فتاوى نور على الدرب [199]


الحلقة مفرغة

السؤال: والدي عنده محل تجاري، وأحواله المادية ميسورة والحمد لله، ولكنه يبخل علينا بما نحتاجه، فإذا طلبت منه مالاً لأشتري به ما يلزمني يرفض إعطائي، فأضطر لأخذ المال من صندوق ذلك المحل التجاري دون علمه، فهل تعد هذه سرقة أم لا؟ وهل يأثم هو في تقصيره وبخله بما نحتاج إليه حتى تسبب في اختلاسي للمال دون علمه؟

الجواب: هذا السؤال تضمن شقين؛ منع الوالد بما يجب عليه من النفقة عليك، وهذا محرم عليه، وذلك لأن الوالد يجب عليه الإنفاق على ولده؛ لقوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233] ، فأوجب الله سبحانه وتعالى على المولود له رزق الوالدات وكسوتهن من أجل إرضاع الولد، لأن ذلك من الإنفاق عليه، وعلى هذا؛ فيجب على أبيك أن يتقي الله عز وجل، وأن يقوم بشكره على نعمته بما أعطاه من المال، ومن شكر الله على إعطاء المال أن يبذل هذا المال فيما أوجب الله عليه من زكاة ونفقات، ولا يحل له أن يبخل بما يجب عليه من النفقة.

الشق الثاني: بالنسبة إليك وأخذك ما يلزمك من صندوق هذا المحل، فيجوز لك أن تأخذ من الصندوق ما يكفيك بالمعروف فقط، من غير إسراف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لامرأة أبي سفيان أن تأخذ من ماله ما يكفيها وولدها بالمعروف، وهكذا نقول في كل شخص تجب له النفقة على شخص، ويكون الملزم بهذه النفقة بخيلاً لا يعطي ما يجب، فإن لمن له النفقة أن يأخذ بقدر نفقته ما قدر عليه من ماله، ولكن بالمعروف كما قال عليه الصلاة والسلام، بحيث لا يزيد عن ما يجب لمثله.

السؤال: أنا رجل متزوج، وقد حصل مني طلاق في حالتين؛ الأولى: حضرت إلى بيتنا والدة زوجتي وبقيت عندنا مدة قصيرة، وحينما أرادت الذهاب ومعها ابنها منعتهما رغبة في بقائها عندنا مدة أطول، فقلت: علي الطلاق إن لم تمسوا معنا فسأرمي بما تحضرونه لنا في المرة القادمة في البحر، فهم عادة ما يحضرون لنا بعض الهدايا والطعام، ولكنهم لم يمكثوا بل سافروا، فسألت أحد العلماء في قريتنا فقال: في هذه المرة ليس عليك شيء، وإنما في المرة القادمة لو أحضروا لك شيئاً فارمه في البحر، وقد صعب علي هذا الأمر لعدة أسباب، فأردت المخرج من هذه اليمين، فقال لي: هات يدك، فوضعتها في يده، وبينهما منديل أبيض، وجعل يقرأ بعض القراءات، وأنا أردد خلفه، ثم قال: أعط زوجتك مبلغاً يسيراً من المال، وهذه كفارة يمينك، ولعلمكم فإني لم أقصد طلاق زوجتي، وإنما أردت إلزام والدة زوجتي وابنها بالبقاء معنا، فهل بقي عليّ شيء بعد هذا؟

والحالة الثانية: حينما حدثت منازعة بين زوجتي ووالدتي تركت زوجتي البيت وذهبت إلى بيت أهلها، وقد أردت إصلاح ما بينهما، فذهبت وأخذت زوجتي لكي تراضي والدتي، وفي الطريق كانت تتكلم، فقلت لها: علي الطلاق ألا تتكلمي في الطريق، ولكنها لم تسكت وتكلمت بعد أن حلفت، فذهبت إلى العالم الأول نفسه وأفتاني بمثل ما فعله في المرة الأولى، علماً أنني أيضاً في هذه اليمين الأخيرة لم أقصد الطلاق، وإنما أردت المنع لها من الكلام، فهل يقع منهما شيء؟ وماذا يلزمني فعله الآن؟ أرشدونا بارك الله فيكم.

الجواب: إرشادنا لك بما نعلمه من شريعة الله، أن تتجنب مثل هذه الأيمان، أيمان الطلاق، فإنها أيمان غير مشروعة، ولا هي معروفة في عهد السلف أيضاً، في عهد الصحابة، وعلى هذا؛ فهي من الأيمان التي لا ينبغي للمؤمن أن يحلف بها؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، وهذا نسميه يميناً لأنه في حكم اليمين، وليس هو اليمين الذي هو القسم بالطلاق، فإن القسم بالطلاق أو بغيره من المخلوقات يعتبر محرماً ونوعاً من الشرك، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)، فالذي يحلف بغير الله، مثل أن يقول: والنبي أو والرسول أو والكعبة أو وشرفي، أو نحو ذلك مما يحلف به الجهال، فإن ذلك محرم عليه ولا يجوز، وعليه أن يتوب إلى الله من هذا الأمر.

أما بالنسبة لما وقع منك على والدة زوجتك، وعلى زوجتك في المرة الثانية، فقد صرحت في سؤالك أنك لم ترد الطلاق، وإنما أردت اليمين حيث أردت منع والدة زوجتك من السفر، وأردت منع زوجتك من الكلام أثناء الطريق، وما دامت هذه نيتك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، ولكن كفارة ذلك ليس كما قال لك المفتي الذي استفتيته، بل كفارة ذلك أن تطعم عشرة مساكين أو تكسوهم، وإطعام المساكين في كفارة اليمين يكون على وجهين: فإما أن تصنع طعاماً غداءً أو عشاء فتدعوهم إليه، فيسارع المساكين إلى هذا الغداء أو العشاء فيأكلون، وإما أن تعطيهم إياه بدون طبخ، ومقدراه ستة كيلوات من الرز، ويحسن أن تجعل معه لحماً يكون إداماً له، حتى يتم الإطعام؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى أطلق الإطعام ولم يقدر ما يطعم، فقال سبحانه وتعالى: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ [المائدة:89] ، فبين المدفوع إليه ولم يبين المدفوع، فما جرت به العادة أن يكون طعاماً فهو طعام، وقد علم أن الغداء أو العشاء يعتبر إطعاماً لهم، فيقال: أطعمتهم إذا غديتهم، وعلى هذا فأنت الآن يلزمك كفارة يمين، إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم.

وفي هاتين الحالين اختلف أهل العلم هل يجب عليك كفارتان لكل يمين كفارة لاختلاف المحلوف عليه، أو تكفيك كفارة واحدة؛ لأن الكفارة من جنس تعدد الموجبات لها لا يلزم منه تعددها، كما لو أحدث الإنسان بعدة أنواع من الحدث، فإنه يجزئه وضوء واحد، يعني أن الإنسان لو نام وأكل لحم إبل وخرج منه ريح وبول وغائط، فإنه يكفيه وضوء واحد عن هذه الخمسة كلها؛ لأن الموجب فيها شيء واحد، فكذلك الأيمان إذا كان الموجب فيها شيئاً واحداً، فإنه يكفيه عنها جميعها كفارة واحدة، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد ، وإن أتيت بكفارتين لاختلاف الفعلين فهو أحسن وأحوط.

مداخلة: بالنسبة لما أفتاه به هذا الشخص، يعني كونه يدفع شيئاً من المال؟

الشيخ: قلت: إن الجواب ليس بصحيح.

السؤال: هل من نصيحة للذين يتولون الإفتاء بغير علم؟

الجواب: النصيحة لهؤلاء الذين يتولون الإفتاء بغير علم أن نقول لهم ولأمثالهم: ليحذروا من هذا العمل المحرم؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، فقرن سبحانه وتعالى القول عليه بلا علم قرنه بالشرك به، ومعلوم أن الشرك أعظم الذنوب وأكبرها، والقول على الله بلا علم يتضمن القول على الله في ذاته، والقول على الله في أسمائه وصفاته، والقول على الله في أحكامه، والقول على الله في أفعاله، فالمفتون بالأحكام الشرعية قائمون على الله في أحكامه، فلا يحل لهم أن يفتوا بغير علم، وثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، فهؤلاء المفتون في الحقيقة يرتكبون إثماً عظيماً، ولا أدري ماذا يحمل هؤلاء المفتين على التسرع في الفتوى، وعلى التسابق فيها؟ ما أدري ما الذي يحملهم؟ مع أن الأمر خطير جداً وعظيم، والإنسان المفتي واسطة بين الله وبين عبادة في تبليغ شرعه، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ [الزمر:32]، فأنا أنصح هذا الأخ عن الفتوى بغير علم، وأحذره من ذلك، هو وغيره أيضاً، وأقول: الحمد لله إذا كنت تعلم وعندك علم فأفت بما تعلم، واستعن بالله عز وجل، واسأله التوفيق والهداية، وإن كنت لا تعلم فإن عليك الصبر حتى تراجع المسألة وتتبينها من كلام أهل العلم.

ثم إنه ينبغي للإنسان إذا نزلت به نازلة لا سيما النوازل المشكلة، أن يلجأ إلى الله سبحانه وتعالى في سؤاله التوفيق والصواب، وأن يستغفر الله عز وجل عند إصدار الفتوى، وقد استنبط بعض العلماء ذلك من قوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:105-106] .

السؤال: لماذا لم تبتدأ سورة التوبة بالبسملة كغيرها من السور؟ فإننا إذا أردنا قراءتها نقول قبل البدء فيها: أعوذ بالله من النار، ومن شر الكفار، ومن غضب الجبار، والعزة لله ولرسوله، ثم نبدأ في السورة، فهل هذا مشروع أم مخالف؟

الجواب: هذا الدعاء الذي ذكرت عند بداية سورة البراءة مبتدع لا أصل له، ولا يجوز للإنسان أن يبتدئ به السورة، وقد رأيت وأنا صغير هذا مكتوباً على هامش بعض المصاحف، والواجب لمن اطلع عليه أن يطمسه وأن يزيله؛ لأن هذا من البدع الذي لم ترد عن النبي عليه الصلاة والسلام.

وأما بالنسبة لشق السؤال الأول وهو أنها لم تبتدئ هذه السورة بالبسملة، فلأنها هكذا جاءت؛ لأنه لو كانت البسملة موجودة فيها لكانت محفوظة، ولكانت موجودة؛ لأن الله يقول: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] ، فهي هكذا جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أشكل على الصحابة رضي الله عنهم فيما يروى عن عثمان هل هي سورة مستقلة أم آخر سورة الأنفال؟ فوضعوا بينهما فاصلاً بدون البسملة، ووضع الفاصل هنا حكم بين حكمين، لأنه لو ثبت أنها من بقية الأنفال لم يكن هناك فاصل ولا بسملة، ولو ثبت أنها مستقلة لكان بالبسملة والفاصل، فلما لم يثبت هذا ولا هذا جعلوا فاصلاً، وكان هذا من الاجتهادات الموافقة للصواب، فإني أعلم علم اليقين أن لو كانت البسملة نازلة أمام هذه السورة، لكانت باقية بلا شك، لأن الله يقول: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] ، وعلى هذا فلا يشرع للإنسان إذا ابتدأ بسورة البراءة، لا يشرع له أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم.

السؤال: أنا رجل متزوج من امرأة، وقد عشنا حياة سعيدة هانئة إلى أن تدخل أهلها في الإفساد بيننا وإيقاع الخصومة والمشاكل، وقد حاولت إنهاء كل الخلافات والمشاكل، فكانت إذا أخذها أهلها أذهب وأراضيها ثم أعيدها إلى منزلي معي، وهكذا إلى أن مليت من كثرة المشاكل والخلافات فطلقتها طلقة واحدة، ولأجل ذلك ذهبت إلى أهلها وبقيت عندهم سنة، ولكون الرغبة من كل منا في الآخر لا زالت، فقد استشرت أهلها في إعادتها ووافقوا نظير مبلغ من المال حددوه هم، ووافقت عليه، وفعلاً دفعت المال واسترجعتها بدون عقد جديد، فهل علي في ذلك شيء أم لا؟

الجواب: هذه المرأة التي طلقتها ثم بقيت عند أهلها سنة، إن كانت عدتها قد انقضت، فإنه لا بد أن تعقد عليها عقداً جديداً، وإن كانت عدتها لم تنقض فإنه يكفي إرجاعها بدون عقد، قد يقول السامع: كيف تبقى سنة ولم تنته عدتها؟! فأقول: نعم يمكن ذلك، يمكن أن تكون حاملاً ولم تضع الحمل بعد، يمكن أن تكون مرضعاً، والمرضعة عادة لا تحيض، وذوات الحيض لابد لإكمال العدة من ثلاث حيض كاملة، فإذا كانت لم يأتها الحيض بعد فإنها تنتظر حتى يأتها الحيض، حتى تفطم الصبي ويأتيها الحيض فتحيض ثلاث مرات.

وأما ما اشتهر عند العامة من أن عدة الطلاق ثلاثة أشهر مطلقاً لغير الحامل، فهذا ليس مبنياً على أصل صحيح، وإنما العدة بثلاثة أشهر لامرأة غير حامل، ولكنها لا تحيض، لصغر أو كبر أو سبب آخر، المهم أن الثلاثة الأشهر لا تكون عدة إلا لمن لا تحيض، فأما من تحيض فإن عدتها ثلاثة قروء، أي: ثلاث حيض، ولو طالت المدة، وعلى هذا؛ فلو ارتفع حيضها لمرض أو لرضاع أو نحو ذلك، فإنها تنتظر حتى يعود الحيض بعد زوال السبب وتعتد به، فإن زال السبب المانع من الحيض، ولم يعد الحيض، فإن هناك خلافاً بين أهل العلم، هل تنتظر حتى تبلغ سن الإياس، أو أنها تنتظر كعدة الآيسة من حينما ينقطع السبب؟

مداخلة: لو فرضنا أن هذه المرأة وضعها طبيعي، يعني ليست مرضعاً وليست حاملاً، وكانت تحيض كل شهر، فعلى هذا تكون قد خرجت من العدة؟

الشيخ: نعم، على هذا..

مداخلة: ولا تجوز له إلا بعقد جديد؟

الشيخ: نعم، إذا كانت تحيض كل شهر مرة، وكانت هذه المرأة المطلقة قد حاضت ثلاث مرات، فإنها لا تحل له إلا بعقد، هذا إذا لم يكن الطلاق الذي وقع منه آخر ثلاث تطليقات كما تبين من سؤاله، فإن ظاهر الحالة أنه ما طلقها قبل هذا مرتين.

مداخلة: نعم هكذا يبدو، لو كان قد استرجعها، أو ربما تلفظ به، ولكن أهلها رفضوا أن تذهب إلى منزل زوجها؟

الشيخ: إذا راجعها في العدة فإنها تكون زوجة له، سواء رضي بذلك أهلها أم لا.

مداخلة: حتى لو لم تأت إلى منزله؟

الشيخ: ولو لم تأت إلى منزله، لكن في مثل هذا الحال ينبغي أن يشهد على الرجعة حتى لا يحصل إنكار منها أو من أهلها.

السؤال: هل هناك قاعدة شرعية يعتمد عليها في تحريم وتحليل أكل الحيوانات، فالقرآن والسنة لم يوضحا كل الحيوانات، فهناك حيوانات أليفة محرمة، وبعضها حلال، وكذلك الوحشية، فإن كان هناك قاعدة، أو صفات للمحرمة والحلال، فأرجو شرحها حتى نكون على بصيرة؟ وهل للقياس بالشبه اعتبار في هذا أم لا؟

الجواب: الحقيقة أن قوله: إن الكتاب والسنة لم يبينا ذلك، غلط منه، وإنما الصواب أنه لم يتبين له ذلك من الكتاب والسنة، أما الكتاب والسنة فإن الله بين فيهما كل شيء، فالقرآن كما قال الله عنه: تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89] ، والسنة الإيمان بها وتنفيذ أحكامها من الإيمان بالقرآن، فهي متممة ومكملة ومفصلة لما أجمل، ومفسره لما أبهم، وفي القرآن والسنة الشفاء والنور والهداية والاستقامة لمن تمسك بهما، ولا يوجد مسألة من المسائل التي تحدث إلا وفي القرآن والسنة حلها وبيانها، لكن منها ما هو مبين على سبيل التعيين، ومنها ما هو مبين على سبيل القواعد والضوابط العامة، ثم إن الناس يختلفون في هذا اختلافاً عظيماً، يختلفون في العلم، ويختلفون في الفهم، كما يختلف أيضاً إدراكهم لما في القرآن والسنة، بحسب ما معهم من الإيمان والتقوى، فإنه كلما قوي الإيمان بالله عز وجل، وقبول ما جاء به في القرآن والسنة، وتقوى الله عز وجل في طاعته، قوي العلم بما في القرآن والسنة من الأحكام، وإني أقول من على هذا المنبر: إن القرآن والسنة فيهما العلم والهدى والنور، وحل جميع المشاكل، وأن نظامهما ومنهاجهما أكمل نظام وأنفعه وأصلحه للعباد، وأنه يغلط غلطاً بيناً من يرجع إلى النظم والقوانين الوضعية البشرية التي تخطئ كثيراً، وإذا وفقت للصواب فإنها تكون صواباً لما وافقت الكتاب والسنة.

وأقول لهذا الأخ: إن هناك ضوابط لما يحرم، فأقول: الأصل في كل ما خلق الله تعالى في هذه الأرض أنه حلال لنا، من حيوان وجماد؛ لقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29] ، فهذا عام خلقه لنا لمنافعنا أكلاً وشرباً ولباساً وانتفاعاً على الحدود التي حدها الله ورسوله، هذه قاعدة عامة جامعة مأخوذة من الكتاب، وكذلك من السنة، حيث قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: ( وما سكت عنه فهو عفو)، وعلى هذا فلننظر الآن في المحرمات، فمنها الميتة؛ لقوله تعالى: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ [البقرة:173]، ومنها الدم المسفوح؛ لقوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [الأنعام:145] ، ومنها لحم الخنزير؛ لقوله تعالى أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [الأنعام:145]، وإنما حرمت هذه الثلاث لأنها رجس، فإن قوله: فَإِنَّهُ رِجْسٌ أي: هذا الذي وجده الرسول عليه الصلاة والسلام رجس، وليس الضمير عائداً على لحم الخنزير فقط كما قاله بعض أهل العلم، لأن الاستثناء (إلا أن يكون)، أي: ذلك المطعوم، ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير. (فَإِنَّهُ) أي: ذلك المطعوم من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير رجس.

ومنها الحمر الأهلية، ثبت ذلك في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أبا طلحة فنادى: ( إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس)، ومنها كل ذي ناب من السباع، يعني كل ما له ناب من السباع يفترس به، مثل الذئب والكلب ونحوها، فإنه محرم، ومنها: كل ذي مخلب من الطير، كالصقر والعقاب والبازي وما أشبه ذلك، ومنها ما تولد من المأكول وغيره، كالبغال، فإن البغل متولد من الحمار إذا نزى على الفرس على أنثى الخيل، والخيل مباحة والحمر محرمة، فلما تولد من المأكول وغيره غلب جانب التحريم فكان حراماً.

وهذه المسائل موجودة والحمد لله في السنة مفصلة، وكذلك في كلام أهل العلم، فالأمر بين، وإذا أشكل عليك الأمر فارجع إلى القاعدة الأساسية التي ذكرناها من قبل، وهو أن الأصل الحل؛ لقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29] .

وأما الشبه، فهذا لجأ إليه بعض أهل العلم، وقال: إنه إذا لم نعلم حكم هذا الحيوان، هل هو محرم أم لا؟ فإننا نلحقه حكماً بما أشبهه، ولكن ظاهر الأدلة يدل على أن المحرم معلوم بنوعه، أو بالضوابط التي أشرنا إليها، كما حرم النبي عليه الصلاة والسلام كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير.


استمع المزيد من الشيخ محمد بن صالح العثيمين - عنوان الحلقة اسٌتمع
فتاوى نور على الدرب [707] 3913 استماع
فتاوى نور على الدرب [182] 3693 استماع
فتاوى نور على الدرب [460] 3647 استماع
فتاوى نور على الدرب [380] 3501 استماع
فتاوى نور على الدرب [221] 3496 استماع
فتاوى نور على الدرب [411] 3478 استماع
فتاوى نور على الدرب [21] 3440 استماع
فتاوى نور على الدرب [82] 3438 استماع
فتاوى نور على الدرب [348] 3419 استماع
فتاوى نور على الدرب [708] 3342 استماع