الإنسان يقرر مصيره في هذه الحياة


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، جعل عاقبته لمن اتقاه، وصلاة الله وسلامه على نبيه ومصطفاه سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحابته وجميع من آمن به واستن بسنته واهتدى بهداه، أما بعد:

فيا معشر الأبناء والإخوان أحييكم جميعاً بتحية الإسلام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ومرة ثانية أقول: لقد سبق لنا أن اجتمعنا في بيوت الله على حديث شريف من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعدة مرات؛ إذ الحديث كان ذا فقرات، فجلسنا على كل فقرة ساعة من الساعات ونحن في آخر فقرة من ذلكم الحديث النبوي الشريف، ونص الحديث نتلوه تذكيراً لمن نسي، وتعليماً لمن جهل، يقول أبو مالك الأشعري أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ).

فموضوع حديثنا لهذه الليلة الجملة الطيبة من هذا الحديث الطيب الشريف: ( كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ) من هنا استنبطنا ذلكم المعنى الذي عنون به أهل مركز الدعوة لهذه الكلمة: (الإنسان يقرر مصيره في هذه الحياة).

فقوله عليه الصلاة والسلام: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) يعني: إن أعتقها فهو الفاعل وإن أوبقها فهو الفاعل، فالإنسان هو الذي يقرر مصير نفسه الآن في الدنيا قبل الآخرة، فهو يأخذ نفسه ويدخل بها السوق ويحرج عليها ويبيعها، فإن باعها للرحمن أعتقها، وإن باعها للشيطان أوبقها أي: أهلكها.

ومعنى هذا: أنه لا جبر ولكن حرية واختيار، فكل الناس أبيضهم وأسودهم سواء، وشريفهم ووضيعهم سواء (كل الناس يغدو) ويحرج على نفسه في سوق الدلالة، وليس هناك من يشتري سوى الرحمن أو الشيطان، فمن باعها للرحمن أعتقها وخلصها من العبودية للشيطان، من أن يسترقها الشيطان في هذه الحياة، ثم خلصها من عذاب الله في الدار الآخرة.

ومن باعها للشيطان -قطعاً- كان قد أهلكها، فهو يقدمها رقيقة يسخرها الشيطان وأعوانه كما يسخر السيد عبده، وبالتالي يهلكها الإهلاك الكامل؛ لأن الخسران الحق ليس أن يفقد الإنسان وظيفة أو يفقد امرأة أو ولداً أو مالاً أو جاهاً وإنما الخسران أن يفقد نفسه، وفي القرآن الكريم آيتان كلتاهما تقرر هذا المعنى، وهو أن الخسران ليس أن تفقد متاعاً من متاع الحياة رخص أو غلي، الخسران -يا عبد الله- أن تفقد نفسك، ومن خسر نفسه خسر كل شيء.

قال تعالى من سورة الزمر: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15]، أن يدخل المرء عالماً من الشقاء، فيه من ضروب العذاب وصنوف الهوان الأمر الذي لا تطيقه الجبال فضلاً عن الإنسان، عالم الشقاء المعروف بالنار أو بالجحيم، هذا العالم لا يدخله الإنسان دخولاً عادياً وإنما يدع إليه دعاً، يقول تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا [الزمر:71]، ويقول: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [الطور:13-14].

أحببت أن أذكر ضرباً من أنواع العذاب للعبرة: يقول الله تعالى من سورة النحل: زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [النحل:88] يعني: في هذه الحياة يفسدون عقائد الناس ويفسدون أخلاق الناس، ويفسدون أموال الناس ويفسدون أجسام الناس، فهؤلاء يعذبون كما يعذب سائر الناس، ولكن يزاد عذابهم بسبب إفسادهم؛ لأن شرهم منتقل إلى غيرهم.

قال الحبر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية: (هذا العذاب الذي يزادونه هو عبارة عن عقارب، العقرب الواحدة كالبغلة الموكفة تلسعهم) والعقرب في دنيانا حشرة معروفة من الحشرات؛ ولكنها ترهب؛ لأنها تذيق الموت.

هذه على صغرها وتفاهتها نفزع لها، فكيف بها إذا كانت كالبغلة المسرجة وتلسع بشولتها وتضرب بإبرتها؟ كيف يكون سمها؟ وكيف يجري في الآدمي؟ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [النحل:88].

معاشر الأبناء! نبقى في محيط هذه الجملة النبوية الكريمة: (كل الناس يغدو ) وما نحن إلا أفراد من أولئك الناس، فلا تتصور أن الحديث يعني غيرك، لا والله، أنا وأنت ومن يستمع ومن لا يستمع وكل إخواننا من بني آدم ينتظمهم هذا اللفظ العام: (الناس).

يغدون: يذهبون صباحاً، إذ الغدو: الذهاب أول النهار، والرواح عكسه: الذهاب آخر النهار، وورد في هذا الشأن ( لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ).

وهذا بيع عاجل بآجل، روحة يروحها العبد في سبيل الله، وقد تكون لساحات الجهاد، وقد تكون إلى بيت الله لأداء فريضة من فرائض الله، وقد تكون لزيارة ولي عرفته وأحببته في الله، وقد تكون لصلة رحم من أرحامك من أهل الإيمان والإسلام، هذه الغدوة أو الروحة -إن كانت في المساء- خير من الدنيا وما فيها من ذهب وفضة، بل من صامت وناطق، وهذا هو الواقع؛ لأن الدنيا لو ملكها الإنسان سوف يغادرها ويتركها وراءه، ثم لو ملكها الإنسان أسائلكم بالله هل يستطيع أن يأكل عن غيره؟ هل يستطيع أن يأكل أكثر من ثلاث وجبات أو أربع وجبات؟ هل يستطيع أن يشرب أكثر من سائر الناس؟ هل يستطيع أن يلبس أكثر من بدلة يلبسها الناس؟ هل يستطيع أن ينام على ألف سرير وسرير، أو لا ينام إلا على سرير كما ينام الناس؟

فما هي قيمة هذه الحياة؟ لو قومت تقويماً صحيحاً لم تكن إلا كما قال الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)؛ وذلكم لهوانها على الله.

في القرآن الكريم في سورة الزخرف يا أهل القرآن العظيم يقول تعالى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [الزخرف:33] يعني: على الكفر والضلال، وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35].

فسبحان الله ماذا انتظم كتاب الله، فقوله عز وجل: وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ [الزخرف:33] إنها تعني هذه المصاعد الآلية، وقد رأيناهم الآن يتفنون في صنعها فيجعلونها مموهة بالذهب مطلاة، ويظهرون عليها إلى أعلى طبقات المنابر وسطوحها، في الوقت الذي ما كان الناس يعرفون المصاعد الآلية، وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ [الزخرف:33] والمقصود ( لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ) فمن المغبون إذاً؟ المغبون ذاك الذي يغدو في سخط الله ويروح في سخط الله، ذاك الذي يمشي إلى الباطل، ذاك الذي يمشي إلى اللهو، ذاك الذي يمشي للإفساد والإضرار بالخلق، فإنه يغدو ويروح في سخط الله.

إذاً: معاشر الأبناء في هذه الحياة يتقرر مصير الإنسان، قال تعالى: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ [الزلزلة:1-6].

كان أهل العلم يفسرون هذا اللفظ، أي: رؤية العمل برؤية نتائجه ومسبباته وما ترتب عليه من خير أو غيره، والآن ومع هذه الكشوفات ومع هذه الاختراعات ونحن نقترب من عالم الحقائق، وقد أخذت نوافذ الكوة تتفتح أمامنا؛ وذلكم لقربنا من عالم الحقائق، أصبحت الآية تفهم كما هو ظاهرها (ليروا أعمالهم) فالآن يعرض الفيلم السينمائي أو تعرض الحادثة على التلفاز أو الفيديو فترى الجاني وفي يده مدية أو سكينة أو مسدس وهو يطعن أو يضرب أخاه فلا يستطيع أن ينكر، وترى الرجل يذبح أخاه بمدية ويتشحط أخوه في دمه أمامه، فهل ينكر؟

إذاً: سيعرض على العبد عمله فيرى نفسه ساجداً والدموع تنهمر من عينيه، كما يرى نفسه ضاحكاً ساخراً حتى يقع على ظهره استهزاءً واستخفافاً بأولياء الله وصالحي عباده، يرى نفسه يطوف ببيت الله وهو يلهج بذكره ودعائه، كما يرى نفسه على طاولة القمار أو الخمر والمسكرات وهو يتعاطاها في غفلته وسكرته كما هو.

(ليروا) أي ليريهم الله أعمالهم كما هي، ثم يجزيهم بها: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8].

وهنا دار العمل وهناك دار الجزاء، فقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ [الزلزلة:7] قطعاً يعني اليوم؛ إذ الدار دار عمل، والذرة وإن عرفها الناس في عصور متأخرة بأنها شيء غير قابل للقسمة والتجزئة، فالذرة أخف جرم من الأجرام وأصغره وأقله حجماً، هذه الذرة سواء كانت من خير أو كانت من شر يراها العبد ويجزى بها.

هذا مع قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123] تفاخر يهود مع مسلمين، وادعى اليهود أنهم أشرف وأكمل وأولى بدار السلام وأحق بالإنعام والإكرام الإلهي؛ لأنهم شعب الله وأبناء الأنبياء، ورد المسلمون كذلك ففاخروا؛ فنزلت هذه الآية الكريمة، تضع النقاط على الحروف، وتفصل في الخلاف وتبين الحق فيه، فقال تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ [النساء:123] أيها المسلمون وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:123] فكيف إذاً؟ فما هو القضاء؟ قال تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123] سواء كان كتابياً أو مسلماً أبيض أو أسمر.

(مَنْ) من ألفاظ العموم ذكراً كان أو أنثى في الأولين أو الآخرين على شرط أن يكون مكلفاً فقط، أي: بالغاً عاقلاً، يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123].

فبهذا تبين لنا أن الإنسان يقرر بنفسه مصيره في الدنيا قبل الآخرة، ولاحظ التعبير بكلمة: (سوءاً) فالسوء يا أبنائي وإخواني كل ما يسوء النفس، أي: يحدث فيها المساء، يقال: فيه سوء، ومنه أخذ لفظ السيئة التي تقابل الحسنة، إذ السيئة تحدث المساء في النفس، والحسنة تحدث الحسن في النفس.

الإنسان يكسب وكواسبه هي جوارحه ولا يكسب بغيرها، الكواسب والجوارح بمعنى واحد.

فالإنسان يكسب الحسنة أو السيئة بواسطة كواسبه وجوارحه، فيكسب المرء بسمعه إن استمع إلى معروف، إلى حق، إلى خير، إلى هدى اكتسب به حسنات تشرق لها نفسه وتحسن بها، وإن استمع إلى باطل، استمع إلى ما يغضب الله إلى ما لا يرضي الله من غيبة أو نميمة فسر بذلك وانشرح صدره لهذا السماع، استمع إلى ألفاظ البذاء وكلمات السوء ومنطق الفحش، استمع إلى أصوات ليس من حقه أن يسمعها.

فحل من فحول الرجال يستمع إلى امرأة أجنبية عنه، يسمعها ويستمع إلى صوتها وهي تغني وتطرب بأنغامها، كذلك المرأة تصغي وتستمع إلى فحول الرجال يغنون بألفاظ الغناء وما تحمله من معاني الأذى، فتكتسب بسمعها ما يلوث نفسها؛ لأن السمع كاسب من الكواسب.

ويكتسب الإنسان ببصره فينظر عامداً مكرراً النظر فيما منع من أن ينظر إليه، إذ لم يأذن لنا الله تعالى أن نستعمل هذه النعم في غير مأذون له فيه، يغالط نفسه أو يكذب عليها فيرى أن له الحق أن ينظر في كل شيء، وأن يبصر كل شيء.

إن صاحب هذه الجارحة ومالكها وواهبها ما وهبها إلا بشرطها: وهو أن تستعمل حيث يحب أن تستعمل.

والآن بعض الدول الصناعية تبيع الدول المتخلفة كدول العرب والمسلمين أسلحة، وتشترط عليها ألا تستعملها إلا بإذنها ويقبل الحاكم الشرط، ولا يستطيع أن يستعمل ذلك السلاح إلا بإذن ممن باعه، يقولون: بهذا الشرط نبيعك، وأنت مضطر فتشتري، فالله عز وجل عندما يهبك الدينار أو الدرهم يهبك إياه مشروطاً بألا تستعمله ضده، إذ ليس من الكرامة الآدمية ولا من الخلق الإنساني أن يعطيك شخص سلاحاً تدفع به عن نفسك فتصوبه إلى صدره.

فالذي وهبك لساناً تنطق به وتعرب به عما في نفسك وتصل به إلى حاجتك، ولولاه لكان الإنسان كالحجر، فهذا اللسان لا تفهمن يا بني أن لك أن تنطق بما تشاء وتتكلم فيما تريد، أنت مطالب بألا تتكلم إلا بإذن من ملكك هذا اللسان ووهبكه وأعطاك إياه.

فلا يرضى الله تعالى أن تسب بلسان أعطاكه ولياً من أوليائه، وأنا أعني بأولياء الله أمثالكم الأحياء الذين يؤمنون ويتقون، لا تفهموا من قولي: (أولياء) أني أعني أصحاب القبور، أولئك مضوا وأفضوا إلى ما قدموا، وعلمهم إلى الله وأمرهم إليه، ولكن نعني بأولياء الله هؤلاء الأحياء الذين يعيشون على الإيمان والتقوى.

قال تعالى في سورة يونس عليه السلام : أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63] فكل مؤمن تقي هو لله ولي، فيحرم أذاه -والله- ولو بنظرة شزراً ولو بانتهارة، ومن آذى أولياء الله فليعلم أنه أعلن الحرب على الله.

وهذا أبو هريرة رضي الله عنه في الصحيح يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ( يقول الله تبارك وتعالى: من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، وهذا يدركه العاقل بفطرته، فهل يرضى الله تعالى أن يؤذى أولياؤه، ما معنى الولاية إذا كان يتركهم يهانون ويذلون ويضطهدون ويعذبون، إذا لم ينتصر لهم ويغضب لهم فما معنى الولاية؟ الولاية تبادل المناصرة بين اثنين: ( من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ) فلهذا يعيش المؤمن يحاذر أن يؤذي مؤمناً في عرضه أو في جسمه أو في ماله، إذ كل المسلم على المسلم حرام، ما هناك والله ما يباح لك من أخيك المسلم.

(كل المسلم) بهذا التعبير الدال على كلية مصورة لا يخرج منها شيء: ( كل المسلم على المسلم حرام ) ما هناك شيء مباح أبداً من أخيك لك، وما هو للإنسان؟ دمه وعرضه وماله.

معاشر الأبناء! ( كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ) تريدون أن تبيعوا أنفسكم فمن ذا الذي يعطيكم الثمن أكثر؟

أنا أدلكم على الله فإنه يعطي ما لا يعطي غيره، ومن باع نفسه لله استراح، وعندنا نوعان من البيع: بيع تدفع البضاعة وتستريح، وبيع تدفعها وتطالب بثمنها، البيع العاجل، إن شئت بع بعاجل أو بع بآجل، وليكن المشتري الله، فإنه الذي يوفيك الثمن، وكيف نبيعها إلى الله بالآجل؟

أن تتفق مع الله في سريتك فيما بينك وبينه وتقول: أي ربي أنا بك ومنك ولك فكلي أنا منك، فهل من غير الله شيء؟ هو الذي وهبنا وجودنا وأعطانا حياتنا، فلنعترف أننا به نقول أو نصول، نأخذ أو نعطي، نقف أو نقعد، نعمل أو نترك، لا تظن أنك تستطيع الاستقلال عن الله، لا والله ولو طرفة عين.

فما أنت بمستقل، أنت خاضع حقيقة لتصريف الله وتدبيره، فاعرف أنك بالله وبالتالي أنك لله، وكلمتنا نحن المؤمنين التي نتعزى بها هي: (إنا لله وإنا إليه راجعون)، فمهما كان الخطب ومهما كانت المصيبة والفاجعة مؤلمة وقاسية فإنها تهون، حتى لم يبق لها أثر على النفس بكلمة: (إنا لله وإنا إليه راجعون)، فإقرارك بأنك لله وها هو ذا قد طلبك كلك أو طلب بعضك، أراد عينك اليمنى أو يدك اليسرى، فهل من المعقول أن تقول: لا أعطي، ليس من المعقول أن تمنع ما قد أعطاك واستودعك وكل ما فيك وديعة له، فمن قال: (إنا لله) هان عليه خطب المصيبة، سواء كانت في النفس أو في المال .. أو في غيرها.

ثم إذا ختمها بقوله: (وإنا إليه راجعون) فما دمنا راجعين إليه طال الزمان أو قصر فباسم الله من الآن، فهذا موسى عليه السلام وقد عرفه أهل العلم في بشريته وفي خلقه الإنساني وطبعه الذي تميز به أنه كان اندفاعياً قوياً، ويشهد بذلك غضبته على القبطي ولكمته التي فاضت بها روحه.

يخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح أن الله تعالى أرسل إليه ملك الموت، ولكن في صورة إنسان والملائكة يتشكلون، وكم دخل جبريل عليه السلام مسجد رسول الله وحجرات رسول الله وهو في صورة إنسان.

فملك الموت جاء في صورة إنسان، فقال له موسى: مرحباً أيها الرجل قال: جئت لأقبض روحك يا موسى، فما كان من موسى عليه السلام إلا أن أخذه وجذبه إليه ولكمه لكمة فقأ بها عينه، تريد أن تأخذ روحي تفضل، فعرج ملك الموت عليه السلام إلى الله تعالى وقال: أي رب عبدك موسى لا يريد أن يموت، انظر ما فعل بي.

أخشى أن تصابوا بهذا اللوث الشيوعي أو الشيعي، الروافض يسخرون من أبي هريرة وينكرون رواياته من أجل هذا الحديث.

وبهذه الأذن حدثني شيعي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتهكم على أبي هريرة ، والقضية أنهم ما فهموا؛ لأنهم عجم، محنتهم أنهم ما فهموا دين الله، لو عرف لعرف أن الملك يتشكل بإذن الله بأشكال وصور مختلفة، أعطاهم الله قدرة على التشكل، فيجيء في صورة ملك ويجيء في صورة إنسان، فلما جاء في صورة إنسان وقال: تعال لنقبض روحك أو نأخذ روحك، هل يوجد عاقل يسلم ويقول: تفضل؟ كل ذي قدرة على أن يدفع عن نفسه سوف يدفع.

ونعود إلى الحديث: ( فقال تعالى لملك الموت: ارجع إليه وقل له: ربك يقرئك السلام ويقول لك: إن كنت لا تريد أن تموت وترغب في طول العمر وامتداد الحياة فضع يدك على مسك جلد ثور، ولك بكل شعرة تقع تحت يدك عام من الأعوام، فجاء ملك الموت وأخبر موسى وجاءه في صورته الملائكية التي يعرفها موسى من أخيه ملك الموت، فقال: إن ربك يقرئك السلام ويقول لك: إن كنت لا تريد أن تموت فضع يدك على مسك جلد ثور ولك بكل شعرة تقع تحت يدك سنة تعيشها ).

فعرف موسى فقال: وبعد إذا انتهت تلك الأعوام التي بعدد الشعر، قد تكون ألف عام أو ألفين من السنين، وعاش نوح ألف سنة وزيادة فماذا يكون؟ قال: تموت، قال: إذاً من الآن يا فلان، وجاد بروحه في نفس اللحظة، فأخبرنا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم أنه مر به ليلة الإسراء والمعراج، وقال: إن قبره عند كثيب الرمل الأحمر، ولو كنتم معي لأريتكم قبره.

قوله: ( وبعد وإذا انتهت الأعوام أموت؟ قال: نعم. قال: إذاً فمن الآن ).

فالذي يفهم معنى (وإنا إليه راجعون) لا يتألم للموت ولا يحز في نفسه أبداً؛ لأنه عائد إلى ربه، طلبه مولاه ليحضر بين يديه فهل يكره الحبيب لقاء الحبيب؟ الجواب: لا.

بيع النفس بالآجل

معاشر الأبناء! نحن مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( كل الناس يغدو فبائع نفسه ) أريد أن أقول لكم، هناك بيعتان: بيعة بالآجل وأخرى بالعاجل، بيعة الآجل أنك تعبئ نفسك لطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فسمعك كبصرك كلسانك كيدك كرجلك كبطنك كل جوارحك تسخرها في خدمة الله في طاعة الله ورسوله، لا يكون لك هم إلا هذا.

ولا مانع أن تأخذ بالمحراث فتحرث، أو تأخذ بمقود السيارة فتقودها أو الطائرة فتطير بها، إذ كل ذلك إنما هو يهيئ لك فرصة أن تعبد الله، فليس نقصاً أو عيباً أن تفتح متجراً، إنما النقص والعيب أنك تشتغل بالتجارة عن طاعة الله، لأن التجارة تريد أن توفر بها كساء وغذاء وسكناً تحفظ فيه نفسك من أجل أن تعبد الله، وهنا يأتي الخطأ نتيجة الغفلة من جهة أو سوء الفهم وعدم البصيرة من جهة أخرى.

لم يا عبد الله تشتغل؟ قال: أشتغل من أجل أن أوفر غذائي لأعبد ربي، وإذا بك تشغلك النعمة عن المنعم، فيؤذن مؤذن الصلاة وتسمع النداء وتستمر في طلب القوت، تطلب القوت لم؟ أليس من أجل الصلاة؟ فإذا ضاعت الصلاة فأي فائدة في طلب القوت، ومن هنا كان التجار الأولون أحدهم يخيط وإبرته في يده وما كانت آلات تخيط، كانت الخياطة بالإبرة والخيط فيرفعها فيسمع كلمة: (حي على الصلاة) فيأبى أن يغرز الإبرة في الثوب ويضعها، يأخذ القلم ليكتب إذا سمع (حي): أقبل، لا يضع القلم على الورقة بل يرفعه ويضعه في مكان آخر، يرفع المسحاة يضرب بها الأرض ليقلبها فإذا سمع (حي على الصلاة) يأبى أن يضع المسحاة على الأرض يضعها جانباً حتى لا يكون قد عمل عملاً في وقت دعي فيه إلى الله.

وفيهم نزل في سورة النور يا أهل النور: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ [النور:37] (رجال) فحول وهذا اللفظ عند العرب له مدلوله: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النور:37] والغافلون ينادي منادي الصلاة وليس وقتاً واحداً بل أوقات، ويكون مشغولاً، يقول: أكدح على الأسرة، أعمل لتوفير غذائي وغذاء أهلي، ناسياً أو متناسياً أنه ما خلق ليأكل ولكن خلق ليعبد الله، وهذا خطأ يقع فيه الإنسان إذا عدم البصيرة وانقطع عن الذكر، ولهذا كان التذكير ضرورياً للجماعة المسلمة كان كالغذاء: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55] ، ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114] لم؟

لأن الإنسان ينسى ويغفل، تحوط بنفسه عوارض تعرض لها فتحجبه عن معرفة الحقيقة، فإذا لم يجد من يذكره استمر في نسيانه وغفلته.

البيع الآجل معاشر الأبناء أنك تعمل ولا تطلب الآن الجزاء، قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185].

فمهما بذلت من العرق والجهد في طاعة الله فلا تطلبن -الآن- أجراً تتقاضاه؛ لأن الدار دار عمل وليست دار جزاء: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185].

قد ينالك من يمن العمل الصالح وبركته طمأنينة في نفسك، وصفاء في روحك، وقناعة في نفسك، وبركة في مالك وولدك، وليس ذلك الجزاء، إنما هو فقط من يمن الحسنة وآثارها الطيبة، أما الجزاء ففي الدار الأخرى.

وقد يعمل المرء بالسوء.. يعمل بمعاصي الله ورسوله، وقد يناله من شؤم السيئة فيضرب .. يسجن .. يجوع .. يتعب وليس ذلك بالجزاء؛ لأن الجزاء في الدار الآخرة، إن هذا الذي قد يحصل لصاحب السيئات إنما هو من شؤم السيئة وآثارها؛ لأنها عفنة فيصاب بهمّ أو كرب أو نكد أو عذاب أو شقاء، ولكن ليس والله الجزاء؛ لأن الجزاء لا يكون في دار العمل، متى كانت هذه دار جزاء؟ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].

فإذا بعت -عبد الله- نفسك لله عز وجل بثمن آجل تتقاضاه بعد نهاية العمر والخروج من هذه الحياة، وبمجرد أن يحضر ملك الموت وأعوانه والعبد في سياقات الموت وسكراته يبدأ يأخذ الجزاء، وفي القبر قبل يوم القيامة يأخذ كثيراً من جزائه بكسبه في الدنيا.

إذاً: فعندك جوارحك فارعها واجعلها مسخرة لله، اجعل نفسك تسمع لله، وتبصر لله، وتعطي لله، وتأخذ لله، وتمشي لله، وتقف لله، وبذلك تشعر في يوم من الأيام أنك تحب الله وأن الله يحبك، وآية ذلك أن سخرك له وأصبحت تعيش له، ولا هم لك إلا في رضاه، وهناك بيع عاجل وهو أن تقدمها حالاً لله، وهذا بالجهاد في سبيل الله.

بيع النفس بالعاجل

الآن مواكب الشهداء تمضي يوماً بعد يوم حيث الجهاد الحق في بلاد الأفغان، في أرض أولئك المؤمنين الصادقين مضى عليه أربع سنوات، ومن بين أبنائنا من التحق بالرفيق الأعلى، ووضع نور الدين على أعلى قمة في تلك التلال والجبال في بلاد الأفغان.

هذا بيع عاجل أعطها وتسلم على الفور، يدخل الرجل المعركة لا يتردد في أنه لا يريد أن يعود، فيتقحم مواكب وملاحم القتال، وإذا أراد الله ذلك قبلها على الفور، الجنة تحت ظلال السيوف، ما هناك بعد ولا مسافة تصير الروح في دار السلام، وفي القرآن الكريم في سورة التوبة أيها المؤمنون يقول تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111] لا أحد، إذاً: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111].

معاشر الأبناء! نحن مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( كل الناس يغدو فبائع نفسه ) أريد أن أقول لكم، هناك بيعتان: بيعة بالآجل وأخرى بالعاجل، بيعة الآجل أنك تعبئ نفسك لطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فسمعك كبصرك كلسانك كيدك كرجلك كبطنك كل جوارحك تسخرها في خدمة الله في طاعة الله ورسوله، لا يكون لك هم إلا هذا.

ولا مانع أن تأخذ بالمحراث فتحرث، أو تأخذ بمقود السيارة فتقودها أو الطائرة فتطير بها، إذ كل ذلك إنما هو يهيئ لك فرصة أن تعبد الله، فليس نقصاً أو عيباً أن تفتح متجراً، إنما النقص والعيب أنك تشتغل بالتجارة عن طاعة الله، لأن التجارة تريد أن توفر بها كساء وغذاء وسكناً تحفظ فيه نفسك من أجل أن تعبد الله، وهنا يأتي الخطأ نتيجة الغفلة من جهة أو سوء الفهم وعدم البصيرة من جهة أخرى.

لم يا عبد الله تشتغل؟ قال: أشتغل من أجل أن أوفر غذائي لأعبد ربي، وإذا بك تشغلك النعمة عن المنعم، فيؤذن مؤذن الصلاة وتسمع النداء وتستمر في طلب القوت، تطلب القوت لم؟ أليس من أجل الصلاة؟ فإذا ضاعت الصلاة فأي فائدة في طلب القوت، ومن هنا كان التجار الأولون أحدهم يخيط وإبرته في يده وما كانت آلات تخيط، كانت الخياطة بالإبرة والخيط فيرفعها فيسمع كلمة: (حي على الصلاة) فيأبى أن يغرز الإبرة في الثوب ويضعها، يأخذ القلم ليكتب إذا سمع (حي): أقبل، لا يضع القلم على الورقة بل يرفعه ويضعه في مكان آخر، يرفع المسحاة يضرب بها الأرض ليقلبها فإذا سمع (حي على الصلاة) يأبى أن يضع المسحاة على الأرض يضعها جانباً حتى لا يكون قد عمل عملاً في وقت دعي فيه إلى الله.

وفيهم نزل في سورة النور يا أهل النور: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ [النور:37] (رجال) فحول وهذا اللفظ عند العرب له مدلوله: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النور:37] والغافلون ينادي منادي الصلاة وليس وقتاً واحداً بل أوقات، ويكون مشغولاً، يقول: أكدح على الأسرة، أعمل لتوفير غذائي وغذاء أهلي، ناسياً أو متناسياً أنه ما خلق ليأكل ولكن خلق ليعبد الله، وهذا خطأ يقع فيه الإنسان إذا عدم البصيرة وانقطع عن الذكر، ولهذا كان التذكير ضرورياً للجماعة المسلمة كان كالغذاء: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55] ، ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114] لم؟

لأن الإنسان ينسى ويغفل، تحوط بنفسه عوارض تعرض لها فتحجبه عن معرفة الحقيقة، فإذا لم يجد من يذكره استمر في نسيانه وغفلته.

البيع الآجل معاشر الأبناء أنك تعمل ولا تطلب الآن الجزاء، قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185].

فمهما بذلت من العرق والجهد في طاعة الله فلا تطلبن -الآن- أجراً تتقاضاه؛ لأن الدار دار عمل وليست دار جزاء: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185].

قد ينالك من يمن العمل الصالح وبركته طمأنينة في نفسك، وصفاء في روحك، وقناعة في نفسك، وبركة في مالك وولدك، وليس ذلك الجزاء، إنما هو فقط من يمن الحسنة وآثارها الطيبة، أما الجزاء ففي الدار الأخرى.

وقد يعمل المرء بالسوء.. يعمل بمعاصي الله ورسوله، وقد يناله من شؤم السيئة فيضرب .. يسجن .. يجوع .. يتعب وليس ذلك بالجزاء؛ لأن الجزاء في الدار الآخرة، إن هذا الذي قد يحصل لصاحب السيئات إنما هو من شؤم السيئة وآثارها؛ لأنها عفنة فيصاب بهمّ أو كرب أو نكد أو عذاب أو شقاء، ولكن ليس والله الجزاء؛ لأن الجزاء لا يكون في دار العمل، متى كانت هذه دار جزاء؟ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].

فإذا بعت -عبد الله- نفسك لله عز وجل بثمن آجل تتقاضاه بعد نهاية العمر والخروج من هذه الحياة، وبمجرد أن يحضر ملك الموت وأعوانه والعبد في سياقات الموت وسكراته يبدأ يأخذ الجزاء، وفي القبر قبل يوم القيامة يأخذ كثيراً من جزائه بكسبه في الدنيا.

إذاً: فعندك جوارحك فارعها واجعلها مسخرة لله، اجعل نفسك تسمع لله، وتبصر لله، وتعطي لله، وتأخذ لله، وتمشي لله، وتقف لله، وبذلك تشعر في يوم من الأيام أنك تحب الله وأن الله يحبك، وآية ذلك أن سخرك له وأصبحت تعيش له، ولا هم لك إلا في رضاه، وهناك بيع عاجل وهو أن تقدمها حالاً لله، وهذا بالجهاد في سبيل الله.

الآن مواكب الشهداء تمضي يوماً بعد يوم حيث الجهاد الحق في بلاد الأفغان، في أرض أولئك المؤمنين الصادقين مضى عليه أربع سنوات، ومن بين أبنائنا من التحق بالرفيق الأعلى، ووضع نور الدين على أعلى قمة في تلك التلال والجبال في بلاد الأفغان.

هذا بيع عاجل أعطها وتسلم على الفور، يدخل الرجل المعركة لا يتردد في أنه لا يريد أن يعود، فيتقحم مواكب وملاحم القتال، وإذا أراد الله ذلك قبلها على الفور، الجنة تحت ظلال السيوف، ما هناك بعد ولا مسافة تصير الروح في دار السلام، وفي القرآن الكريم في سورة التوبة أيها المؤمنون يقول تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111] لا أحد، إذاً: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111].