فتاوى نور على الدرب [403]


الحلقة مفرغة

السؤال: عندي أوان كثيرة تحمل آيات قرآنية كريمة والبعض من الأدعية المأثورة, وقال لي بعض الناس: إن استعمالها أو امتلاكها حرام, ويجب علي أن أحرقها, فقمت بإحراقها؛ خشية عقاب الله عز وجل، وبعد أن أحرقت البعض منها ومزقت البعض الآخر لم أعرف أين أضع المخلفات، هل أقوم بدفنها أم أرميها بسلة مهملات؟ أرجو التوجيه في هذا مأجورين.

الجواب: هذه الأوراق التي كانت فيها آيات من كتاب الله عز وجل وأحرقتها بمشورة من بعض الناس يمكن أن تكمل إحراقها أيضاً ثم تدفنها؛ لأن ذلك أبلغ في البعد عن امتهانها، اللهم إلا أن تمزقها تمزيقاً كاملاً بحيث لا يبقى من الكلمات شيء, فإنه يغني عن إحراقها، ولكنها ذكرت أنها أحرقت أوراقاً فيها أدعية، والأوراق التي فيها الأدعية يفصل فيها، فيقال: إن كانت أدعية مشروعة فالحفاظ عليها أولى وإبقاؤها أولى؛ لينتفع بها, وإن كانت أدعية غير مشروعة فإتلافها واجب بالإحراق أو التمزيق تمزيقاً كاملاً.

وقد يقول قائل: لماذا فصلتم في الأوراق التي فيها أدعية ولم تفصلوا في الأوراق التي فيها آيات قرآنية؟

والجواب على هذا أن نقول: إن الأوراق التي فيها آيات قرآنية لو بقيت لكان هذا عرضة لامتهانها إن بقيت هكذا مهملة, وإن علقت على الجدر فإن تعليق الآيات على الجدر ليس من الأمور المشروعة التي كان عليها السلف الصالح رضي الله عنهم، والمعلق لها لا يخلو من أحوال:

الحال الأولى: أن يعلقها تبركاً بها, وهذا ليس بمشروع؛ وذلك لأن التبرك بالقرآن على هذا النحو لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه, وما لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم مما اتخذ على وجه تعبدي أو على وجه وسيلي فإنه لا يكون مشروعاً؛ لقول الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ [الأحزاب:21], وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الحديد:24].

وإما أن يتخذها على سبيل الحماية بحيث يعتقد أنه إذا علق هذه الآيات حمته من الشياطين, وهذا أيضاً لا أصل له من السنة ولا من عمل الصحابة رضي الله عنهم والسلف الصالح، وفيه محذور, وهو أن الإنسان يعتمد عليها, ولا يقوم بما ينبغي أن يقوم به من قراءة الآيات التي فيها الحماية والتحرز من الشيطان الرجيم؛ لأن نفسه ستقول له: ما دمت قد علقت آية الكرسي مثلاً في بيتك فإنه يغنيك عن قراءتها، ما دمت علقت سورة الإخلاص والمعوذتين فإنه يكفيك عن قراءتهن، وهذا لا شك أنه يصد الإنسان عن الطريق الصحيح في الاحتماء والاحتراز بالقرآن الكريم. فهاتان حالان.

الحال الثالثة: أن يعلق هذه الأوراق التي فيها القرآن من أجل الذكرى والموعظة, وهذا إن قدر أن فيه نفعاً في بعض الأحيان فإن فيه ضرراً أكثر, وذلك أن كثيراً من المجالس تكون فيها هذه الآيات القرآنية, ولكن لا ينتفع أهل المجلس بها، فقد يكون من المعلق ورقة فيها قوله تعالى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [الحجرات:12]، فتجد الناس في نفس هذا المكان يغتاب بعضهم بعضاً، ولا ينتفعون بهذه الآية، وكون الآية فوق رءوسهم تنهى عن الغيبة وهم يغتابون الناس يشبه أن يكون هذا من باب التحدي وعدم المبالاة بما نهى الله عنه، فربما تجد في بعض المجالس ورقة فيها قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:41-42]، ومع هذا لا أحد يلتفت لها, ولا يرفع رأسه إليها, ولا يذكر الله ولا يسبحه. وهذا كثير.

إذاً: فالعظة والتذكر بهذه الآيات التي تكتب على أوراق وتعلق قليلة, ثم إن التذكير والعظة بهذه الطريقة لم تكن معروفة في عهد السلف الصالح, ولا شك أن هديهم خير من هدينا, وأقرب إلى الصواب منا، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (خير الناس قرني, ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم)؛ ولهذا حببنا عمل هذه المرأة التي أحرقت الأوراق التي عندها فيها آيات من كتاب الله, وفصلنا في الأدعية.

مداخلة: بارك الله فيكم يا شيخ محمد! هل ينطبق هذا على الأحاديث يا فضيلة الشيخ؟!

الشيخ: أنا عندي أن الأحاديث أهون من الآيات الكريمة، ولكن مع هذا لو عدل الناس عنها لكان خيراً، ولو بقيت فلا بأس.

مداخلة: بارك الله فيكم، الحكم وغيرها أيضاً؟

الشيخ: الحكم ليس بها بأس, لأنها ليست من كلام الله ولا رسوله في الغالب.

السؤال: تسأل عن وضع الدبلة عند الخطوبة حتى يعرف الشاب أو الشابة بأنهما مخطوبان, وكذلك بعد الزواج، وهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلبس خاتماً في يده كدبلة كما سمعت من البعض؟ نرجو الإفادة, جزيتم خيراً.

الجواب: الدبلة لبسها على قسمين، القسم الأول: أن يكون مصحوباً بعقيدة, مثل أن يعتقد كل من الزوجين أن بقاء الدبلة في أصبعه سبب لدوام الزوجية بينهما، ومن هنا تجد الرجل يكتب اسم زوجته في الدبلة التي يلبسها، والمرأة تكتب اسم زوجها في الدبلة التي تلبسها، وهذا القسم لا شك أنه حرام ولا يجوز؛ لأنه نوع من التولة, وهي نوع من الشرك الأصغر, وذلك أن هذا الزوج والزوجة اعتقدا في أمر من الأمور أنه سبب بدون دليل شرعي ولا واقع حسي، وكل من أثبت سبباً من الأسباب بدون دليل شرعي ولا واقع حسي فقد فعل شركاً أصغر؛ لأنه جعل ما لم يجعله الله سبباً سبباً.

أما القسم الثاني: فأن يلبس الدبلة للإشعار بأنه خاطب أو بأنها مخطوبة, أو بأنه قد دخل بزوجته أو قد دخل بها زوجها, وهذا عندي محل توقف؛ لأن بعض أهل العلم قال: إن هذه العادة مأخوذة عن النصارى, وأن أصلها من شعارهم، ولا شك أن الاحتياط للمرء المسلم البعد عنها والتجنب لها؛ لئلا يقع في قلبه أنه تابع لهؤلاء النصارى الذين سنوها أولاً فيهلك، وأما ما يرسل إلى المخطوبة عند الخطبة من أنواع الحلي فإن هذا لا بأس به؛ لأنه عبارة عن هدية يقصد بها تحقيق رغبة الزوج لمخطوبته.

مداخلة: التختم الجائز ما هو يا فضيلة الشيخ؟!

الشيخ: أما مسألة التختم، فالتختم ليس بسنة مطلوبة بحيث يطلب من كل إنسان أن يتختم، ولكنه إذا احتيج إليه فإن من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم أن يلبسه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قيل له: (إن الملوك الذين كانوا في عهده لا يقبلون كتاباً إلا مختوماً اتخذ الخاتم عليه الصلاة والسلام؛ من أجل أن يختم به الكتب التي يرسلها إليهم)، فمن كان محتاجاً إلى ذلك كالأمير والقاضي ونحوهما كان اتخاذه اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم, ومن لم يكن محتاجاً إلى ذلك فليس بسنة أن يلبسه.

السؤال: تسأل عن حكم الشرع في نظركم في زيارة النساء لقبر الرسول صلى الله عليه وسلم عند قدومهن للصلاة في المسجد النبوي الشريف؟ وهل صحيح أن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن جميعاً قمن بذلك أم لا؟ نرجو الإفادة, جزاكم الله خيراً.

الجواب: زيارة المرأة للقبور على نوعين:

النوع الأول: أن تكون قاصدة لذلك بحيث تخرج من بيتها إلى المقبرة للزيارة, فهذا حرام، ولا يحل لها أن تقوم به؛ لأن (النبي صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور)، ولأن في زيارتها مفسدة؛ فإن المرأة غالباً ضعيفة, قليلة الصبر, يخشى عليها إذا ذهبت إلى القبور أن تحدث من البكاء ما يصل إلى حد النياحة، ثم إنها قد تتعرض بذهابها إلى المقبرة للفساق إما بالمكالمة أو المضايقة أو غير ذلك؛ لأن الغالب أن المقابر تكون في مكان غير مسكون, بل بعيد عن البلد وغير مأهول بحيث لا يمشي حوله إلا أناس قليلون, فتكون هذه المرأة الزائرة عرضة للفتنة.

أما النوع الثاني: فأن تزور المقبرة بلا قصد بحيث تمر بها عابرة, فتقف وتسلم على أهل المقابر, فهذا لا بأس به, وعليه يحمل حديث عائشة رضي الله عنها حيث علمها النبي صلى الله عليه وسلم ما تقول لأهل القبور، وهذا القول الذي قلناه به الجمع بين الأدلة.

والفرق بين القصد وعدمه ظاهر في مسائل كثيرة، وعلى هذا التنويع ينبني حكم زيارة المرأة لقبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه، على أن بعض أهل العلم قال: إن زيارة المرأة لقبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ليست زيارة حقيقية؛ وذلك لأن قبورهم قد أحيطت بجدر بحيث لا يعد الواقف من ورائها زائراً للقبر، ولكن في نفسي من هذا شيء, والذي يظهر لي أن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه كزيارة القبور الأخرى, لا يحل للمرأة أن تزور هذه القبور على سبيل القصد.

ثم إني أقول: إذا كانت زيارة المرأة لقبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه دائرة بين الاستحباب والإباحة والتحريم فالأحوط والأسلم للمرأة أن لا تقوم بها, أي: بزيارة هذه القبور الثلاثة، ويكفيها أنها تسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهي في صلاتها، فهي تقول: السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته, وتسليمها هذا يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ولو كانت في أقصى الشرق أو الغرب.

السؤال: يجهل الكثير من العامة الدعاء المأثور عند زيارة الرجال لقبر الرسول صلى الله عليه وسلم أو قبر الصحابة رضوان الله عليهم، حدثونا عن هذا الدعاء فضيلة الشيخ؟!

الجواب: الدعاء المأثور منه: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين, وإنا إن شاء الله بكم لاحقون, يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين, نسأل الله لنا ولكم العافية. اللهم لا تحرمنا أجرهم, ولا تفتنا بعدهم, واغفر لنا ولهم).

والمقصود من زيارة القبور: العظة والعبرة, والدعاء لأصحاب القبور, وليس المراد بذلك التبرك بتربتهم أو دعاؤهم, أو اعتقاد أن الدعاء عندهم أقرب إلى الإجابة, أو ما أشبه ذلك مما يظنه كثير من الجهال.

وإذا كان الإنسان لا يعرف الدعاء المأثور عند زيارة القبور فإنه يمكنه أن يدعو بما شاء؛ لأن من المقصود بالزيارة الدعاء لأهل القبور.

السؤال: يوجد في قريتنا بعض العادات القديمة التي تحمل الكثير من البدع المدخلة في الشرك والعياذ بالله, مثل: عندما يذكر شخص ميتاً عزيزاً عليه يقوم على الفور بإيقاد النار ووضع البخور عند قبره وتعطيره وإضاءته بالسرج, وكذلك البعض يقوم بذبح الذبائح للقبور، وعندما يمرض مريض يحضر له تراب من عند قبور أحد الأولياء, وقد وجهت لهم البعض من النصائح, وبينت لهم بأن هذا لا يجوز, وبأن هذه أباطيل لا يقرها الدين, فلم يستجيبوا لنصحي, نرجو النصح يا فضيلة الشيخ! والتوجيه. جزاكم الله خيراً.

الجواب: إن فتنة القبور فتنة عظيمة, كانت من قديم الزمان, وهذه الأفعال التي ذكرها السائل عن قومه منها ما يصل إلى حد الشرك الأكبر المخرج من الملة كالذبح لأصحاب القبور؛ لأن الذبح عبادة من أجل العبادات, قرنها الله تعالى بالصلاة في قوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2], وقوله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162]، فصرفها لغير الله شرك أكبر؛ لأن كل من صرف شيئاً من العبادة لغير الله فهو مشرك, ولا يخفى على أكثر المسلمين أن المشرك مخلد في النار حابط عمله، قال الله تعالى: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]. وقال تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72].

وأما التبرك بترابهم واعتقاد أن الدعاء أي: دعاء الله عز وجل عند قبورهم أفضل فهذا لا يصل إلى حد الشرك، اللهم إلا أن يصحبه عقيدة تؤدي إلى الشرك فهذا يكون شركاً.

وكذلك إيقاد النار وصب الطيب على قبورهم, كل هذا من الأمور المنكرة التي يجب على كل مسلم أن يتجنبها.

ثم يجب على هؤلاء أن يعلموا أن الميت هو الذي كان حياً يعرفونه, ويعرفون أنه مثلهم, لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً, وهو في قبره لا يستطيع أن يدعو لأحد أيضاً، ولا أن يشفع لأحد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة, إلا من صدقة جارية, أو علم ينتفع به, أو ولد صالح يدعو له)، ودعاؤه عمل، ومقتضى هذا الحديث أنه انقطع بموته، ولا يمكن أن يشفع أيضاً؛ لأن الله يقول: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255] فتعلق الناس بأصحاب القبور لا شك أنه ضلال، وعلى المرء إذا أصابته المصائب أن يلجأ إلى الله سبحانه وتعالى, قال الله تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل:53]، فلا يلجأ المسلم عند المصائب إلا إلى الله عز وجل.

فنصيحتي لهؤلاء أن يتقوا الله عز وجل, وأن يتوبوا مما وقع منهم, وأن يحذروا إخوانهم من الوقوع فيه، وأن يلجئوا إلى ربهم سبحانه وتعالى في جميع أحوالهم؛ فإن مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3].

السؤال: فضيلة الشيخ! نريد القول الفصل في رفع اليدين في حالة الدعاء وعند القنوط مأجورين؟

الجواب: القول الفصل في هذا أن الأصل في الدعاء رفع اليدين, أي: أن الأصل أن من آداب الدعاء أن يمد الإنسان يديه إلى ربه كالفقير المستجدي, ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل: (أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب! يا رب)! إلا إذا دلت السنة على عدم الرفع.

وهذه المسألة لها أقسام:

القسم الأول: ما وردت السنة بتركه، مثل رفع اليدين في الدعاء حال خطبة الجمعة, فإن الصحابة رضى الله عنهم أنكروا على بشر بن مروان رفع يديه في خطبة الجمعة حين الدعاء, إلا في شيء واحد, وهو الدعاء بالاستسقاء أو الاستصحاء, فإنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رفع يديه في خطبة الجمعة, (فقد دخل رجل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس, فقال: يا رسول الله! هلكت الأموال وانقطعت السبل, فادعوا الله أن يغيثنا، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، ورفع الناس أيديهم معه، فأنشأ الله سحابة مثل الترس, ثم لما توسطت السماء انتشرت ورعدت وبرقت, ونزل المطر قبل أن ينزل النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر، ما نزل إلا والمطر يتحدر من لحيته، وبقي المطر أسبوعاً كاملاً، وفي الجمعة الثانية دخل رجل أو الرجل الأول وقال: يا رسول الله! غرق المال وتهدم البناء, فادع الله يمسكها عنا، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم حوالينا ولا علينا, وجعل يشير إلى النواحي, فما يشير إلى ناحية إلا انفرجت, وخرج الناس يمشون في الشمس).

ففي حال الاستسقاء يرفع الإنسان يديه إلى ربه عز وجل ولو في خطبة الجمعة.

القسم الثاني: ما ظاهر السنة فيه عدم الرفع, وذلك في الدعاء في الصلاة، فإن الظاهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع يديه, فهو يجلس بين السجدتين ويقول: رب! اغفر لي وارحمني، ولم ينقل عنه أنه رفع يديه, مع حرص الصحابة على تتبع أقواله وأفعاله في صلاته ونقلها.

القسم الثالث: أن تكون السنة قد وردت بالرفع فيه، كما ثبت ذلك في الدعاء على الصفا وعلى المروة، وفي الدعاء في عرفة، وغير ذلك, حتى أوصلها بعض العلماء إلى أكثر من ثلاثين موضعاً مما جاءت السنة فيه صريحة بالرفع، والأمر في هذا ظاهر, أن الإنسان يرفع يديه.

القسم الرابع: ما لم ترد السنة به لا بهذا ولا بهذا, فالأصل الرفع، وإن لم يرفع فلا بأس، ولا شك أن الرفع فيه زيادة ابتهال إلى الله عز وجل وطمعاً في رحمته, ولهذا كان من آداب الدعاء إلا ما وردت السنة بخلافه.

والمسألة لا تخلو من الأقسام الأربعة التي ذكرت, يعني: أن رفع اليدين على أقسام أربعة: ما وردت السنة فيه بالرفع، وما وردت فيه بعدم الرفع صراحة، وما كان الظاهر فيه عدم الرفع، وما خلا من ذلك الأقسام الثلاثة.

السؤال: ما حكم الشرع في نظركم فضيلة الشيخ! فيمن يقرأ أو يردد آيات قرآنية سراً أو جهراً وهو جنب, أو من يقضي وقتاً أو أياماً وهو على جنابة دون الاغتسال؟

الجواب: هذا السؤال من شقين الشق الأول قراءة القرآن والإنسان جنب, والراجح من أقوال أهل العلم أن هذا حرام، وأنه لا يحل للجنب أن يقرأ شيئاً من القرآن على سبيل التلاوة؛ لأنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه ما يدل على منع الجنب من قراءة القرآن، ومن ذلك: حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن ما لم يكن جنباً)، ومعلوم أن إقراء النبي صلى الله عليه وسلم القرآن لأصحابه واجب؛ لأنه من تبليغ الرسالة التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإذا كان لا يقرئهم إياه وهو جنب دل ذلك على تحريم قراءة القرآن على الجنب؛ لأن الواجب لا يمنعه إلا شيء محرم.

ولا يصح قياس هذا على الحائض, والفرق بينهما أن الجنب يمكنه أن يتلافى هذا المانع من قراءة القرآن فيغتسل, بخلاف الحائض فإن حيضها ليس بيدها، والحائض على القول الراجح لها أن تقرأ القرآن عند الحاجة إليه كالمعلمة والمتعلمة, وأن تقرأه من أجل الورد عند النوم أو في الصباح أو في المساء، هذا حكم قراءة الجنب للقرآن, فإنه حرام حتى يغتسل.

أما الشق الثاني في السؤال وهو أنه يبقى أياماً لا يغتسل للجنابة فهذا يستلزم أنه لا يصلي, أو أنه يصلي وهو جنب، وكلا الأمرين محرم بلا شك, فالجنب لا يحل له أن يصلي بإجماع المسلمين, حتى إن بعض أهل العلم يقول: إذا صلى الإنسان وهو جنب فقد ارتد عن الإسلام؛ لأن صلاته وهو جنب تدل على أنه مستهزئ وساخر بآيات الله, كيف يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6], إلى قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6]. ويقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ [النساء:43] ثم يقوم هذا الرجل فيصلي وهو جنب؟ يتقرب إلى الله بما نهى الله عنه؟ ومن لا يرى أنه يكفر بذلك يرى أنه قد فعل كبيرة من كبائر الذنوب، وأنه على خطر، وإن كان هذا الرجل الذي يبقى أياماً وهو جنب لا يصلي فالأمر أخطر وأعظم, فإن ترك الصلاة على القول الراجح كفر مخرج عن الملة كما قررنا أدلة ذلك في غير موضع من هذا المنبر نور على الدرب.

والذين قالوا بعدم كفره لم يأتوا بطائل، فإن ما عارضوا به أدلة الكفر لا يخلو من خمس حالات: إما أن يكون لا دلالة فيه أصلاً, أو تكون الأحاديث ضعيفة الثبوت أو ضعيفة الدلالة, أو تكون الأحاديث مقيدة بوصف لا يمكن معه ترك الصلاة، أو تكون الأحاديث مقيدة بحال يعذر فيها من لم يصل؛ لكون الإسلام قد اندرس وانمحى، أو تكون أحاديث عامة خصصت بالأحاديث الدالة على كفر تارك الصلاة، ومن المعلوم عند أهل العلم أن الخاص يقضي على العام.

وإن نصيحتي لهذا الرجل أن يتقي الله تعالى في نفسه, وأن يبادر بالاغتسال من الجنابة, فإنه كلما كان الإنسان أطهر كان أنقى, ولا شك أنه لا يحل له إذا حانت الصلاة أن يدع الاغتسال من الجنابة فيدع الصلاة أو يصلي بلا غسل.