فتاوى نور على الدرب [5]


الحلقة مفرغة

السؤال: لي خال توفي منذ حوالي سنتين أو أكثر ولخالي أخ أكبر منه، وطلب مني أن أحج لهما وحجيت، ولما ذهبت للحج وفي يوم رمي الجمرات ضعت عن الإخوة الذين معي، وتعبت في البحث عنهم، فلم أذبح في اليوم الأول وذبحت في اليوم الثاني، وقد حلقت رأسي في اليوم الأول، فهل يجوز لي أم لا؟

الجواب: هذه النقطة التي أشرت إليها وهو قوله: إنه طلب أن أحج عنهما فحج، هو يمكن أن يكون حج عن واحد منهما، أما إذا حج عنهما جميعاً في نسك واحد فإنه لا يجوز؛ لأن النسك الواحد لا يتبعض، لا بد أن يكون عن شخص واحد، فإذا أراد شخص أن يحج عن أمه وأبيه مثلاً في سنة واحدة بنسك واحد فإن ذلك لا يجوز، وإنما يحرم عن أبيه في سنة أو عن أمه في سنة وعن الوالد الثاني في السنة الأخرى، وأما بالنسبة لما فعله من تأخير الذبح إلى اليوم الثاني والحلق في اليوم الأول فإنه لا بأس به، وذلك أن الإنسان يوم العيد ينبغي أن يرتب الأنساك التي تفعل فيه كالتالي: أولاً يبدأ برمي جمرة العقبة، ثم بعد ذلك ينحر هديه، ثم يحلق رأسه أو يقصره والحلق أفضل، ثم ينزل إلى مكة فيطوف طواف الإفاضة وهو طواف الحج، ويسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعاً أو كان قارناً أو مفرداً ولم يكن سعى بعد طواف القدوم، فإن كان قارناً أو مفرداً وقد سعى بعد طواف القدوم فإنه لا يعيد السعي مرة ثانية.

السؤال: ما حكم صلاة الضحى، وإذا صلاها الإنسان مرة وتركها أو مدة وتركها هل هو ملزم بها أم لا؟ وهل يصح أن يتوب ويرجع إليها؟

الجواب: سنة الضحى أو صلاة الضحى اختلف العلماء في سنيتها، فمنهم من يرى أنها ليست بسنة، ومنهم من يرى أنها سنة على وجه الإطلاق في الموضعين، ومنهم من يرى أنها سنة في حق من ليس له تهجد في الليل، وليست سنة فيمن له تهجد في الليل، والراجح عندي أنها سنة مطلقاً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر أن على كل إنسان في كل صباح يوم على كل عضو منه صدقة، قال عليه الصلاة والسلام: ( ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى ) فهذا يدل على أنه ينبغي للإنسان أن يصلي ركعتين في ضحى كل يوم، حتى يطمئن إلى أداء ما عليه من الصدقة على كل عضو منه، ويكون ما يأتي من التسبيح والتهليل وقراءة القرآن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من أعمال الخير يكون زيادة في حسناته.

مداخلة: لكنه أيضاً يسأل عن الاستمرارية، هل يجوز أن يقطعها؟

الشيخ: بالنسبة لجواز القطع فنعم يجوز للإنسان أن يقطعها كما يجوز أن يقطع أيضاً غيرها من الأعمال النوافل، إلا أنه ينبغي للرجل إذا عمل عملاً أن يثبته ويديم عليه، لأن هذا دأب النبي صلى الله عليه وسلم، أنه إذا عمل عملاً أثبته، وقد قال لرجل من أصحابه: ( لا تكن مثل فلان كان يصلي من الليل فترك قيام الليل ).

السؤال: عندي كمية من أكياس الأرز، وهي بمستودع لنا بوادي الدواسر، ويأتي إلي أناس يشترونه مني بقيمته في السوق، ويدينونه على أناس آخرين، فإذا صار على حظ المدين أخذته منه بنازل ريال واحد مما اشتراه مني، ثم يأتي مثلهم أناس بعدما يصير على حظي ويشترونه وهكذا وهو في مكان واحد، إلا أنهم يستلمونه عداً في محله، فهل في هذه الطريقة إثم أم لا؟

الجواب: نعم هذه الطريقة حيلة على الربا المغلظ الجامع بين التأخير والفضل، أي: بين ربا النسيئة وربا الفضل، وذلك لأن الدائن يتوصل بها إلى حصول اثني عشر مثلاً بعشرة، وأحياناً يتفق الدائن والمدين على هذا قبل أن يأتيا إلى صاحب الدكان على أنه سيدينه كذا وكذا من الدراهم العشرة الاثني عشر أو أكثر أو أقل، ثم يأتيان إلى صاحب الدكان ليجريا معه هذه الحيلة، وقد سمى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه الطريقة: الحيلة الثلاثية، وهي بلا شك حيلة على الربا: ربا النسيئة وربا الفضل، فهي حرام ومن كبائر الذنوب، وذلك لأن المحرم لا ينقلب مباحاً بالتحيل عليه، بل التحيل عليه يزيده خبثاً ويزيده إثماً، ولهذا ذكر عن أيوب السختياني رحمه الله أنه قال في هؤلاء المتحيلين: (إنهم يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، لو أنهم أتوا الأمر على وجهه لكان أهون). وصدق رحمه الله، فإن المتحيل مخادع بمنزلة المنافق مع الكافر الصريح، يظهر أنه مؤمن وهو كافر، وهذا المتحيل على الربا يظهر أن بيعه وعقده بيع صحيح وحلال، وهو في الحقيقة حرام، وقد جعل الله سبحانه وتعالى كفر المنافقين أعظم من كفر الذين يصرحون به، حيث قال: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145] كذلك هذا المتحيل على الربا أشد إثماً ممن يأتي الربا الصريح، ثم إنه أسوأ حالاً أيضاً، كيف؟

لأن هذا المتحيل يشعر بأنه على طريق سليم فيستمر ولا يخجل من الله ولا ينزع عن غيه، بخلاف الذي يأتي الشيء صريحاً فإنه يشعر بالخجل من الله، وبأنه ارتكب المعصية ويحاول أن يتخلص منها بالتوبة، ولذلك هذا أسوأ حالاً ومآلاً من الذي يأتي الربا الصريح.

أما موضوع العد وهو في مكانه وجعل ذلك من باب القبض فإنه أفتى به بعض الناس نفسه أو غيره استناداً إلى قول الفقهاء رحمهم الله: ويحصل قبض ما بيع بعده، وعندي أنه من حيث الوجهة الشرعية لابد مع ذلك من القبض والاستيلاء التام الذي يكون الشيء في قبضتك وتحت حوزتك، لكن إذا بيع بالعد لابد مع ذلك بالإضافة إلى كونه في حوزتك وفي قبضتك لابد مع ذلك من عده، فإن كان هذا مراد الفقهاء فهو مرادهم، وإن لم يكن مرادهم فهذا هو ما تقتضيه الأدلة الشرعية أن القبض أن يكون الشيء في قبضتك، لكن إذا كان قد بيع بعد أو كيل أو وزن أو ذرع فلابد من وجود هذه الأشياء ليتم القبض، ويؤيد ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع، يعني: حيث تشترى، وهو المكان الذي اشتريت فيه حتى يحوزها التجار إلى رحالهم، وهذا مسلك من مسالك تحريم هذه المعاملة التي أشار إليه الأخ.

فالمسلك الأول: أنها حيلة وخداع على الربا، ربا الفضل والنسيئة.

والمسلك الثاني: أنها معصية للنبي صلى الله عليه وسلم، حيث ( نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم).

ومن المؤسف جداً وحقاً أن كثيراً من الناس يتعاملون بها -كما أشار إليه الأخ- ظناً منهم أن ذلك من باب التورق الذي أجازه بعض أهل العلم، ولكن ذلك ليس من باب التورق، ولهذا تجد أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذا أتى على ذكر التورق ذكر خلاف أهل العلم فيه، ولما ذكر هذه الحيلة الثلاثية قال: إن هذه من الربا بلا ريب. فدل ذلك على أنها ليست من مسألة التورق في شيء، وهو واضح أيضاً، فإن التورق كما قال أهل العلم أن يحتاج الإنسان إلى دراهم فيشتري ما يساوي مائة بمائة وعشرة مثلاً إلى أجل، فهنا تجد في مسألة التورق أن الشراء وقع على عين السلعة، وأنها مقصودة، وأنه لا اتفاق بين الدائن والمدين على الربح قبل الملك؛ لأن الدائن والمدين في الصورة التي أشار إليها السائل اتفاق على الربح قبل الملك، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن، يعني: ما لم يكن في ضمانك وتحت ملكك وقهرك، فالربح فيه منهي عنه، وهذا يربح فيما لم يضمن، وما لم يكن في ضمانه، أعني: الدائن، ثم إن هذه المعاملة تختلف عن التورق؛ لأن التورق كما أشرنا إليه يشتري السلعة بعينها، يريدها بعينها ليبيعها، فتجده يقلبها وينظر فيها وينظر نوعها وجنسها، لكن هذه الحيلة أو هذه الصورة التي أشار إليها السائل الدائن لا يهمه ما في هذه الأكياس، ربما تكون هذه الأكياس قد أكلتها السوس، وربما أكلتها الأرضة، وربما تعفنت؛ لأنه لا تحمل ولا تنظر ولا يفكر فيها، بل في ظني لو أن صاحب الدكان أو صاحب المستودع أتى بأكياس مملوءة رملاً وقال: هذه أكياس سكر أو أكياس ما شاء ثم باعها على الدائن وباعها على المدين وذاك اشتراها بنقص في ظني أن المعاملة ستمشي، لأن حسب ما نسمع أنهم لا يفكرون ولا يقلبون ولا ينظرون، فبالله عليكم أيها الناس! قارنوا بين هذه الحيلة وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( قاتل الله اليهود، إنه لما حرم الله عليهم شحومها جملوه -يعني: أذابوه- ثم باعوه فأكلوا ثمنه ) فانظروا أيهما أقرب إلى صورة الحرام: فعل اليهود الذي دعا النبي عليه الصلاة والسلام عليهم بقتال الله لهم، أي: بلعنه إياهم على قول، أو بإهلاكه إياهم على ما نراه، فإن معنى: قاتل الله كذا، أي: أهلكهم، لأن من قاتل الله فهو مغلوب مقتول.

على كل حال: المسلم يجب أن ينظر أيهما أقرب إلى صورة المحرم ما فعله اليهود الذين دعا عليهم النبي عليه الصلاة والسلام بما دعا عليهم به، أو هذه الصورة التي يفعلها هؤلاء المتحيلون الذين نرجو الله سبحانه وتعالى أن يفتح عليهم وأن يهيئ لهم طريقاً مباحاً، والطريق المباح مثلاً: أن يستعملوا السلم، ولو أطلت في الجواب لأن الحاجة أو الضرورة داعية إلى فعله..

أن يستعملوا طريقة السلم الذي كان معروفاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، بأن يبذل الدائن دراهم يشتري بها سلعة تسلم إليه من المدين عند حلول الأجل، مثل أن يقول: هذه عشرة آلاف ريال نقداً خذها، على أن تأتي إلي بعد سنة بسيارة موديلها كذا وكذا وكذا، السيارة تساوي نقداً اثني عشر ألف ريال، لكنها من أجل التقديم صارت بعشرة، فيكون الدائن ربح ألفين وذاك استفاد من الدراهم وانتفع بها، هذه الطريقة طريقة سليمة جاء بها الشرع، لكن الناس لا يستعملونها، لماذا؟

لأن الدائن يقول: إذا عرف هذا الشيء ربما يأتي وقت الحلول والسيارات رخيصة، فلم يكن عندي ربح، فلذلك يتهربون منه، وفيه أيضاً طريق آخر: أنه إذا احتاج الرجل إلى سلعة معينة فبدلاً من أن يلف بهذه الطريقة المحرمة يذهب إلى صاحب السلعة التي عنده ويشتريها هي عينها، فيقول: بعني هذه وهي تساوي عشرة مثلاً يقول: بعنيها باثني عشر ألفاً، أو بخمسة عشر ألفاً، أو ما أشبه ذلك، فيكون المراد بهذا العقد نفس السلعة المعينة، وهذه طريقة سليمة لا بأس بها.

على كل حال: من خلصت نيته وراقب الله عز وجل واتقى الله فإن الله سيجعل له من أمره يسراً، وسوف يرزقه الله تعالى من حيث لا يحتسب.