فتاوى نور على الدرب [270]


الحلقة مفرغة

السؤال: كيف يكون البر للوالدين بعد مماتهما، وما هي الأعمال الصالحة التي يجب على الولد تجاه والديه بعد مماتهما؟

الجواب: إن بر الوالدين هو كثرة الإحسان إليهما بالمال والبدن، قولاً وفعلاً، والبر الواجب جعل الله تعالى منزلته بعد منزلة حقه وحق رسوله صلى الله عليه وسلم: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء:36]، وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان:14]، فالبر في الحياة يكون ببذل المال وبخدمة البدن، وبلين القول، وبالدفاع عنهما عن عرضهما وعن مالهما وعن أنفسهما، وهو منوط بكل ما يسميه الناس براً، وأما برهما بعد وفاتهما فمنه الدعاء لهما، والاستغفار لهما، وصلة القرابة التي لا صلة لك إلا بهما، وإكرام صديقهما، كل هذا من البر بهما بعد وفاتهما، فأما إهداء القرب لهما فهو من البر، ولكن غيره من الدعاء أفضل وأكمل، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ( يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها، وإنها لو تكلمت لتصدقت، أفتصدق عنها، قال: نعم )، واستفتاه سعد بن عبادة رضي الله عنه أن يجعل مخرافه -وهو بستان يخرف من الثمر- أن يجعله صدقة لأمه، فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا أردت أن تبر والديك بعد موتهما فأكثر من الدعاء لهما، وصل الرحم التي هم سبب اتصالك بها، وأكرم صديقهما.

السؤال: عندنا مسجد يوجد فيه خمس مقابر، وهو المسجد الوحيد في القرية، هل تجوز الصلاة فيه؟

الجواب: هذا المسجد الذي عناه السائل، وذكر أن فيه خمس مقابر -يعني: قبوراً- ينظر في أمره، إن كانت القبور سابقة على المسجد وقد بني المسجد عليها، فإن هذا المسجد محرم لا تجوز الصلاة فيه، والصلاة فيه من وسائل الشرك، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى باتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد، وإن كان المسجد سابقاً على هذه القبور، ولكن القبور دفنت فيه فإنه يجب أن تنبش هذه القبور، وأن تخرج إلى قبور المسلمين، ولا يجوز أن تبقى في المسجد، لأن بقاءها في المسجد والناس يصلون فيه من أكبر وسائل الشرك، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها )، ونصيحتي لهذا الأخ السائل أن يتصل بالوزارة المعنية بهذه الأمور في بلده ليتبين الأمر، ولتتخذ الإجراءات الكفيلة بمنع ذلك.

السؤال: ما حكم الشرع في نظركم في رجل مقيم في دولة غير دولته، وحصل بعض المشاكل بينه وبين زوجته فقام على الفور وسجل شريطاً وأقسم على زوجته يمين الطلاق في الشريط، وبعثه لها هل يقع عليها الطلاق أم لا؟

الجواب: إذا كان هذا الرجل قد صرح في الشريط بالطلاق، وقال لها يخاطبها: أنت طالق فإنها تطلق بذلك، لأن هذا الشريط الذي سجل فيه لفظ الطلاق كالورقة التي كتب فيها الطلاق، والطلاق يثبت إذا كتب في ورقة، ولأن الشريط أبلغ وأبين، وعلى هذا فتكون زوجته طالقاً بهذه الوسيلة، أما إذا كان الطلاق ليس طلاقاً منجزاً، بل هو طلاق بمعنى اليمين مثل أن يقول لها: إن خرجت من البيت فأنت طالق، إن فعلت كذا فأنت طالق، يريد بذلك توكيد منعها وتهديدها، وليست المرأة رخيصة عنده بل يعتبر نفسه راغباً فيها ولو أنها خالفته وخرجت، فإن هذا له حكم اليمين، إذا خالفت الزوجة وجب عليها أن يكفر كفارة يمين، وكفارة اليمين ذكرها الله تعالى في قوله: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ [المائدة:89]، هذه هي كفارة اليمين، فإن نصيحتي لهذا الأخ السائل ولأمثاله، أن لا يتهاونوا في أمر الطلاق، وأن لا يجعلوه من الأمور التي تجري على ألسنتهم بغير قصد، بل لا يتهاونون في مسائل الطلاق، ولا يجعلوه جدياً على ألسنتهم دائماً، ولو كان بغير قصد، لأن هذا أمر لا يتلاعب به، وربما يذهبون إلى أحد من أهل العلم ممن يرى أن تعليق الطلاق شرط محض ولو قصد به اليمين، وحينئذ فإذا وقعت المخالفة وحصل خلاف الشرط وقع الطلاق.

وحاصل الجواب أن نقول لهذا الأخ: إن تسجيلك طلاق زوجتك في هذا الشريط يقع به الطلاق، لأنه أبلغ من إيقاع الطلاق بالكتابة، وإن كان ما سجلته تعليقاً بأن قلت لها: إن فعلت كذا فأنت طالق فينظر إلى نيتك، إن أردت بذلك الطلاق وأنها إذا فعلت ذلك فقد كرهتها ولا تريد أن تبقى زوجة عندك، فإن الطلاق يقع، وإن أردت بذلك اليمين بحيث تريد منها أن تمتنع، ولا تريد أن تفارقها ولو خالفتك، فهذا حكمه حكم اليمين تجب فيه كفارة يمين.

السؤال: عندي طفلة وأثناء قيامي بالصلاة تأتي وتقف أمامي، وأضطر أنا لرفعها أو لتحريكها، علماً بأنه لا يوجد في البيت أحد لأضعها عنده، فهل تبطل صلاتي بذلك؟

الجواب: صلاتك لا تبطل بذلك، ولا حرج عليك إذا لم يكن عندها أحد في البيت أن تحملها إذا قمت وأن تضعها إذا سجدت، لأن هذا قد ثبت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أمامة بنت زينب وهو -أي: النبي صلى الله عليه وسلم- جدها من قبل أمها، وأبوها أبو العاص بن الربيع ، أمامة بنت زينب كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه وهو حامل لها، إذا قام حملها وإذا سجد وضعها، وعليه فيكون فعلك هذا جائزاً، لأن الله يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ [الأحزاب:21]، والنبي عليه الصلاة والسلام أشد الناس خشية لله سبحانه وتعالى، وأعلمهم بما يتقي من حدود الله، فلما فعل ذلك علم بأن مثل هذا الفعل جائز ولا حرج فيه.

السؤال: أنا أصلي وعلى ملابسي بعض دم المواشي، وهذا بسبب ظروف العمل فهل هذا يبطل الصلاة؟

الجواب: إذا كان هذا الدم من المواشي بعد الذبح وخروج النفس، فإنه يكون طاهراً، لأن الدم الذي يبقى في اللحم والعروق بعد موت المذكاة طاهر وحلال، وأما إذا كان هذا الدم من البهيمة وهي حية، أو كان هو الدم المسفوح الذي يكون عند الذبح، فإنه نجس؛ لقول الله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [الأنعام:145] (فإنه) أي: هذا الشيء، فالضمير الظاهر عائد على الضمير المستتر في قوله: إِلَّا أَنْ يَكُونَ [الأنعام:145]، وليس عائداً على قوله: أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [الأنعام:145]، بل هو عائد على المستثنى كله، وتقدير الآية إلا أن يكون الشيء المحرم الطاعم الذي يطعمه ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير، فإن ذلك الشيء يكون نجساً (فإنه رجس) أي: نجس، وعلى هذا فنقول: إن الدم الذي يخرج من البهيمة وهي حية أو يخرج منها عند الذبح دم نجس، إلا أن العلماء رحمهم الله قالوا: إنه يعفى عن يسيره لمشقة التحرز منه.

السؤال: ما حكم الشرع في نظركم في أعياد الميلاد، والاحتفال بذكرى المولد للرسول صلى الله عليه وسلم لأنها تنتشر عندنا بكثرة؟

الجواب: نظرنا في هذه المسألة أن نقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول إلى الخلق أجمعين، وأنه يجب على جميع الخلق أن يؤمنوا به ويتبعوه، وأنه يجب علينا مع ذلك أن نحبه أعظم من محبتنا لأنفسنا ووالدينا وأولادنا، لأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونرى أن من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وعلامة محبته أن لا نتقدم بين يديه بأمر لم يشرعه لنا، لأن ذلك من التقدم عليه، وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:1-2]، وإقامة عيد لميلاد النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو من أحوال ثلاثة: إما أن يفعلها الإنسان حباً وتعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم، وإما أن يفعلها لهواً ولعباً، وإما أن يفعلها مشابهةً للنصارى الذين يحتفلون بميلاد عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام.

فعلى الأول: إذا كان يفعلها حباً وتعظيماً للرسول صلى الله عليه وسلم، فإنها في هذه الحال تكون ديناً وعبادة، لأن محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه من الدين، قال الله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفتح:8-9] فإذا كان ذلك من الدين فإنه لا يمكن لنا ولا يسوغ لنا أن نشرع في دين النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس منه، إن ذلك يستلزم أحد أمرين باطلين: فإما أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم بأن هذا من شريعته، وحينئذٍ يكون جاهلاً بالشرع الذي كلف بتبليغه، ويكون من بعده ممن أقاموا هذه الاحتفالات أعلم بدين الله من رسوله، وهذا أمر لا يمكن أن يتفوه به عاقل فضلاً عن مؤمن، وإما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم بأن هذا أمر مشروع، ولكنه كتم ذلك عن أمته، وهذا أقبح من الأول، أنه يستلزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كتم بعض ما أنزل الله عليه، وأخفاه عن الأمة، وهذا من الخيانة العظيمة، وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتم شيئاً مما أنزل الله عليه، قالت عائشة رضي الله عنها: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً مما أنزل الله عليه لكتم قول الله تعالى: وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب:37]، وبهذا بطلت إقامة الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم من أجل محبته وتعظيمه.

وأما الأمر الثاني: وهو أن تكون إقامة هذه الاحتفالات على سبيل اللهو واللعب، فمن المعلوم أنه من أقبح الأشياء أن يفعل فعلاً يظهر منه إرادة تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وهو للعب واللهو، فإن هذا نوع من السخرية والاستهزاء، وإذا كان لهواً ولعباً فكيف يتخذ ديناً يعظم به النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما الأمر الثالث: وهو أن يتخذ ذلك مضاهاة للنصارى في احتفالاتهم بميلاد عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، فإن تشبهنا بالنصارى في أمر كهذا يكون حراماً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من تشبه بقوم فهو منهم )، ثم نقول: إن هذا الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله الصحابة رضي الله عنهم، ولا التابعون لهم بإحسان، ولا تابعو التابعين، وإنما حدث في القرن الرابع الهجري، فأين سلف الأمة عن هذا الأمر الذي يراه فاعلوه من دين الله، هل هم أقل محبة وتعظيماً منا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أم هم أجهل منا بما يجب للنبي صلى الله عليه وسلم من التعظيم والحقوق، أم ماذا؟

إن أي إنسان يقيم هذا الاحتفال يزعم أنه يعظم النبي صلى الله عليه وسلم فقد ادعى لنفسه أنه أشد تعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقوى محبة من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، ولا ريب أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه إنما يكون إتباع سنته صلى الله عليه وسلم، لأن اتباع سنته أقوى علامة تدل على أن الإنسان يحب النبي صلى الله عليه وسلم ويعظمه.

أما التقدم بين يديه، وإحداث شيء في دينه لم يشرعه، فإن هذا لا يدل على كمال محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيمه.

وقد يقول قائل: نحن لا نقيمه إلا من باب الذكرى فقط، فنقول: يا سبحان الله! تكون لكم الذكرى في شيء لم يشرعه النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يفعله الصحابة رضي الله عنهم، مع أن لديكم من الذكرى ما هو قائم ثابت بإجماع المسلمين، وأعظم من هذا وأدوم، فكل المسلمين يقولون في الأذان في الصلوات الخمس: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهداً أن محمداً رسول الله، وكل المسلمين يقولون في صلاتهم: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وكل المسلمين يقولون عند الفراغ من الوضوء: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بل إن ذكرى النبي صلى الله عليه وسلم تكون في كل عبادة يفعلها المرء، لأن العبادة من شرطها الإخلاص والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الإنسان مستحضراً ذلك عند فعل العبادة فلا بد أن يستحضر أن النبي صلى الله عليه وسلم إمامه في هذا الفعل، وهذا تذكر.

وعلى كل حال فإن فيما شرعه الله ورسوله من علامات المحبة والتعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم كفاية عما أحدثه الناس في دينه مما لم يشرعه الله ولا رسوله، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق الجميع لما فيه الخير، على أن هذه الاحتفالات فيما نسمع يكون فيها من الغلو والإطراء ما قد يخرج الإنسان من الدين، ويكون فيها من الاختلاط بين الرجال والنساء ما تخشى منه الفتنة والفساد، والله المسئول أن يهيئ للأمة الإسلامية من أمرها رشداً، وأن يوفقها لما فيه صلاح دينها ودنياها، وعزتها وكرامتها إنه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين.