أرشيف المقالات

من عظات القرآن الكريم

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
من عظات القرآن الكريم

من حديث أبي أمامة في بيان مقاصد القرآن: أمره صلى الله عليه وسلم الأمة بالعمل بالمحكم، والإيمان بالمتشابه، والطمع في الوعد، والخوف من الوعيد، والعظة بالقصص وامتثالاً للعظة بالقصص نسوق للمسلمين قصص قوم عاد مع رسولهم هود صلى الله عليه وسلم:
نص القرآن على أن قوم عاد هم القرن الثاني من ذرية نوح الذين استخلفهم الله في الأرض، وميزهم عن قوم نوح بالأمور الآتية: عظم خلقهم، وبراعتهم في الصناعة والبناء بنحت الحجارة من الجبال لاتخاذ المصانع والقصور على جوانب الطرق، وإمدادهم بزينة الدنيا الكاملة من الأموال والبنين والبساتين الفاخرة، والعيون الجارية وسطها، بيد أنهم استعملوا قوتهم في البطش بغيرهم بغياً وعدوناً وكفروا بأنعم الله بدل شكرها، ورجعوا إلى سنن قوم نوح من الشرح بالله تعالى.
فتنفيذاً لسنته، وتحقيقاً لرحمته، وتكميلاً لنعمته، بعث لهم رسوله هوداً يأمرهم بالمعروف وبنهاهم عن المنكر؛ يدعوهم إلى عبادة الله وحده وشكر نعمائه، ويذكرهم بما آل إليه أمر قوم نوح بعد المعصية والكفر بنبيهم نوح عليه السلام، كما ذكرهم بما آتاهم الله من النعم، فلم يزدهم ذلك إلا توغلاً في الباطل ونفوراً عن الحق، وعناداً لرسولهم، وجحوداً بآيات ربهم.
 
﴿ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ﴾ [هود: 59-60]، ﴿ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ﴾ [هود: 53-54].
 
فتحداهم هود عليه السلام بأن آيته لهم أنهم أقوى أهل الأرض، وأنهم مع ذلك إن أمكنهم أن يضروه بشيء فليس برسول، وأن عجزوا عن إيصال الأذى إليه على ضعفه وقتهم، وقلة ماله وكثرة أموالهم، فهذه آيته الدالة على أنه رسول الله إليهم، كما بين الله بقوله حاكياً عن هو عليه السلام ﴿ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴾ [هود: 54-57]، ولكنهم بعد هذا التحدي لم يستطيعوا أن يصلوا إليه بأذى، وقامت حجة الله عليهم، فلم يكن بعد ذلك إلا أن يعاملهم الله بسنته في الأمم، فينجي من آمن منهم ويهلك من أعرض عن اتباع الرسول والاستماع للحق.
 
استوطن قوم عاد صحراء الأحقاف، وهي صحراء مملوءة بتلال الرمل.
واحدها "حقف" وهو التل من الرمل؛ ولم تكن شريعتهم أكثر من توحيد الله تعالى، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، وما يتبع ذلك من البعث والحساب والجنة والنار؛ وترك الظلم وإقامة العدل في الأرض، وهو دين الله في جميع كتبه، وعلى لسان جميع رسله، فأي أمة كذبت بذلك رسولها فقد كذبت جميع الرسل.
وعلى هذا جاءت عبارة القرآن الكريم في شأنهم وشأن غيرهم من الأمم كقوله تعالى ﴿ كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الشعراء: 123]، ﴿ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ ﴾ [هود: 59]، ﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الشعراء: 141]، ﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الشعراء: 160]، إلى غير ذلك من الآيات التي دلت على أن كل أمة كذبت رسولها فقد كذبت جميع الرسل وإن كان رسوله واحداً، لاتفاقهم صلوات الله وسلامه عليهم في الدعوة، كما أشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في خبر البخاري بقوله «الأنبياء أولاد علات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد» ومعناه أنهم كأولاد الضرات من رجل واحد، فهم وإن اختلفت شرائعهم في الفروع فدعوتهم واحدة وأصولهم متحدة؛ وهذا معنى قوله عز وجل ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ ﴾ [آل عمران: 19]، أي الانقياد لله ظاهراً وباطناً، سواء في ذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأمة نوح وما بينهما من الأمم.
 
واتخذ قوم عاد في هذا الوطن كل ما استطاعوا من أسباب الترف والنعيم حتى كأنهم خالدون في الدنيا ﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ[1] آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ﴾ [الشعراء: 128-129]، إلى آخر ما ذكر الله عنهم في سورة الشعراء.
 
كيف كان هلاكهم؟
بدأهم الله بجفاف أنهارهم، وذبول أشجارهم، وذهاب ثمارهم وزروعهم حتى لم يجدوا من الماء ما يدفعون به ما نزل بهم وبدوا بهم من العطش الشديد.
كل ذلك ورسولهم ينذرهم ويقول لهم ﴿ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ﴾ [هود: 52]، ﴿ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ﴾ [فصلت: 15]، فبعث الله عليهم سحابة سوداء اعترضت سماء أرضهم، فهرعوا من مساكنهم واجتمعوا تحت السحابة زادوا استهزاء بينهم وقالوا ما حكاه الله عنهم بقولهم ﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً[2] مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ﴾ [الاحقاف: 24].
 
فعل الله ذلك بهم ليكون أشد في تنكيلهم ﴿ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً ﴾ [النساء: 84]، حيث يجيئهم الشهر كله من الجهة التي كانوا يتلمسون منها أسباب الخير والنجاة.
وفي هذه الجمل من الآية الكريمة المتقدمة تنبيه وتحذير للذين تتسع عليهم النعم فتغرهم وتصرفهم عن شكرها إلى الكفر بها.
وكأن الله خاطبهم بقولهم ﴿ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [الاحقاف: 24-25]، على أثر قولهم لرسولهم: آتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين.
 
ويؤخذ من مجموع ما قصه الله في عذابهم أنهم جمع لهم ثلاثة أنواع من العذاب: أمطرهم ذلك السحاب صواعق من نار؛ وصاح عليهم الملك؛ وأرسلت عليهم الريح العقيم، أي الخالية من الرحمة؛ فكانت لا تمر بشيء إلا جعلته منتناً كالعظام البالية ﴿ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ﴾ [الذريات: 41-42]، ﴿ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ﴾ [الحاقة: 6-8]، كانت الريح تحمل الواحد منهم فترفعه ثم ترسله وقد انقسم نصفين ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [المؤمنون: 41].
 
فائدة:
ذهب طائفة من المفسرين إلى أن قوم عاد لم يهلكوا بالصحية؛ وخرجوا عن ظاهر الآيات الواردة في سورة قد أفلح المؤمنون؛ ظناً منهم أن غير قوم عاد.
ولا ينبغي أن يلتفت إلى هذا القول؛ لأن قوله تعالى في سورة قد أفلح المؤمنون بعد ذكر قوم نوح ﴿ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ ﴾ [المؤمنون: 31]، إلى قوله: ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ ﴾ [المؤمنون: 41]، إنما هو حكاية عن قوم عاد كما بينه الله في سورة الأعراف حاكياً عن هود ﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ﴾ [لأعراف: 69]، وهو جمع بين أطراف القصة لا ينبغي إغفاله.
♦♦♦♦

نسوق هذه القصة تنبيهاً للمسلمين خاصة وللناس عامة من أهل هذا العصر على أن الله لا يفرق في سننه بين أمة وأمة متى أعرضت عن دينه وعصت رسله، وافتتنت بما هي فيه من النِعم؛ بل الناس اليوم أحوج منهم إلى التذكير، لأن المذكرين ثمة كانوا من رسل الله تعالى؛ والتذكير من الرسل ليس كالتذكير من غيرهم.
وأن الله قد أمر رسوله الخاتم أن يذكر أمته بوعيد القرآن لتنشيط النفوس وإيقاظ القلوب الغافلة إلى ما سلف من معاملة الله للناس في الأمم السالفة، فقال ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ [ق: 45]، فإن الخوف من الوعيد يزيد المؤمنين إقبالاً على الطاعة وبعداً عن المعصية، ويحط من طغيان الطاغين؛ وربما نقل الكافرين من كفرهم والمبطلين من باطلهم إلى الإيمان والحق.
 
هذا وأن الله قد وعد عباده المخلصين أن ينجيهم من البلاء إذا أنزله بغيرهم ممن يخالطونهم في مساكنهم وأعمالهم، توسيعاً للطمأنينة والرحمة التي يحوط بها المؤمنين في هذه الدنيا.
ألا تراه قد ختم قصة عاد في سورة الأعراف بقوله: ﴿ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [لأعراف: 72]، وقوله في سورة يونس ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 103].
 
فائدة أخرى:
قال الله تعالى في آخر قصة عاد وآخر قصص غيرهم من سورة الشعراء ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [الشعراء: 8-9].
 
خاطب الله رسوله وكل مؤمن بهذه الآية إلفاتاً لما في قصص قوم عاد من العبر، وبين تعالى أنه عزيز ينزل انتقامه بمن يستحقه، ورحيم ينجي برحمته المؤمنين خاصة، استعمالاً لكل اسم فيما يليق بمظهره من الخير والشر.
وهو يستعمل هذا الأسلوب الحكيم في كل قصة افترق أهلها فرقتين: فرقة استحقت الانتقام بكفرها ومعاصيها، وأخرى استحقت النجاة والرحمة بإيمانها وطاعتها، فيثبت المؤمنون على جهادهم في الحق ومحافظتهم على الطاعة وبعدهم عن المعصية وطرحهم ما يجول عادة بالنفوس من الجزع والخوف إذا كثرت المنكرات وعمت المعاصي.
وقد سألت زينب أم المؤمنين رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في البخاري عن عائشة عنها فقالت «يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال نعم إذا كثر الخبث» أي الفساد في الأرض والمعاصي.
وهذا الحديث لا يعارض ما مرّ من تعهد المؤمنين بالرحمة والنجاة متى لم يسكتوا على المنكر واستمروا في جهادهم وإرشادهم.
أما إذا صاروا إلى حالة لا ينكر معها المنكر ولا يؤمر معها بمعروف، وتركوا العصاة يفعلون ما يشاءون؛ فإن وجودهم إذ ذاك يصير كعدمهم، ويعم الله بالعذاب الطائفتين كما في حديث البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا أنزل الله العذاب على قوم أخذ صالحهم بفاسدهم ثم يبعثون على نياتهم».
 
وهنا ننبه المؤمنين إلى الاستمرار في جهادهم وإرشادهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وغضبهم لله وهم بعد ذلك محفوظون بوعد الله الصادق ورحمته الواسعة من أن ينالهم ما ينال سواهم ﴿ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 41].
 
مجلة الهدي النبوي: المجلد الخامس، العدد 12-13، رجب 1360هـ



[1] الريع: الطريق.


[2] العارض: السحاب المعترض في السماء.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١