هذا الحبيب يا محب 94


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

ما زلنا مع أحداث غزوة الفتح ..

قال: [المجرمون الثمانية] ما سبب إجرامهم؟ لما فتح الله على رسوله مكة ودخلها بجيش مكون من عشرة ألف مقاتل، وانهزم المشركون، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متواضع، تكاد لحيته تصيب قربوش سرجه، ولما دخل وجد المشركين قد تجمعوا في المسجد الحرام، فقال: ( يا معشر قريش! ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً! أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء )، مع ما عانى من ظلمهم وشرهم واعتدائهم، ولكن تجلت في رسولنا صلى الله عليه وسلم الرأفة والرحمة، والله يقول: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].

اللهم إلا هذه المجموعة التي عانى منها المؤمنون معاناة شديدة، وهم ما يعرفون بالمجرمين الثمانية، فهيا نسمع عنهم ما حصل لهم.

قال: [لم يشمل ذلك العفو العام] وهو: ( اذهبوا فأنتم الطلقاء ) [ثمانية مجرمين وأربع نسوة مجرمات.

فالرجال الثمانية هم:

عكرمة بن أبي جهل ] ورضي الله عن عكرمة فقد كانت له مواقف في فتح الشام، وعكرمة لنا معه حادثة قصيرة، ولكن قبل ذلك نذكر قصة شبيهة بقصته وهي قصة يونس بن متى عليه السلام، وذلك أنه لما شرد من دعوته وفر من قومه لما عاناه وقاساه معهم، ووجد من الصلف والإعراض، قال: أترككم لله، وهرب، فلما وجد سفينة تكاد أن تقلع ركب فيها، فنادى ربان السفينة بأن حمولتها كبيرة: فإما أن تختاروا من تختاروا وتلقوه في البحر، أو تغرقوا كلكم، فما كان منهم إلا أن استهموا -أي: اقترعوا- فخرجت القرعة على يونس عليه السلام، فأخذوه برجليه ورموا به في البحر، فصدر أمر الله عز وجل إلى سمكة بأن تفتح فاها لتلتقم يونس بن متى، فظل يسبّح الله تعالى في بطنها قائلاً: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، فصدر أمر الله إلى السمكة بأن تقذفه إلى شاطئ البحر، فقذفته، وأُنبت عليه شجرة من يقطين فظللته، وكانت غزالة تأتيه من على الجبل فتدني نفسها منه ليرضع من ثديها، وقد كان مريضاً يكاد لحمه يتمزق من حرارة بطن الحوت، واقرأوا لذلك: فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [الصافات:145-148]..

هذه قصة يونس بن متى. لم حوسب بهذا؟ لأنه هرب وما صبر، ولو صبر لكان خيراً ولكن جزع بعد أن عانى من قومه ما عانى من الصلف والإعراض وعدم الاستجابة فهرب، ولكن الله أنقذه بقوله: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، وما من مؤمن ولا مؤمنة يصاب بنكبة أو شدة فيفزع إلى الله بهذا الذكر ويواصله الليل والنهار إلا فرج الله ما به.

أما عكرمة رضي الله عنه وهو ابن أبي جهل ، لما مات أبوه في غزوة بدر تقمص ثياب أبيه وأصبح في شره، فمن هنا لم يستطع أن يطأطأ رأسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فهرب إلى البحر، فلما ركب البحر جاءت عواصف وأمواج، فقال الملاح أو ربَّان السفينة: ادعوا الله وأخلصوا له الدعاء لينجيكم، أي: ادعوا الله وحده لا هبل ولا غيره! فقال عكرمة : أعد ما تقول. فقال: قلت لكم: ادعوا الله لينجيكم من الغرق ولا تذكروا اللات ولا العزى ولا مناة ولا صنم، فقال: هذا الذي هربت أنا منه فأعود إليه؟! والله لترجعن بي إلى شاطئ البحر وأذهب إلى محمد فأصافحه، يعني: إذا كان ولا بد من لا إله إلا الله فلم أهرب أنا؟!

وقد ذكر الله عن المشركين إخلاصهم له عند ركوب البحر، فقال تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت:65]، وكانت عادة الجاهليين في الجاهلية، إذا أصابتهم النكبة فزعوا إلى الله وحده؛ لأنهم لا يعرفون عن الآلهة أنها تنقذهم، فإذا اشتد بهم الكرب أو الخطب أو المرض لا يعرفون إلا الله. فعاد عكرمة بن أبي جهل وهو أحد الثمانية الذين لهم حكمهم.

قال: [و صفوان بن أمية بن خلف وعبد الله بن سعد بن أبي السرح وعبد الله بن خطل والحويرث بن نقيذ بن وهب ومقيس بن صبابة وعبد الله بن الزبعري وهبار بن الأسود ؛ إذ كان هؤلاء أشد عداوة وأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم من غيرهم، ولذا أمر] الرسول صلى الله عليه وسلم [بقتلهم قبل توبتهم، وقد تاب وأسلم وحسن إسلامه كل من عكرمة وصفوان وعبد الله بن سعد بن أبي السرح وعبد الله بن الزبعري ، وقتل الأربعة الباقون كفراً، فإلى جهنم وبئس القرار] أبوا أن يتوبوا.

وقال عبد الله بن الزبعري لما أسلم شعراً يعتذر فيه:

يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت إذ أنا بور] أي: هالك بالكفر.

[إذ أباري الشيطان في سنن الغيِّ ومن مال ميله مثبور] اعتراف بواقعه، وتعرفون المباراة، يعني: يكاد يكون أقوى من الشيطان في الضلال.

[آمن اللحم والعظام لربي ثم قلبي الشهيد أنت النذير] آمن بعظمه ولحمه وقلبه، فرضي الله عنك يا ابن الزبعري .

قال: [وأما النسوة فهن هند بنت عتبة وسارة مولاة عمرو بن عبد المطلب وقينتا عبد الله بن خطل ، فأسلمت هند وحسن إسلامها] وهي امرأة أبي سفيان أم معاوية رضي الله عنهم أجمعين [وكذا إحدى القينتين] أي: الجاريتين [والاثنتان الأخريان قتلتا كافرتين، فإلى غضب الله وأليم عذابه] حتى النساء نجا منهن اثنتان وهلكن اثنتان؛ لأن القضاء الإلهي قضى بهذا.

قال: [البيعة] على الطريقة النقشبندية أم التجانية؟ سبحان الله! أحدث المسلمون بيعات لرجال الطرق والتصوف، والبيعة لا تكون إلا لإمام واحد يطبق شرع الله وكتابه، على السمع والطاعة فيما أمر الله به ونهى عنه، لكن لما تمزقنا وأصبحنا دويلات، صار كل شيخ عنده مجموعة من العبيد يخدمونه ويبايعونه، متى تم هذا؟ لما أعرض المسلمون عن القرآن والسنة، وحولوا القرآن إلى الموتى والمقابر، فهبطوا وتمزقوا، فلعبت بهم الشياطين حتى في البيعة.

قال: [البيعة على الإسلام:

ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا] أي: جبل الصفا [للبيعة] ما في هناك سرادق من ذهب ولا من حطب، فأين يجلس؟ جلس في مكان عال وهو جبل الصفا، وإذا حججتم إن شاء الله وعلوتم عليه اذكروا هذه الحادثة [و عمر بن الخطاب تحته] كان الرسول صلى الله عليه وسلم عال فوق الجبل وعمر تحته يتولى الدفاع عنه [وتقدم الرجال يبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام] ما هو على الطريقة النقشبندية، وبعض الإخوان يقولون: لماذا يتكلم الشيخ على الطريقة النقشبندية؟ فأقول: لأنه ليس عندنا -والله- سوى طريق واحد، وهو طريق محمد صلى الله عليه وسلم ألا وهو الإسلام، فأهل القرية كلهم على منهج واحد، قلبهم واحد، إسلامهم واحد، لا فرقة بينهم أبداً في هذه الأمة، إلا إذا هبطت وتمزقت وأكلتها الشياطين.

قال: [فكان يبايعهم على السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا] وقدروا عليه [ولما فرغ من بيعة الرجال] أي: رجال أهل مكة الذين قال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء وجاءوا ليسلموا [جاءت النساء للبيعة، وكانت بينهن هند بنت عتبة متنكرة] في لباسها، فالرجال يتنكرون والمرأة كذلك تتنكر [لما صنعت بـحمزة رضي الله عنه] فهي التي أعطت وحشي ما أعطته من المال ليقتل حمزة رضي الله عنه؛ فتشفي صدرها، ولما قُتل حمزة شقت بطنه وأخرجت كبده فمضغتها.

قال: [فقال لهن] الحبيب صلى الله عليه وسلم [( تبايعنني على ألا تشركن بالله شيئاً )] أي: على ألا تشركن يا نساء بالله شيئاً من الشرك، حتى ولو انحناء بالرأس؛ إذ لا إله إلا الله، فلا يعبد إلا هو بجميع أنواع العبادات [قالت هند : إنك والله لتأخذ علينا ما لا تأخذه على الرجال فسنؤتيكه] يعني: نفعل ونعطيك ما طلبت [( قال: ولا تسرقن ) قالت: والله إن كنت لأصيب من مال أبي سفيان الهنة والهنة] خافت أن تبايع على عدم السرقة وهي تأخذ من مال زوجها الشيء التافه، فالهنة هي: الشيء الصغير الذي لا يعرف له اسم [فقال أبو سفيان وكان حاضراً: أما ما مضى فأنت منه في حلّ] يعني: سامحناك عليه، أما في المستقبل فلا، لا تسرقي من مالي [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهند ؟] ولم يعرفها لأنها تنكرت، لكن لما تكلم زوجها عرفها [قالت: أنا هند فاعف عما سلف عفا الله عنك] دعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

ووالله! لو جمعتم جامعياتكم جميعاً في الشرق والغرب من دكاترة وغيرهن ما كن هنداً في فقهها وفهمها وقوة إيمانها، ووالله ما درست في كتَّاب ولا مدرسة، لا متوسطة ولا ثانوية ولا جامعة لا في بلاد العرب ولا العجم.

ومن قال: كيف؟ نقول: أرونا نتائج تلك الدراسات، ماذا أنتجت؟

أو لعل قائلاً يقول: إذاً تريد أن يبقى النساء جاهلات يا شيخ؟

إي والله نريد أن يبقين مؤمنات صالحات يعرفن كيف يعبدن الله، يعبدنه في بيوت الرجال ويربين البنين والبنات، لا نريد تعليماً لوظيفة، فتصبح تجري معصبة إليها، تاركة أولادها وبيتها وزوجها، وأعوذ بالله من هذه الحال! ما أسوأها، إنها وراثة عن الغرب الكافر، أردنا أن تكون الفتاة المؤمنة كالفتاة الألمانية والطلايانية، ودفعنا إلى هذا المجوس واليهود والنصارى، أرباب الكيد لأمة الإسلام؛ حتى تستوي معهم في الهبوط والسقوط، ولم تتميز؟!

[قال: ( ولا تزنين )] يخاطب النسوة [قالت: وهل تزني الحرة؟!] ما كان يخطر ببالهن أن الحرة تزني أبداً في بلاد العرب، هذه واحدة.

الثانية: ما كان يعرف في بلاد العرب شيء اسمه اللواط، ونزو الذكر على الذكر قط، ومن مظاهر ذلك أنهم لا ينزون الحمار على الفرس؛ فلهذا لم تكن بغلة في تلك الديار إلا الدلدل، التي أهداها حاكم مصر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والغرب عندهم أندية للواط!!

[قال: ( ولا تقتلن أولادكن )، قالت: ربيناهم صغاراً وقتلتهم يوم بدر كباراً، فأنت وهم أعلم] يعني: ما عندنا أولاد، ومن أين الأولاد حتى نقتلهم؟ ولا شك أن الرسول تبسم عند هذا [فضحك عمر ] لما قالت ما قالت ضحك عمر [قال: ( ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن )، قالت: والله إن إتيان البهتان لقبيح ولبعض التجاوز أمثل قال: ( ولا تعصين في معروف ) قالت: ما جلسنا هذا المجلس ونحن نريد أن نعصيك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـعمر بن الخطاب : بايعهن. واستغفر لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان صلى الله عليه وسلم لا يمس النساء ولا يصافح امرأة، ولا تمسه امرأة؛ إلا امرأة أحلها الله له] من زوجة [أو ذات محرم منه].

وعمر تولى البيعة؛ لأن البيعة أن يأخذ الكف على الكف ويبايع، والرسول لا يصافح النساء، وهذه البيعة جاءت في سورة الممتحنة: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ [الممتحنة:12]، على ماذا؟ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الممتحنة:12].

قال: [الإنسان قبل الإيمان] كيف يكون الإنسان قبل الإيمان؟

[ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيعة الرجال وبيعة النساء، كان قد آن أوان الظهر، فأمر بلالاً أن يطلع على سطح البيت الحرام ويؤذن، وقريش فوق الجبال وسطوح البيوت، فمنهم من يطلب الأمان، ومنهم من أُمِّن، فلما أخذ بلال في الأذان وقال: أشهد أن محمداً رسول الله، قالت جويرية بنت أبي جهل ] أخت عكرمة [لقد أكرم الله أبي حين لم يشهد نهيق بلال فوق الكعبة] هذه شيطانة! [وقالت: لقد رفع الله ذكر محمد] اعترفت بعد أن قالت -أولاً-: لقد أكرم الله أبي إذ لم يشهد أو يسمع أذان بلال فوق الكعبة، فقالت: لقد أكرم الله محمداً ورفع ذكره. وحقاً رُفع ذكره فما من منارة في العالم إلا وتقول: أشهد أن محمداً رسول الله.

قالت: [وأما نحن فسنصلي] لا محالة [ولكن لا نحب من قتل الأحبة] جنية هذه! [وقال خالد بن أسد : لقد أكرم الله أبي فلم ير هذا اليوم، وقال الحارث بن هشام : ليتني مت قبل هذا اليوم، وقال غيرهم مثل قولهم، ولكنهم أسلموا وحسن إسلامهم، فأشرقت نفوسهم بنور الإيمان وذهبت ظلمة الكفر والجهل التي من جرَّائها قالوا ما قالوا من كلمات الكفر التي يرضى المؤمن أن يصلّب ويقطع ولا يرضى أن يقولها أبداً] وكانوا قالوها هذا في يوم الفتح في اليوم الذي شهدوا فيه الإسلام، لكن ما هي إلا ساعات وقد أسلموا وحسن إسلامهم.

قال: [ذكريات فيها عبر وعظات:

أولاً: قالت أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها] بنت عم الرسول صلى الله عليه وسلم [لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة فر إليَّ رجلان من أحمائي من بني مخزوم، وكانت أم هانئ عند هبيرة بنت أبي وهب المخزومي ، قالت: فدخل عليَّ أخي علي بن أبي طالب وقال: والله لأقتلنهما، فأغلقت عليهما باب بيتي، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل من جفنة] جفنة ماء [وإن فيها لأثر العجين وفاطمة بنته تستره بثوبه، فلما اغتسل أخذ ثوبه فتوشح به، ثم صلى ثماني ركعات من الضحى] وتسمى صلاة الفتح أيضاً.

قالت: [ثم انصرف إليَّ فقال: مرحباً وأهلاً يا أم هانئ ما جاء بك؟ فأخبرته خبر الرجلين وخبر علي ] لما قال: لأقتلنهما [فقال: ( أجرنا من أجرت وأمَّنا من أمنت فلا يقتلهما )].

وكلمة الجوار انتهت الآن وأصبح لا معنى لها، لا توجد في الشرق ولا في الغرب، إلا ما كان من اللجوء السياسي، وهنا امرأة ذات دين ومعرفة أمَّنت اثنين ممن يستحقون العذاب والقتل فعفا الله عنهما إكراماً لها.

[ثانياً: لما طاف صلى الله عليه وسلم بالبيت دعا عثمان بن طلحة بن أبي طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة فدخل فيها وصلى، وأخرج منها بعض الصور والتماثيل] كان فيها صور وفيها تماثيل من عهد الجاهلية، فأخرجها كلها ورماها [فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة بيده، فقال: يا رسول الله! اجمع لنا الحجابة مع السقاية، صلى الله عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أين عثمان بن طلحة؟ فدعي له، فقال: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء)].

[ثالثاً: لما كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت يوم الفتح كان فضالة بن عمير بن الملوح فكر في قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف، فلما دنا من الرسول صلى الله عليه وسلم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: أفضالة ؟ قال: نعم، فضالة يا رسول الله، قال: ماذا كنت تحدث به نفسك؟ قال: لا شيء كنت أذكر الله، قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: استغفر الله، ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه، فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه] صلى الله عليه وسلم [قال فضالة : فرجعت إلى أهلي فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها، فقالت: هلم إلى الحديث] المرأة التي كان يحدثها [فقلت: لا، وانبعثت أقول:

قالت هلم إلى الحديث فقلت لا يأبى عليك الله والإسلام

لو ما رأيت محمداً وقبيله بالفتح يوم تكسّر الأصنام

لرأيت دين الله أضحى بيِّناً والشرك يغشى وجهه الإظلام].

أي: أن هذا الرجل جاء ليقتل الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يطوف، فلما دنا منه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أفضالة أنت؟ قال: نعم فضالة يا رسول الله! قال: ماذا كنت تحدث به نفسك؟ -عرف الرسول هذا بوحي من الله عز وجل- فقال: لا شيء كنت أذكر الله فقط. وكذب! فضحك النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يستطيع أن يقول: كنت أحدث نفسي بقتلك، أو كيف أتمكن من قتلك. ثم قال: استغفر الله يا فضالة ، ووضع يده الشريفة على صدر فضالة فسكن قلبه، لأنه كان يضطرب، ولعله خاف من الموت، فقد انكشف أمره، فلما وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على صدره سكن قلبه، فكان فضالة يقول في حياته بعد هذه الحادثة: والله ما رفع يده عن صدري -أي: النبي صلى الله عليه وسلم- حتى ما من خلق الله شيء أحب إليَّ منه. يعني: لا يوجد شيء أحب إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا بعد علم رسول الله بأنه يريد قتله، ولم يقل: خذوا هذا الماكر! وإنما وضع يده على صدره فهدأ وسكن قلبه.

قال فضالة : فرجعت إلى أهلي -أي: إلى بيته- فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها في الجاهلية، وليس أنه يزني بها ولكن كان يجالسها ويتحدث إليها، فيقضي ساعة معها أو ما شابه .. قال: فقالت: هلم إلى الحديث كالعادة، فقلت: لا. أي: انتهى الحديث الباطل، ثم انبعث يقول شعراً:

قالت هلم إلى الحديث فقلت لا يأبى عليك الله والإسلام

لو ما رأيت محمداً وقبيله بالفتح يوم تكسّر الأصنام

لرأيت دين الله أضحى بيِّناً والشرك يغشى وجهه الإظلام

[رابعاً: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد يوم الفتح وذلك يوم عشرين من رمضان أتى أبو بكر بوالده أبي قحافة يقوده] لأنه كبير السن [فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه )] ونحن ما سمعنا بهذا الحديث إلا اليوم طوال حياتنا فكيف نتعلم [قال أبو بكر : يا رسول الله! هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي إليه أنت، فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم بين يديه، ثم مسح صدره ثم قال: أسلم، فأسلم، وقال لـأبي بكر : ( غيروا هذا من شعره، وجنبوه السواد )، وكان شعر أبي قحافة أبيض كأن رأسه ثغامة] والثغام هو نبات جبلي أشد ما يكون بياضاً إذا أمحل.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ..

معاشر المستمعين والمستمعات! الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: ( من حج هذا البيت ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه )، فكيف تدري أو تعرف أنه غفر ذنبك في حجك وعدت بلا ذنب ولا سيئة؟ أو كيف تعرف أنك قُبلت أو لم تقبل؟ هل تريد أن تعرف نفسك؟

إذا عدت إلى بلدك فانظر إلى نفسك، فإذا وجدت نفسك تغيَّرت عن ما كنت تأتيه من الباطل أو اللهو أو العبث أو الكذب أو الخيانة أو العجب أو الكبر.. فاعلم أن الله قد غفر لك ذنبك، وطابت نفسك، فأصبحت كأنفس الأطفال ليس عليها درن ولا وسخ، وإن رجعت أو خرجت من مكة فعدت إلى ما كنت تفعله من الذنوب والآثام فاعلم أن نفسك ما طهرت ولا طيبت، فتب إلى الله عز وجل.

وقد ذكرت لكم أيام كان الحج لا يأتيه إلا الفحول، عندما كان يكلف من المال والمشاق والأتعاب والآلام الكثير، فيبقى المرء في الباخرة ستة أشهر، ثلاثة أشهر ذهاباً وثلاثة أشهر إياباً، وكانوا ينزلون فيركبون على الإبل ويمشون على أرجلهم بين مكة والمدينة، فيعودون بأنفس طيبة طاهرة، وعندما يعود إلى بلده يعرف بسلوكه أنه قد حج، وأهل القرية أو أهل الحي يقولون: أين الحاج الفلاني؟ لما عُرف عنه من الاستقامة والطهر والصفاء نتيجة حجه، أما الآن فيأتي الرجل بالطائرة كالملائكة وينزل في فندق ويأكل الحلوى والعسل ولا مشقة ولا تعب ..!

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ..