فتاوى نور على الدرب [184]


الحلقة مفرغة

السؤال: إنني أقوم بتدريس مجموعةٍ من الناس الفقه الحنفي والتصوف، ونقوم بممارسة الذكر -الحضرة- ودليلنا على هذا هو أن النبي صلوات الله وسلامه عليه عندما هاجر إلى المدينة المنورة استقبله الناس بالإنشاد وضرب الدفوف فأقرهم على ذلك ولم ينكر عليهم، كذلك ورد في القرآن قوله تعالى: قُلِ اللَّهُ [آل عمران:26]، وكذلك فإنني أعلم تلامذتي ضرورة طاعة الشيخ ومحبته وعدم الاتجاه إلى شيخٍ غيره؛ عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من لا شيخ له فشيخه الشيطان)، ولكن أحد تلامذتي قد أخذ يجادلني مؤخراً في هذه الأمور، وينكر علي ذلك، بحجة أنها بدع، وأنها تخالف هدي النبي عليه الصلاة والسلام، فقد أصبحت في حيرةٍ من أمري، ولما سألت عن تصرفاته تلك قيل لي: إن الشاب الذي يجادلني متأثرٌ بالوهابية، وقال: بأن هذه الفكرة الوهابية بدعةٌ تدعو إلى التطرف وتحرم المدائح النبوية والمولد، وتقول عن كثيرٍ من الأمور المستحسنة: إنها من البدع، فقد أشكل عليّ الأمر، أرجو إرشادكم وتوضيح هذه الحقيقة لي وفقكم الله؟

الجواب: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

وبعد: فإن هذا السؤال سؤالٌ عظيم اشتمل على مسائل في أصول الدين، ومسائل تاريخية، ومسائل عملية، أما المسائل العملية فإنه ذكر أنه يفقه تلامذته على مذهب الإمام أبي حنيفة ، ولا ريب أن مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله أحد المذاهب الأربعة المتبوعة المشهورة، ولكن ليعلم أن هذه المذاهب الأربعة لا ينحصر الحق فيها، بل الحق قد يكون في غيرها، فإن إجماعهم على حكم مسألةٍ من المسائل ليس إجماعاً للأمة، والأئمة أنفسهم رحمهم الله ما جعلهم الله تعالى أئمة لعباده إلا حيث كانوا أهلاً للإمامة، حيث عرفوا قدر أنفسهم، وعلموا أنه لا طاعة لهم إلا فيما كان موافقاً لطاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يحذرون من تقليدهم إلا فيما وافق السنة، سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أن مذهب الإمام أبي حنيفة ومذهب الإمام أحمد ومذهب الإمام الشافعي ومذهب الإمام مالك وغيرهم من أهل العلم أنها قابلةٌ بأن تكون خطأ وصواباً، فإن كل أحدٍ يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فإنه لا حرج عليه أن يفقه تلامذته على مذهب الإمام أبي حنيفة ، بشرط إذا تبين له الدليل في خلافه تبع الدليل وتركه، ووضح لطلبته أن هذا هو الحق، وأن هذا هو الواجب عليهم.

أما فيما يتعلق بمسألة الصوفية وغنائهم ومديحهم وضربهم بالدف والغبيراء وما أشبهها، الغبيراء التي يضربون الفراش ونحوه بالسوط، فما كان أكثر غباراً فهو أشد صدقاً في الطلب، وما أشبه ذلك مما يفعلونه، فإن هذا من البدع المحرمة التي يجب عليه أن يقلع عنها، وأن ينهى أصحابه عنها، وذلك لأن خير القرون وهم القرن الذي بعث فيهم الرسول عليه الصلاة والسلام لم يتعبدوا لله بهذا التعبد، ولأن هذا التعبد لا يورث القلب إنابةً إلى الله، ولا انكساراً لديه، ولا خشوعاً لديه، وإنما يورث انفعالاتٍ نفسية يتأثر بها الإنسان من مثل هذا العمل، كالصراخ وعدم الانضباط والحركة الثائرة وما أشبه ذلك، وكل هذا يدل على أن هذا التعبد باطل، وأنه ليس بنافعٍ للعبد، وهو دليلٌ واقعي غير الدليل الأثري الذي قال في الرسول عليه الصلاة والسلام: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعةٍ ضلالة)، فهذا من الضلال المبين الذي يجب على المرء أن يقلع عنه، وأن يتوب إلى الله، وأن يرجع إلى ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وخلفاؤه الراشدون، فإن هديهم أكمل هدي، وطريقهم أحسن طريق، قال الله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33] ، ولا يكون العمل صالحاً إلا بأمرين: الإخلاص لله، والموافقة لرسوله صلى الله عليه وسلم.

وأما استدلاله باستقبال أهل المدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدف والأناشيد فهذا إن صح فإنهم ما اتخذوا ذلك عبادة، وإنما اتخذوا ذلك فرحاً بمقدم الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس من هذا الباب في شيء.

وأما ما ذكره من مجادلة الطالب له، وقول بعضهم: إنه رجلٌ وهابي، وأن الوهابية لا يقرون المدائح النبوية وما إلى ذلك، فإننا نخبره وغيره بأن الوهابية ولله الحمد كانوا من أشد الناس تمسكاً بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أشد الناس تعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واتباعاً لسنته، ويدلك على هذا أنهم كانوا حريصين دائماً على اتباع سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، والتقيد بها، وإنكار ما خالفها من عقيدةٍ أو عمل قوليٍ أو فعلي، ويدلك على هذا أنهم جعلوا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ركناً من أركان الصلاة، لا تصح الصلاة إلا بها، فهل بعد هذا من شكٍ في تعظيمهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهم أيضاً إنما قالوا: بأنها ركن من أركان الصلاة، لأن ذلك هو مقتضى الدليل عندهم، فهم متبعون للدليل، لا يغلون بالنبي عليه الصلاة والسلام في أمرٍ لم يشرعه الله ورسوله، ثم إن حقيقة الأمر أن إنكارهم للمدائح النبوية المشتملة على الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم هو التعظيم لرسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو سلوك الأدب بين يدي الله ورسوله، حيث لم يقدموا بين يدي الله ورسوله فلم يغلوا، لأن الله نهاهم عن ذلك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( أيها الناس! قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يغرنكم الشيطان)، ونهى عن الغلو فيه كما غلت النصارى في المسيح بن مريم، نعم قال: ( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله).

والمهم أن طريق الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وأتباعه، وهو الإمام المجدد، طريقه هي ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لمن تتبعها بعلمٍ وإنصاف، وأما من قال بجهل أو بظلمٍ وجور، فإنه لا يمكن أن يكون لأقواله منتهى، فإن الجائر أو الجاهل يقول كل ما يمكنه أن يقول من حقٍ وباطل، ولا انضباط لقوله، وإذا لم تستحِ فاصنع ما شئت، ومن أراد أن يعرف الحق في هذا فليقرأ ما كتبه الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وأحفاده والعلماء حتى يتبين له الحق إذا كان منصفاً ومريداً للحق.

ثم إن المدائح النبوية التي يشير إليها الأخ، مدائح لا شك أن رسول الله عليه الصلاة والسلام لا يرضى بها، بل إنما جاء بالنهي عنها والتحذير منها، فمن المدائح التي يحرصون عليها ويتغنون بها ما قاله الشاعر:

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم

فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم

وأشباه ذلك مما هو معلوم، ومثل هذا بلا شك كفرٌ بالرسول صلى الله عليه وسلم، وإشراكٌ بالله عز وجل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر لا يعلم من الغيب إلا ما أعلمه الله عز وجل، والدنيا وضرتها وهي الآخرة ليست من جود رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هي من خلق الله عز وجل، هو الذي خلق الدنيا والآخرة، وهو الذي جاد فيهما بما جاد على عباده سبحانه وتعالى، وكذلك علم اللوح والقلم ليس من علوم الرسول عليه الصلاة والسلام، بل إن علم اللوح والقلم إلى الله عز وجل، ولا يعلم منه رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا ما أطلعه الله عليه، هذا هو حقيقة الأمر، وهذا وأمثاله هي المدائح التي يتغنى بها هؤلاء الذين يدعون أنهم معظمون لرسول الله صلى الله عليهم.

ومن العجائب أن هؤلاء الذين يدعون أنهم معظمون لرسول الله عليه الصلاة والسلام تجدهم معظمين له كما زعموا في مثل هذه الأمور، وهم في كثيرٍ من سنته فاترون معرضون والعياذ بالله، فأنصح هذا الأخ الذي يسأل هذا السؤال بأن يعود إلى الله عز وجل، وأن لا يطري رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، وأن يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يمتاز عن غيره بالوحي الذي أوحاه الله إليه، وبما خصه الله به من المناقب الحميدة والأخلاق العالية، ولكنه ليس له من التصرف في الكون شيء، وإنما التصرف في الكون، والذي يدعى ويرجى ويؤله هو الله عز وجل وحده، لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون.

السؤال: لي زميلٌ يقوم بإخراج اثنين ونصف بالمائة من أي مبلغٍ يدخل له كزكاةٍ للمال، وهو يقوم بذلك قبل أن ينفق من ذلك المال أي شيء، فهل ذلك يسقط عنه زكاة المال المشروعة عن المال الذي يحول عليه الحول بعد ذلك، وبالطبع ما يقوم بإخراجه هو أكثر بكثيرٍ من هذه النسبة، لأنه بذلك يخرج عما يحتاجه وعما يزيد مقدماً؟

الجواب: إن الزكاة لا تجب إلا إذا تم الحول عليها، فإذا تم الحول أحصى الإنسان ما لديه وأخرج زكاته، إذا كان من عروض التجارة أو كان من النقد فإنه يخرج عنه ربع العشر، يعني اثنين ونصفاً بالمائة، فيقسم ما عنده على أربعين، والحاصل بالقسمة هو الواجب في الزكاة، إلا ربح التجارة فإنه لا يشترط فيه تمام الحول، فلو اشترى عقاراً بعشرة آلاف ريال للتجارة، ثم بقيت قيمته على هذا الوضع، فلما تم أحد عشر شهراً ارتفعت قيمته حتى بلغت خمسة عشر ألفاً، فإنه يجب عليه أن يخرج زكاة خمسة عشر ألف ريال، وإن لم يتم على هذا الربح إلا شهرٌ واحد، فالحول حول الأصل في ربح التجارة، وكذلك أيضاً في نتاج السائمة، إذا كانت عنده سائمة وأنتجت إنتاجاً يتغير به الفرض، فإنه أيضاً لا يشترط لها تمام الحول.

وهاهنا مسألة تشكل على كثيرٍ من الناس وهي أصحاب الرواتب الذين يأخذونها شيئاً فشيئاً، كيف يخرجون الزكاة؟ يقول بعض الناس: أنا إذا اعتبرت زكاة كل شهرٍ بنفسه صعب علي ذلك، لأنه يشق علي إحصاؤه، فماذا أصنع؟ نقول: أحسن شيء في هذا إذا تم الحول من أول شهرٍ استلمت فيه الراتب، فأدِ زكاة ما عندك كله، فما تم حوله فقد أخرج زكاته في الحول، وما لم يتم حوله فقد عجلت زكاته، وتعجيل الزكاة لا شيء فيه، وحينئذٍ تكون قد استرحت، فتجعل لك شهراً معيناً وهو أول شهرٍ تم به الحول من أول راتب، وتجعل هذا الشهر كلما مر عليك، تخرج زكاة ما عندك، حتى تستريح من مراعاة حساب كل شهرٍ بنفسه.

السؤال: هل يشترط إخراج زكاة المال للمحتاجين من المسلمين، أم تجوز حتى لغير المسلمين، كذلك إذا كانت تجب للمحتاجين من المسلمين فقط، فهل يشترط أن يكونوا ممن يقيمون شعائر الله، حيث نحن في زمنٍ للأسف كثر فيه المسلمون الذين لا يصلون، ولا يقيمون أكثر العبادات، فهل يشترط فيمن تجب لهم الزكاة شروط معينة؟

الجواب: أما الكافر فإنه لا تدفع إليه الزكاة إلا ما كان من المؤلفة قلوبهم، فإن من المؤلفة قلوبهم من الكفار من يجوز أن تدفع لهم الزكاة، وأما الفاسق من المسلمين فإنه يجوز أن تدفع إليه الزكاة، ولكن صرفها إلى من كان أقوم في دين الله أولى من هذا، وأما إذا كان المسلم لا يصلي فإن تارك الصلاة كافر مرتد، لا يجوز أن تصرف له الزكاة، لأن ترك الصلاة كفرٌ مخرجٌ عن الملة، وعليه فإنه ليس أهلاً للزكاة إلا أن يتوب ويرجع إلى الله عز وجل ويصلي، فإنه سوف تصرف إليه الزكاة.

ولا ينبغي أن تصرف الزكاة لمن يستعين بها على معاصي الله، مثل أن نعطي هذا الشخص زكاةً فيشتري بها آلات محرمة يستعين بها على المحرم، أو يشتري بها دخاناً يدخن به وما أشبه ذلك، هذا لا ينبغي أن نصرفها إليه، لأننا بذلك نكون قد أعناه على الإثم والعدوان، والله تعالى يقول: وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2] .

مداخلة: إنما ليس هناك شروط يعني محددة لمن يستحق الزكاة؟

الشيخ: فيه شرط الإسلام، وشرط اتصافه بالاستحقاق، الأصناف الثمانية المعروفة.

السؤال: هناك شخص يعرض علي أن أعطية رأسمالٍ لمشروعٍ تجاري أو أشاركه، وحيث أنني ليس لدي أي خبرةٍ في التجارة، وأخشى على مالي من الضياع، ولكنه هو يجيد التجارة، فهو يقترح علي أن يجنبني الخسارة، بمعنى أن يضمن لي نسبة ربحٍ ثابتة شهرياً، وليس لي دخلٌ بالحساب الكلي لهذه التجارة ولا بالخسارة لو حدثت، علماً بأنه كأي مشروعٍ تجاري خالٍ من أي معاملاتٍ محرمة، أو تجارة فيما لا يرضي الله، فهل ما يقترحه علي بأن يجعل لي نسبة ربحٍ ثابتة شهرياً حلالٌ أم حرام؟ وهل يدخل هذا تحت الربا أم لا؟

الجواب: هذا حرام، ولا يجوز للإنسان أن يعطي ماله شخصاً يفرض عليه كل شهرٍ قدراً معيناً، سواءٌ ربح المال أم خسر، لأن هذا من الميسر، إذ إن المال قد يربح شيئاً كثيراً فيكون ما أعطاك بالنسبة إليه شيئاً قليلاً، وقد يربح شيئاً قليلاً فيكون ما أعطاك بالنسبة إليه كثيراً، وقد لا يربح شيئاً فيخسر هذا العامل من ماله.

ومثل هذا ما جاء به النهي في باب المزارعة من حديث رافع بن خديج ، قال: كان الناس يؤاجرون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على الماذيانات وأقبال الجداول وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام، يعني كانوا يجعلون لصاحب الأرض شيئاً معيناً معلوماً، إما أصواعاً معلومة من الزرع، وإما جهةً معينة من الأرض، وهذا محرم، فهذا الذي ذكرت مثله، ولكن الطريق السليم إلى ذلك أن تعطيه مالك يتجر فيه، ويكون له من الربح نسبة معينة، كنصف الربح أو ربعه أو ثلثه أو ما أشبه ذلك مما تتفقان عليه، فيكون منه العمل ومنك المال، والربح بينكما على حسب ما تتفقان عليه، وهذه هي المضاربة التي أجازها أهل العلم.

السؤال: في إحدى الحلقات السابقة من برنامجكم سمعت رداً لأحد المشايخ عن سؤالٍ حول نجاسة الكولونيا والروائح المضاف إليها الكحولات، وورد في رد فضيلة الشيخ أن ذلك متوقفٌ على كمية الكحول المضافة للكولونيا، بمعنى أنه إذا كانت مضافةٌ لها كمية كحول بحيث إذا شرب منها الإنسان كميةً كبيرةً جداً ولم يسكر فليست بمحرمة عملاً بالقاعدة الشرعية: ما أسكر كثيره فقليله حرام. وأنا أسأل: أليس القليل من الكحول المضاف لأي شيء -وليكن دواءً مثلاً- من كثير وهو الكحول مسكراً؟ كذلك المضاف إلى الكولونيا، أليس في الأصل هو قليلٌ من كثير مسكر وهو الكحول؟ فهل القياس يكون على الكحول أساساً، كقليلٍ من كثير، أم على الكولونيا، أو الدواء، كقليلٍ من كثير، وهو مضافٌ إليه قليلٌ من كثيرٍ مسكر وهو الكحول، أرجو التكرم بإيضاح هذه المسألة، وتفصيل القول فيها حتى نكون على بينةٍ من الأمر جزاكم الله خيراً؟

الجواب: هذا الذي ذكره الأخ السائل أظن أنه صدر مني في بعض الحلقات السابقة، وذكرت أنه إذا اختلط المسكر بشيء، ولم يظهر له أثر فإنه لا عبرة به، وذلك لأنه إذا اختلط بهذا الشيء ولم يظهر له أثر فقد تلاشى فيه وتضاءل وذهب، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فما دام هذا قد قضى عليه فإنه لا أثر، وأظن أنني مثلت بذلك أو نظرت لذلك بما لو سقطت نجاسةٌ في ماء، ولم يظهر لها أثرٌ فيه، لا بالطعم ولا باللون ولا بالريح، فإن الماء يبقى على طهوريته، فهذا الشراب أو الدواء الذي خلطت فيه كمية قليلة من الكحول، لكنها لا تؤثر فيه، يعتبر طاهراً ومباحاً، لأن الحكم يدور مع علته كما قلت.

وأما الكثير والقليل فمعناه أن هذا الشراب إذا كان لو أكثرت منه أسكرك، ولو شربت قليلاً منه لم تسكر فإن القليل منه وإن لم يسكر يكون حراماً، وذلك لأنه يكون وسيلةً إلى الكثير، فإن النفس تطمع في هذا وتزداد منه حتى يصل بها إلى حد الإسكار، ولهذا حرم الشارع ذرائع المحرمات ووسائلها، هذا معنى قول الرسول عليه الصلاة والسلام: ( ما أسكر كثيره فقليله حرام). وليس معنى الحديث ما وقع فيه قليلٌ من مسكر وهو كثير فإنه حرام، بل ما وقع فيه قليل من مسكر، وتلاشى فيه، ولم يظهر له أثر فإنه لا عبرة به، لأنه لم يبقَ له أثر.

السؤال: يقول الله تعالى في كتابه العزيز: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:77-79] ، فمعنى هذا أنه لا يجوز للحائض ولا النفساء أن تمس المصحف، ولكني أعرف أن المذهب المالكي يستثني من ذلك المعلم والمتعلم، ذكراً كان أو أنثى، ولو كان على غير طهارة، فهل هذا صحيحٌ، وإذا لم يكن كذلك فهل النهي عامٌ لمن عليه حدثٌ أصغر أو أكبر، أم أنه خاصٌ بمن عليه الحدث الأكبر فقط؟

الجواب: هذه الآية الكريمة لا تعني القرآن الكريم في قوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79] ، وإنما المراد به اللوح المحفوظ، واقرأ واستمع إلى الآية: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:77-79] ، الضمير في (يمسه) يعود إلى الكتاب المكنون لأنه أقرب مذكور، والقاعدة في اللغة العربية تقول، إن الضمير يعود إلى أقرب مذكور، وعلى هذا فالذي لا يمسه المطهرون هو الكتاب المكنون، والتعبير بقوله تعالى: الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79] اسم مفعول، ولم يقل: المطهِرون اسم فاعل، ولو كان المراد لا يمسه إلا الطاهر لقال: لا يمسه إلا المطهِرون، فلما قال: المطَهرون. علم أنهم الملائكة الذين طهرهم الله سبحانه وتعالى، فكانوا عباداً مكرمين، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.

وعلى هذا فلا دليل في الآية على تحريم مس المصحف لغير الطاهر، لكن في حديث عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يمس القرآن إلا طاهر). فهذا هو الذي استدل به من يرى وجوب التطهر لمس المصحف، استدلوا بهذا الحديث الذي كان مشهوراً بين الناس ومعمولاً به.

وأما ما ذكرت عن مذهب المالكية فلا أدري عنه أهو مذهبهم أم لا؟ ولكن الخلاف في هذه المسألة معروف، اشتراط الطهارة لمس المصحف، الطهارة من الحدث وعدمها.

مداخلة: إذاً على هذا من به حدثٌ أصغر يجوز له أن يمس المصحف؟

الشيخ: المسألة خلافية في هذا، العلماء اختلفوا فيها، الأرجح عندي أنه لا يشترط، ولكن الأولى أن لا يمسه إلا بطهارة، هذا هو الأولى، وإذا كان محتاجاً إلى ذلك فليلبس القفازين، أو ليقلب المصحف بعودٍ أو نحوه ويخرج من الخلاف.

مداخلة: أما بالنسبة للحدث الأكبر فهذا بالإجماع؟

الشيخ: ما أدري هذا بالإجماع أم لا.

مداخلة: حتى الحدث الأكبر؟

الشيخ: الصحيح أن الجنب لا يقرأ القرآن ولو عن ظهر قلب حتى يتطهر بخلاف الحائض، فإن الحائض لم يثبت فيها حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام في منعها عن قراءة القرآن، ثم إن حيضها ليس بيدها، بخلاف الجنب يمكنه أن يتطهر ويزيل المانع ويقرأ القرآن.


استمع المزيد من الشيخ محمد بن صالح العثيمين - عنوان الحلقة اسٌتمع
فتاوى نور على الدرب [707] 3913 استماع
فتاوى نور على الدرب [182] 3693 استماع
فتاوى نور على الدرب [460] 3648 استماع
فتاوى نور على الدرب [380] 3501 استماع
فتاوى نور على الدرب [221] 3497 استماع
فتاوى نور على الدرب [411] 3479 استماع
فتاوى نور على الدرب [21] 3440 استماع
فتاوى نور على الدرب [82] 3439 استماع
فتاوى نور على الدرب [348] 3419 استماع
فتاوى نور على الدرب [708] 3343 استماع