40] لم يستسلم وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [النازعات:40] الهوى هو: الكيف الذي يقولون الآن: أنا على كيفي، وأنا على هواي، وأنا حر. أنت حر لكن سوف تندم فيما بعد، وعلى هواك الآن وعلى كيفك، لكن إذا دخلت الحفرة فأنقذ نفسك هناك، والله ستذهب الحرية والكيف والهوى، وتتمنى لو ترجع كي تلغي كيفك، وتشطب على هواك، وتبعد حريتك، وتعلن عبوديتك وخضوعك لربك فتستسلم؛ لكن لا تجاب إلى هذا، وهل أجيب إنسان على هذا الطلب؟!

يا إخواني! لماذا لا نستقرئ التاريخ، فمنذ آدم عليه السلام إلى يومنا هذا، هل وجد شخص طلب الرجعة وأرجعه الله؟ لا. إذاً لماذا نماطل في العمل، حتى يصير الإنسان إلى هذا المصير الأسود؟ -أعوذ بالله وإياكم منه- فالنفس تحب الدعة، ليكن موقفك من نفسك السيطرة، والحديث صحيح في سنن الترمذي : (الكيس من دان نفسه) دانها أي: غلبها وسيطر عليها؛ لأن النفس مثل الحصان، إن ركبته قادك، وإن أطلقته داسك ثم ركب عليك، وكثير من الناس الآن هو مطية نفسه، نفسي تقول لي! عقلي يقول لي! كيفي يقول لي! لكن عندما يكون عبداً لمولاه وخالقه، فنفسه تمشي مثل الحمار تحته، فيأمر نفسه بالصلاة فتنصاع له، وتدغدغه للدخان فينهاها؛ لكن الذي نفسه ركبته، فإذا رأى (سيجارة) قام إليها متلهفاً، وإذا سمع الأغنية أصغى لها، وإذا رأى فتاة ضيع دينه؛ لماذا؟ لأن نفسه مسيطرة.

أما المؤمن المسيطر على نفسه فلا: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41] نسأل الله وإياكم من فضله: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت) الكيس في اللغة: العاقل الفطن اللبيب، صاحب العقل والنظرة البعيدة، ومن سيطر وقهر وغلب نفسه، وعمل لما بعد الموت، فالدنيا في يده والدين في قلبه، والآمر هو الدين، والدنيا هي المأمورة، ولذا تمشي كلها في طاعة الله، يأتيه المنصب يقبله لكنه يسخره في دين الله، تأتيه الأموال يأخذها لكنه ينفقها في سبيل الله، يأتيه الأولاد يقبلهم لكنه يربيهم على طاعة الله، الزوجات كذلك يربيهن على طاعة الله، كل شيء في حياته يسخره في هذا الاتجاه؛ لماذا؟ لأن الآمر هنا (عمل لما بعد الموت) رفع نظره وعلا ببصره إلى ما بعد هذه الحياة.

والخامل العاجز الكاسل الفاشل من أتبع نفسه هواها، والشيطان يأخذه من زبالة إلى زبالة، من زبالة الغناء إلى زبالة الزنا، إلى زبالة اللواط، هذه زبالات وقاذورات من تلطخ بها هنا فلا تنظفها إلا النار، إلا من كان يتنظف منها هنا، لكن من توسخ بهذه القاذورات، ثم لقي الله وهو ملطخ بها فأين نغسله؟ لا يوجد في الآخرة إلا مغسلة واحدة، اسمها: جهنم ينظف فيها، فإن كانت الأوساخ عالقة -أي: سطحية- نظف بقدرها، ثم يخرج جوهرة، ويذهب إلى الجنة إن كان موحداً، وإن كانت هذه الأقذار والأوساخ عميقة داخلة في قلبه من كفر ونفاق -والعياذ بالله- يخرجه من الدين، فهذا لا يطهره شيء وإنما يقعد فيها حتى أبد الآبدين.

والعاجز -والتعبير عنه بالعاجز يدل على أنه إنسانٌ شهواني، ضعيف الإرادة، خسيس النفس، عاجز الهمة، لا يصلح للجنة- إنما نظر بعينه الهابطة، فلم يرفع نظره، ولو رفعه لرأى الحور العين، وعندما يرى الحور العين يقول:

تهون علينا في المعالي نفوسنا     ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهر

ونحن أناس لا توسط بيننـا     لنا الصدر دون العالمين أو القبر

فهو عندما يرفع نظره، ويرى الحور العين، ويرى القصور العالية والأنهار الجارية، والثمار الدانية، ويتذكر أنه في يوم من الأيام سوف يدخل هذه الجنة، وفي يوم من الأيام سوف يدعى إلى سوق المزيد، وفي يوم من الأيام سوف يدعى للمحادثة مع الله عز وجل، والمكالمة مع ربه، كما جاء في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة النصف لا تضامون في رؤيته) وكما جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما منكم إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) هذا المؤمن، أما العاجز فلا يستطيع؛ لأنه أَتْبَع نفسه هواها، ومع عجزه وضعفه وخسته ودناءة نفسه -أيضاً- يتمنى على الله الأماني، ويقول: أريد الجنة، تريد الجنة! الجنة لها طلاب، والطريق شاق.

يقول ابن القيم في الجواب الكافي وفي الفوائد: يا مخنث العزم! الطريق شاق، والعقبة كئود، قذف فيه في النار إبراهيم، وعرض فيه على السكين إسماعيل، وألقي فيه في الماء يونس، وشج فيه وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وبنيت عليه جماجم الشهداء، لو عرف من قتل في سبيل الله لسالت منه الجبال رءوسهم.

وهذا على المعاصي أربعة وعشرين ساعة، وهو يقول: الله غفور رحيم، إن شاء الله نحن على خير، يحسن الظن بربه ويسيء العمل مع الله.

يقول الحسن البصري في هذا: [إن قوماً غرهم حسن الظن بالله حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم -يقولون: نحسن الظن بالله- كذبوا والله لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل] لكنهم أساءوا الظن بالله، وظنوا أن الله يجزي الجنة على المعاصي فأساءوا العمل وهذا من سوء الظن بالله، أن تظن أن ربك يعطيك على السيئة حسنة، وهو يقول: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل:89-90].

فمن الآن يا أخي! لا تستسهل شيئاً ولا تستبسطه، تقول: لا أريد الدخان؛ لكن أريد الشيشة أخف منه، فليس هناك خيارات، ولا يوجد بدائل ولا أنصاف حلول، هناك إيمان وكفر، هناك إسلام، وهناك معاصٍ ونفاق، فأنقذ نفسك يا أخي! من الغيبة والنميمة والورق واللعب والمنكرات، وكن عبداً ربانياً، والتحق بربك، ولا تعمل عملاً يسوؤك غداً أن تراه.

يقول الحسن البصري رحمه الله: [اكنـز ما تود وتحب أن تراه] أما أن تكنـز عقارب وحيات وجمراً فهذا لا ينبغي، بل لا بد أن تكون من أهل الإيمان، الذين يعرفون كيف يغتنمون هذه الحياة، ولا يفرطون في شيء، محافظين على أمر الله عز وجل، هذا هو السؤال الأول.

قل لي يا أخي! بربك إذا وقفت ذلك الموقف الرهيب، تصور -يا أخي- ولا تعش في الخيالات ولا تلغِ عقلك.

مثل لنفسك أيها المغرور     يوم القيامة والسماء تمور

قد كورت شمس النهار وأدنيت     حتى على رأس العباد تفور

وإذا الجبال تقلعت بأصولها     ورأيتها مثل السحاب تسير

وإذا البحار تأججت نيرانها     ورأيتها مثل الحميم تفور

وإذا الوحوش لدى القيامة أحضرت     وتقول للأملاك أين نسير

فيقال سيروا تشهدون فضائحاً     وعائبٌ قد أحضرت وأمور

وإذا الجنين بأمه متعلق     يخشى الحساب وقلبه مذعور

يخاف، يقول الله: يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً [المزمل:17]كيف أنا وأنت ذلك اليوم؟ الأمر أصعب من ذلك، بم تجيب إذا سُئلت هذا السؤال؟ ماذا كنت تعمل؟ ماذا تقول؟ أعد من الآن الجواب.

وأنت الآن في الدنيا إذا مت وفارقت الحياة عند القبر، وقيل لك: ماذا كنت تعمل؟ وقلت لهم: كنت مديراً، هل ينفعك هذا؟ كنت ملازماً، طبيباً، وزيراً، أميراً، ملكاً، رياضياً، نجماً، روائياً، مطرباً، كل هذه لا تنفعك، عندك شيء ثانٍ، ابحث عن غير هذه الوظائف، هذه كلها تنفعك هنا في الدنيا، لكنها عند الموت لا تسقي صاحبها شربة ماء.

يقولون: ماذا كنت؟

كنت مصلياً، قواماً في الليل، صواماً، آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر، تالياً لكتاب الله.

هل كانت مخافة الله بين عينيك، فترى عذاب الله دائماً، كأنما لا يعذب في الدنيا إلا أنت، أم أنك تقتحم الذنوب والمعاصي كأنك ضد النار.

فالذي يرى أعمال بعض العباد يقول: إما أن هؤلاء ضد النار أو أنهم مكذبون بالنار، فإن كانوا هم ضد النار فليجربوا وليأخذوا عود كبريت، لا نقول: يأخذوا جمرة، ولا تنوراً كبيراً، ولا النار الكبيرة التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سمع وجبةً وهو مع بعض أصحابه فقال: (أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إن هذا حجر ألقي من شفير جهنم منذ سبعين خريفاً والآن وصل).

ولما نزل قول الله عز وجل: النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة:24] قال رجلٌ: (يا رسول الله! أحجارة جهنم كحجارة الدنيا؟ -أي: مثل الجبال هذه- قال: والذي نفس محمد بيده! لصخرة من صخر جهنم أعظم من جبال الدنيا بأسرها) ويذكر الإمام السيوطي في صحيح الجامع حديثاً يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مقعد الكافر في النار كما بين مكة والمدينة- أربعمائة وعشرون كيلو متراً، هذا الكرسي للكافر في جهنم، وهذا ذكره في صحيح الجامع-: وإن ضرس الكافر في النار مثل جبل أحد ) وهذا الضرس! فكيف بالرأس الذي فيه اثنان وثلاثون ضرساً.

والجسم له سبعة جلود؛ لأن الله يقول: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56] لأن وسائل الإحساس في الجلد، فلو احترق هذا الجلد وما بُدل فلن يحس بالنار، فالله يبدل الجلود، لكي يستمر الإحساس بعذاب النار، وأنت عندما تدخل الإبرة في جلدك، تحس بها في أول الوخزة؛ لكن بعدها لا تحس؛ لأن وسائل الإحساس جعلها الله في خارج الجسد، حتى يحمى الجلد، بحيث تحس بأي شيء، لكن إذا لم يوجد إحساس فإنه يمكن لشخص أن يؤذيك، ويخرج دمك، وأنت لم تحس، وهذه من حكمة الله.

سبعة جلود ما بين الجلد والجلد مسيرة ثلاثة أيام، وغلظ الجلد مسيرة ثلاثة أيام، ومن شدة الإحراق تبدل في كل يوم أربعمائة مرة، فستسأل في ذلك اليوم: ماذا كنت تعمل؟ وهناك: يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:52].. وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [الشعراء:227].. وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47] ما لم يكن يخطر في باله من العذاب، شيء لا يتصوره العقل إذا سقطوا في الإجابة على هذا السؤال.

فمن الآن صحح المسار، واضبَّط العمل، واعرف أنك عن كل شيء مسئول، والله يقول: وَقِفُوهُمْ [الصافات:24] أي: قفوهم في عرصات القيامة: إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ [الصافات:24] أي: مناقشون ومحاسبون: مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [الصافات:25-26] فليس هناك أنصار، ولا شيع، ولا أحزاب، ولا قوميات، ولا معسكر شرقي، ولا معسكر غربي، إنما بعضهم يلعن بعضاً: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً [الأعراف:38] إذا تجمعوا: قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ [الأعراف:38] فكل جماعة تقول: هؤلاء الذين أضلونا لينالوا ضعف نصيبهم لكن: قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:38] نعوذ بالله وإياكم من النار.

فأعد لهذا السؤال جواباً، واجعل هذا السؤال بين عينيك: عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:93] فإذا أردت أن تسهر في الليل، فاسأل نفسك: هل هذا العمل ستجيب عليه ورأسك مرفوع، أم منكوس؟ فإن كان مما تفخر به بين يدي الله فاعمله، وإن كان مما تخجل منه بين يدي الله فكف عنه: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ [الصافات:24]... فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92-93].

النفس أيها الإخوة! تحب الدعة، وتكره القيود، تحب اللعب والغفلة، وأنت تعرف نفسك إذا أعطيتها لعبة، فإنك تبذل فيها أربع أو خمس ساعات لا تمل ولا تكل، لكن أعطها كتاب علم أو آية أو حديثاً تضيق، لكن ما هو موقفك أنت أمام نفسك؟ هل الانهزام أم السيطرة؟ اسمعوا لهذه الآية الكريمة: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ [النازعات:40] وماذا؟ وَنَهَى [النازعات:40] لم يستسلم وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [النازعات:40] الهوى هو: الكيف الذي يقولون الآن: أنا على كيفي، وأنا على هواي، وأنا حر. أنت حر لكن سوف تندم فيما بعد، وعلى هواك الآن وعلى كيفك، لكن إذا دخلت الحفرة فأنقذ نفسك هناك، والله ستذهب الحرية والكيف والهوى، وتتمنى لو ترجع كي تلغي كيفك، وتشطب على هواك، وتبعد حريتك، وتعلن عبوديتك وخضوعك لربك فتستسلم؛ لكن لا تجاب إلى هذا، وهل أجيب إنسان على هذا الطلب؟!

يا إخواني! لماذا لا نستقرئ التاريخ، فمنذ آدم عليه السلام إلى يومنا هذا، هل وجد شخص طلب الرجعة وأرجعه الله؟ لا. إذاً لماذا نماطل في العمل، حتى يصير الإنسان إلى هذا المصير الأسود؟ -أعوذ بالله وإياكم منه- فالنفس تحب الدعة، ليكن موقفك من نفسك السيطرة، والحديث صحيح في سنن الترمذي : (الكيس من دان نفسه) دانها أي: غلبها وسيطر عليها؛ لأن النفس مثل الحصان، إن ركبته قادك، وإن أطلقته داسك ثم ركب عليك، وكثير من الناس الآن هو مطية نفسه، نفسي تقول لي! عقلي يقول لي! كيفي يقول لي! لكن عندما يكون عبداً لمولاه وخالقه، فنفسه تمشي مثل الحمار تحته، فيأمر نفسه بالصلاة فتنصاع له، وتدغدغه للدخان فينهاها؛ لكن الذي نفسه ركبته، فإذا رأى (سيجارة) قام إليها متلهفاً، وإذا سمع الأغنية أصغى لها، وإذا رأى فتاة ضيع دينه؛ لماذا؟ لأن نفسه مسيطرة.

أما المؤمن المسيطر على نفسه فلا: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41] نسأل الله وإياكم من فضله: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت) الكيس في اللغة: العاقل الفطن اللبيب، صاحب العقل والنظرة البعيدة، ومن سيطر وقهر وغلب نفسه، وعمل لما بعد الموت، فالدنيا في يده والدين في قلبه، والآمر هو الدين، والدنيا هي المأمورة، ولذا تمشي كلها في طاعة الله، يأتيه المنصب يقبله لكنه يسخره في دين الله، تأتيه الأموال يأخذها لكنه ينفقها في سبيل الله، يأتيه الأولاد يقبلهم لكنه يربيهم على طاعة الله، الزوجات كذلك يربيهن على طاعة الله، كل شيء في حياته يسخره في هذا الاتجاه؛ لماذا؟ لأن الآمر هنا (عمل لما بعد الموت) رفع نظره وعلا ببصره إلى ما بعد هذه الحياة.

والخامل العاجز الكاسل الفاشل من أتبع نفسه هواها، والشيطان يأخذه من زبالة إلى زبالة، من زبالة الغناء إلى زبالة الزنا، إلى زبالة اللواط، هذه زبالات وقاذورات من تلطخ بها هنا فلا تنظفها إلا النار، إلا من كان يتنظف منها هنا، لكن من توسخ بهذه القاذورات، ثم لقي الله وهو ملطخ بها فأين نغسله؟ لا يوجد في الآخرة إلا مغسلة واحدة، اسمها: جهنم ينظف فيها، فإن كانت الأوساخ عالقة -أي: سطحية- نظف بقدرها، ثم يخرج جوهرة، ويذهب إلى الجنة إن كان موحداً، وإن كانت هذه الأقذار والأوساخ عميقة داخلة في قلبه من كفر ونفاق -والعياذ بالله- يخرجه من الدين، فهذا لا يطهره شيء وإنما يقعد فيها حتى أبد الآبدين.

والعاجز -والتعبير عنه بالعاجز يدل على أنه إنسانٌ شهواني، ضعيف الإرادة، خسيس النفس، عاجز الهمة، لا يصلح للجنة- إنما نظر بعينه الهابطة، فلم يرفع نظره، ولو رفعه لرأى الحور العين، وعندما يرى الحور العين يقول:

تهون علينا في المعالي نفوسنا     ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهر

ونحن أناس لا توسط بيننـا     لنا الصدر دون العالمين أو القبر

فهو عندما يرفع نظره، ويرى الحور العين، ويرى القصور العالية والأنهار الجارية، والثمار الدانية، ويتذكر أنه في يوم من الأيام سوف يدخل هذه الجنة، وفي يوم من الأيام سوف يدعى إلى سوق المزيد، وفي يوم من الأيام سوف يدعى للمحادثة مع الله عز وجل، والمكالمة مع ربه، كما جاء في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة النصف لا تضامون في رؤيته) وكما جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما منكم إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) هذا المؤمن، أما العاجز فلا يستطيع؛ لأنه أَتْبَع نفسه هواها، ومع عجزه وضعفه وخسته ودناءة نفسه -أيضاً- يتمنى على الله الأماني، ويقول: أريد الجنة، تريد الجنة! الجنة لها طلاب، والطريق شاق.

يقول ابن القيم في الجواب الكافي وفي الفوائد: يا مخنث العزم! الطريق شاق، والعقبة كئود، قذف فيه في النار إبراهيم، وعرض فيه على السكين إسماعيل، وألقي فيه في الماء يونس، وشج فيه وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وبنيت عليه جماجم الشهداء، لو عرف من قتل في سبيل الله لسالت منه الجبال رءوسهم.

وهذا على المعاصي أربعة وعشرين ساعة، وهو يقول: الله غفور رحيم، إن شاء الله نحن على خير، يحسن الظن بربه ويسيء العمل مع الله.

يقول الحسن البصري في هذا: [إن قوماً غرهم حسن الظن بالله حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم -يقولون: نحسن الظن بالله- كذبوا والله لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل] لكنهم أساءوا الظن بالله، وظنوا أن الله يجزي الجنة على المعاصي فأساءوا العمل وهذا من سوء الظن بالله، أن تظن أن ربك يعطيك على السيئة حسنة، وهو يقول: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل:89-90].

فمن الآن يا أخي! لا تستسهل شيئاً ولا تستبسطه، تقول: لا أريد الدخان؛ لكن أريد الشيشة أخف منه، فليس هناك خيارات، ولا يوجد بدائل ولا أنصاف حلول، هناك إيمان وكفر، هناك إسلام، وهناك معاصٍ ونفاق، فأنقذ نفسك يا أخي! من الغيبة والنميمة والورق واللعب والمنكرات، وكن عبداً ربانياً، والتحق بربك، ولا تعمل عملاً يسوؤك غداً أن تراه.

يقول الحسن البصري رحمه الله: [اكنـز ما تود وتحب أن تراه] أما أن تكنـز عقارب وحيات وجمراً فهذا لا ينبغي، بل لا بد أن تكون من أهل الإيمان، الذين يعرفون كيف يغتنمون هذه الحياة، ولا يفرطون في شيء، محافظين على أمر الله عز وجل، هذا هو السؤال الأول.

السؤال الثاني: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65] أرسلت لكم الرسل، وأنزلت عليهم الكتب، وأمرتهم بتبليغكم ديني وشرعي، بينوا لكم الحرام، وأمروكم بالابتعاد عنه، وبينوا لكم الحلال وأمروكم بالسير فيه، فماذا أجبتموهم؟ قال الله عز وجل: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ [القصص:66] عميت عليهم لماذا؟ لأنهم ما أجابوا المرسلين، عميت عليهم الأخبار، وضاعت منهم الحجج، وفقدوا القدرة على الإجابة؛ لأنه بأي شيء يجيبون؟ هل يقولون: أجبنا المرسلين بالأغاني! أجبنا بالزنا! أجبنا باللعب واللهو! هل هذه إجابة؟ ليست هذه إجابة.

والأنبياء المرسلون هم نماذج بشرية، كانت تؤدي الدين وتنفذ الرسالات، في واقع العمل كقدوة، يقول الله عز وجل: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90]وخاتمهم وأفضلهم على الإطلاق محمد صلى الله عليه وسلم، وعندما تأتي لتتأمل سيرة كل نبي تجد أن كل نبي، كان على القمة في كل شيء، ثم تجمعت صفات كل الأنبياء كلها في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا أعطاه الله الشهادة العليا فقال: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] خلق عظيم من كل الناس، ليس هناك خلق في الأولين والآخرين إلا وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم القدر الأعلى منه صلوات الله وسلامه عليه.

الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو قومه

كان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل، بعد أن نزل قول الله عز وجل: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:2] الله أكبر! ما هذا الضمان؟ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الفتح:1]وفي الأخير قال: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً [الفتح:2] كان وقوف النبي صلى الله عليه وسلم في الليل، ليس وقوفاً كوقوفنا اليوم، القائم منا إذا وقف عشر دقائق أو ربع ساعة قال: أنا أقوم الليل، وهذا كثر الله خيره، على الأقل تشبه بالصالحين، وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان قال: (صففت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل فقرأ بالبقرة فقلت: يركع في المائة الأولى، يقول: فلم يركع، فقلت: يركع بالمائة الثانية فلم يركع، فقلت: يركع في آخر السورة، -انظروا البقرة ننتهي منها في مسجدنا في التراويح في الليلة السابعة ويعتبروننا مطولين، وهو في ركعة واحدة انتهى من البقرة- فقلت: يركع في آخر السورة فلم يركع، ثم افتتح بالنساء، فقلت: يركع في المائة الأولى فلم يركع، فقلت: يركع في نهايتها فلم يركع، ثم افتتح بآل عمران، فقلت: لعله يركع، يقول: فلم يركع إلا في نهاية سورة آل عمران) هذه أكثر من خمسة أو ستة أجزاء.

هذا الوقوف الطويل ماذا يفعل بقدم النبي صلى الله عليه وسلم؟ تتفطر، لأنه ثقل عليها، جسم وطول قيام حتى تشققت، ونحن اليوم تشققت أرجلنا من أمر آخر، الذين تشققت أقدامهم في المزارع والمعامل واللعب؛ لكن نحن لا. أقدامنا مثل قوالب الصابون.

لقد استغربت عائشة هذا الوضع وقالت: (يا رسول الله! أليس قد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ -عندك شهادة وضمانة أنك من أهل الجنة؛ لأن الله غفر لك ذنبك كله، فبماذا تنفعك الصلاة؟- قال: أفلا أكون عبداً شكوراً) أي: إذا غفر لي ربي هل يعني هذا أن أترك؟ لا؛ بل أزيد شكراً لله على مغفرته لي فصلوات الله وسلامه عليه.

وفي ليلةً من الليالي وبعد أن قطع الرسول صلى الله عليه وسلم الطريق من مكة إلى الطائف هارباً بدينه، ينشر دين الله ويريد أن يبلغه في الأرض، وصل إلى سوق عكاظ، وسوق عكاظ سوق كان الناس يجتمعون فيه، وكان مهرجاناً يتبادل فيه الشعراء قصائدَهم، وتقام فيه المدائح والأخبار، فاستغله النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا شأن الداعية أن يستغل مكان التجمع، ولا يقول: والله هؤلاء ليس فيهم خير، كما نسمع بعض الناس اليوم، إذا قلت له: تعال اجلس مع الشباب وألق عليهم موعظة، واجلس معهم، قال: لا يا شيخ! دعنا منهم، هؤلاء ليس فيهم خير.

سبحان الله! من هم هؤلاء الذين في النادي؟ إنهم أبناء المسلمين، يا أخي! فيهم خير، استغل وجودهم وتجمعهم وازرع فيهم الخير، لكن تجعل بينك وبينهم هوةً وحاجزاً وتتركهم ولا تدعوهم، هذا ليس من أسلوب الدعوة، ولا من شأن الأنبياء، فكان صلى الله عليه وسلم يستغل كل تجمعٍ لنشر دعوة الله، وإبلاغ دينه، فجاء إلى سوق عكاظ وصعد على حجر وقام وقال: (يا أيها الناس! فاجتمع الناس حوله فقال لهم: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) والناس يعرفون أنه صادق ولا يكذب، وهو لا يكذب على الناس فضلاً عن أن يكذب على ربه، وكيف يكذب وهم يلقبونه بالصادق الأمين.

ولكن اللعين أبا لهب عليه لعائن الله المتتابعة تبعه من مكة يطارده، ويوم رآه على الحجر واقفاً، قام بجانبه، وقال: من هذا الذي تكلم؟ قالوا: ابن أخيك، قال: لو كان صادقاً لصدقته، إنه كذاب. قالوا: عمه أعرف الناس به، فمادام عمه مكذبه فنحن كذلك مكذبوه، فكذبوه كلهم وطردوه، بل أغروا به السفهاء، وأمروهم برجمه بالحجارة؛ حتى سال الدم من عقبه الشريف صلوات الله وسلامه عليه، وخرج من الطائف، وجلس عند حائط ببستان من البساتين، ونادى بدعاء قال فيه: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس) (ضعف قوتي) ليس له قوة، (وقلة حيلتي) لم يعد عندي شيء، فماذا أعمل؟ طرقت كل باب، وسلكت كل وسيلة، وجئت إلى كل مجتمع، وتكلمت بكل بيان، ولم يعد عندي شيء يا رب؟! لكن لم يبق إلا أن أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي، و-أيضاً- ليس لي وضع اجتماعي يحميني، لدرجة أن الذي يرجمني الأطفال وليس الكبار فقط: (إلى من تكلني، أنت رب المستضعفين، إلى قويٍ ملكته أمري، أم إلى بعيدٍ يتجهمني، إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح به أمر الدنيا والآخرة أن ينـزل بي سخطك، أو يحل بي عقابك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك).

فيقول صلى الله عليه وسلم إن كان ما يأتيني من التكذيب والإهانة ناتجاً عن شيء غير غضبك فلا أبالي، المهم ألا يكون ذلك عن غضبٍ عليَّ يا ربِّ! فكان يخاف من غضب الله، وهو في المعاناة الداخلية النفسية، وبعض الشباب أو الدعاة اليوم يقول له بعض الناس كلمة فقط، تجده ينفعل ويثور ويضارب، أنا على الحق، سبحان الله! ما دام سرت في طريق الهداية لم يعد لك عرض، ولا نفس، ولا كرامة، قدمها قرباناً إلى الله.

ومع هذا ما انتقم لنفسه صلّى الله عليه وسلم، فيرسل الله له ملك الجبال، ومعه جبريل، ويقول جبريل: (السلام يقرؤك السلام يا محمد!.. ويقول: هذا ملك الجبال إن شئت أن يطبق عليهم الأخشبين -الجبلين فتبلعهم الأرض- فقال: لا. لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يقول: لا إله إلا الله) الله أكبر! هذه تكشف لك نفسية النبي صلى الله عليه وسلم وأنه رسول حق.

والله لو كان شخص منا، فسيقول: نعم فهؤلاء ليس فيهم خير.

صبر نوح عليه السلام على دعوة قومه

لقد بذل نوح عليه السلام وسائل عديدة من أجل الدعوة، لا يستطيع أن يبذلها أحد، وظل تسعمائة وخمسين عاماً يدعونه، وبعض الناس يقول: والله يا شيخ! إن لي معه شهراً وأنا أدعوه، والله ليس فيه خير، فنوح جلس تسعمائة وخمسين سنة، وبعد ذلك عدّد جميع أساليب ووسائل الدعوة: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ [نوح:5-7] إذا قام يحدث وضعوا أيديهم في أذانهم، فمن يحدث وهم قد وضعوا أيديهم في أذانهم؟ وأنتم لو تخليتم عني، سأقول: بما أنهم لا يريدون الذكر فليذهبوا في داهية.

لكن نوحاً لم يقل هذا، إنما قام يحدث وهم جالسون وهو يعرف أنهم لا يسمعون، ولكنهم يرونه، فقال: لعلهم إذا رأوني وأنا أتحدث يرحموني، فيسمعون كلام لله عز وجل، فماذا يعملون؟ يستغشون ثيابهم، كل شخص يغطي وجهه، ويقولون: لا نسمعك ولا نراك: جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً [نوح:7-9] دعوة فردية وجماعية، ودعوة سرية وعلنية: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ [نوح:10] لفت نظرهم إلى قدرة الله وعظمته إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ [نوح:10-11].

لكن بعد أن يئس وعرف أن بيئتهم غير صالحة، قال: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً [نوح:26] وكان مسوغاً في دين نوح أن يدعو عليهم؛ لأنه ليس خاتم الأنبياء، لكن ليس مسوغاً في دين نبينا صلى الله عليه وسلم أن يدعو على أحد، ولهذا لا يدعو ولا تهلك هذه الأمة باستئصال، لماذا؟ لا بد من بقاء هذا الدين وهذه الرسالة إلى يوم القيامة.

قال: (إني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده) فأخرج الله من أصلابهم من يعبده، وحقق الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وعده، وأمله، وأمنيته، فأخرج الله من أصلاب الكفار: العاص بن وائل أخرج من صلبه عمرو بن العاص، والوليد بن المغيرة أخرج من صلبه خالد بن الوليد ، وأبو جهل أخرج الله من صلبه عكرمة بن أبي جهل ، وهكذا.

فالسؤال: مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65] هؤلاء رسل اطلعوا على ما لم تطلعوا عليه، وعلموا ما لم تعلموا، وأدوا هذا الدين في واقع الحياة -الواقع العملي- كنماذج بشرية تطيق تطبيق هذا الدين فماذا أجبتموهم؟

هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قلت لكم، هذا وضعه وصلته بربه مغفوراً له، ونوح عليه السلام لما ركب الفلك وقال للناس: اركبوا وركب مع أهل الإيمان وكان قد سمع من وعد الله: فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ [المؤمنون:27] فظن نوح أن الأهلية هنا هي: أهلية النسب، فقال للناس: اركبوا وقال لولده: يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا [هود:42] لأنه من أهله: وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ [هود:42] فرفض، وقبل أن يغرق توسط نوح إلى ربه لولده: فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ [هود:45] وأنت قد قلت: أركبهم، ولكن أبى أن يركب، أريدك يا رب أن تنجيه، فقال الله له مصححاً النظرة في كلمة أهلك: قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود:46] رغم أنه ولده، لكن الله يقول: ليس من أهلك، إن أهلك أهل عقيدتك، ولو كان من غير صلبك، وإن أهلك من هو على مثل ما أنت عليه من الدين، أما ولدك وإن كان من صلبك، فلا تربطك به رابطة إذا كان على غير دينك: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22].

فمستحيل أن تجد شخصاً عنده إيمان بالله واليوم الآخر، وعنده مودة لمن يحاد الله ورسوله، ثم قال الله عز وجل: وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22] مهما كانت قرابتهم: أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ [المجادلة:22] ومن كتب الله في قلبه الإيمان فلا يمحوه أحد: وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة:22] مثبتون ومؤيدون من الله، قال الله: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود:46] الله أكبر! هذا الكلام لنبي من أولي العزم، يقول الله له على هذه الكلمة فقط: (إن ابني من أهلي) ولم يقل: يا رب! نجه، وإنما أذكرك يا رب بوعدك: وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود:45-46] هذا كلام من الله يوجه لنوح، انظروا كيف البراءة من الذنب والعودة إلى الله: قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [هود:47].

وقيل بعد هذا: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ [هود:48] فهذا موقف نوح مع الله.

نماذج أخرى من الرسل ودعوتهم

هذا موسى عليه السلام لما خرج من مصر خائفاً يترقب، وجاء إلى الماء: وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ [القصص:23] أي: تردان غنمهما عن الماء فسألهما قال: لم لا تسقون، ما خطبكما؟: قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ [القصص:23] فقالتا: لا نزاحم الرجال، فكأنه يقول لهما: بما أنكما لا تزاحمان الرجال، فلماذا تخرجون أنتما، ولا يخرج غيركم؟ فبينّا العذر: وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ [القصص:23] ونحن ننتهز الفرص التي ليس فيها تجمعات، حين يصدر الناس، ونأتي لنسقي، فهو رأى أن من الإحسان والبر، أن يسقي لمثل هاتين الفتاتين الطاهرتين العفيفتين، فسقى لهما بدون أجر، ثم تولى إلى ظل شجرة، وماذا قال وهو يدعو ربه وهو بوضع نفسي متعب ومطارد ومحكوم عليه بالإعدام وليس عنده شيء؟ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24].

وإبراهيم عليه السلام يقول: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ [الشعراء:87] كيف يخزيك ربي يا إبراهيم، وأنت أبو الموحدين؟ يقول: لا تخزني يوم القيامة، ولم يقل: أدخلني الجنة، وإنما قال: ولا تخزني: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].

وهذا عيسى عليه السلام يقول الله له يوم القيامة: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة:116] والله يعلم أن عيسى لم يقل ذلك؛ لكن ليقرره في عالم الواقع، أما الكفرة الذين اتخذوه إلهاً وأمه من دون الله فإنهم عملوا شيئاً لم يأمر الله به، فيقول له: قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة:116] ثم قال: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة:117] هؤلاء الأنبياء مغفور لهم، مجتبين مصطفين أخيار، وهم الذين طبقوا الدين، ونحن الذين بعدهم نسأل عنهم: مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65].

كان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل، بعد أن نزل قول الله عز وجل: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:2] الله أكبر! ما هذا الضمان؟ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الفتح:1]وفي الأخير قال: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً [الفتح:2] كان وقوف النبي صلى الله عليه وسلم في الليل، ليس وقوفاً كوقوفنا اليوم، القائم منا إذا وقف عشر دقائق أو ربع ساعة قال: أنا أقوم الليل، وهذا كثر الله خيره، على الأقل تشبه بالصالحين، وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان قال: (صففت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل فقرأ بالبقرة فقلت: يركع في المائة الأولى، يقول: فلم يركع، فقلت: يركع بالمائة الثانية فلم يركع، فقلت: يركع في آخر السورة، -انظروا البقرة ننتهي منها في مسجدنا في التراويح في الليلة السابعة ويعتبروننا مطولين، وهو في ركعة واحدة انتهى من البقرة- فقلت: يركع في آخر السورة فلم يركع، ثم افتتح بالنساء، فقلت: يركع في المائة الأولى فلم يركع، فقلت: يركع في نهايتها فلم يركع، ثم افتتح بآل عمران، فقلت: لعله يركع، يقول: فلم يركع إلا في نهاية سورة آل عمران) هذه أكثر من خمسة أو ستة أجزاء.

هذا الوقوف الطويل ماذا يفعل بقدم النبي صلى الله عليه وسلم؟ تتفطر، لأنه ثقل عليها، جسم وطول قيام حتى تشققت، ونحن اليوم تشققت أرجلنا من أمر آخر، الذين تشققت أقدامهم في المزارع والمعامل واللعب؛ لكن نحن لا. أقدامنا مثل قوالب الصابون.

لقد استغربت عائشة هذا الوضع وقالت: (يا رسول الله! أليس قد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ -عندك شهادة وضمانة أنك من أهل الجنة؛ لأن الله غفر لك ذنبك كله، فبماذا تنفعك الصلاة؟- قال: أفلا أكون عبداً شكوراً) أي: إذا غفر لي ربي هل يعني هذا أن أترك؟ لا؛ بل أزيد شكراً لله على مغفرته لي فصلوات الله وسلامه عليه.

وفي ليلةً من الليالي وبعد أن قطع الرسول صلى الله عليه وسلم الطريق من مكة إلى الطائف هارباً بدينه، ينشر دين الله ويريد أن يبلغه في الأرض، وصل إلى سوق عكاظ، وسوق عكاظ سوق كان الناس يجتمعون فيه، وكان مهرجاناً يتبادل فيه الشعراء قصائدَهم، وتقام فيه المدائح والأخبار، فاستغله النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا شأن الداعية أن يستغل مكان التجمع، ولا يقول: والله هؤلاء ليس فيهم خير، كما نسمع بعض الناس اليوم، إذا قلت له: تعال اجلس مع الشباب وألق عليهم موعظة، واجلس معهم، قال: لا يا شيخ! دعنا منهم، هؤلاء ليس فيهم خير.

سبحان الله! من هم هؤلاء الذين في النادي؟ إنهم أبناء المسلمين، يا أخي! فيهم خير، استغل وجودهم وتجمعهم وازرع فيهم الخير، لكن تجعل بينك وبينهم هوةً وحاجزاً وتتركهم ولا تدعوهم، هذا ليس من أسلوب الدعوة، ولا من شأن الأنبياء، فكان صلى الله عليه وسلم يستغل كل تجمعٍ لنشر دعوة الله، وإبلاغ دينه، فجاء إلى سوق عكاظ وصعد على حجر وقام وقال: (يا أيها الناس! فاجتمع الناس حوله فقال لهم: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) والناس يعرفون أنه صادق ولا يكذب، وهو لا يكذب على الناس فضلاً عن أن يكذب على ربه، وكيف يكذب وهم يلقبونه بالصادق الأمين.

ولكن اللعين أبا لهب عليه لعائن الله المتتابعة تبعه من مكة يطارده، ويوم رآه على الحجر واقفاً، قام بجانبه، وقال: من هذا الذي تكلم؟ قالوا: ابن أخيك، قال: لو كان صادقاً لصدقته، إنه كذاب. قالوا: عمه أعرف الناس به، فمادام عمه مكذبه فنحن كذلك مكذبوه، فكذبوه كلهم وطردوه، بل أغروا به السفهاء، وأمروهم برجمه بالحجارة؛ حتى سال الدم من عقبه الشريف صلوات الله وسلامه عليه، وخرج من الطائف، وجلس عند حائط ببستان من البساتين، ونادى بدعاء قال فيه: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس) (ضعف قوتي) ليس له قوة، (وقلة حيلتي) لم يعد عندي شيء، فماذا أعمل؟ طرقت كل باب، وسلكت كل وسيلة، وجئت إلى كل مجتمع، وتكلمت بكل بيان، ولم يعد عندي شيء يا رب؟! لكن لم يبق إلا أن أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي، و-أيضاً- ليس لي وضع اجتماعي يحميني، لدرجة أن الذي يرجمني الأطفال وليس الكبار فقط: (إلى من تكلني، أنت رب المستضعفين، إلى قويٍ ملكته أمري، أم إلى بعيدٍ يتجهمني، إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح به أمر الدنيا والآخرة أن ينـزل بي سخطك، أو يحل بي عقابك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك).

فيقول صلى الله عليه وسلم إن كان ما يأتيني من التكذيب والإهانة ناتجاً عن شيء غير غضبك فلا أبالي، المهم ألا يكون ذلك عن غضبٍ عليَّ يا ربِّ! فكان يخاف من غضب الله، وهو في المعاناة الداخلية النفسية، وبعض الشباب أو الدعاة اليوم يقول له بعض الناس كلمة فقط، تجده ينفعل ويثور ويضارب، أنا على الحق، سبحان الله! ما دام سرت في طريق الهداية لم يعد لك عرض، ولا نفس، ولا كرامة، قدمها قرباناً إلى الله.

ومع هذا ما انتقم لنفسه صلّى الله عليه وسلم، فيرسل الله له ملك الجبال، ومعه جبريل، ويقول جبريل: (السلام يقرؤك السلام يا محمد!.. ويقول: هذا ملك الجبال إن شئت أن يطبق عليهم الأخشبين -الجبلين فتبلعهم الأرض- فقال: لا. لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يقول: لا إله إلا الله) الله أكبر! هذه تكشف لك نفسية النبي صلى الله عليه وسلم وأنه رسول حق.

والله لو كان شخص منا، فسيقول: نعم فهؤلاء ليس فيهم خير.


استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة اسٌتمع
كيف تنال محبة الله؟ 2926 استماع
اتق المحارم تكن أعبد الناس 2925 استماع
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً 2803 استماع
أمن وإيمان 2674 استماع
حال الناس في القبور 2674 استماع
توجيهات للمرأة المسلمة 2602 استماع
فرصة الرجوع إلى الله 2570 استماع
النهر الجاري 2474 استماع
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله 2465 استماع
مرحباً شهر الصيام 2397 استماع