أرشيف المقالات

نار وقعت بين الضلوع

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
نارٌ وقعتْ بين الضلوع

كم تسبي هذه الدنيا ألباب كثير من الناس، وتستحوذ الغفلة على حياتهم، وتصير الشهوات قِبلتَهم ووجهتهم، حتى ينسوا بذلك ربهم، والغاية التي خُلقوا من أجلها، واليوم الذي سيقفون فيه بين يدي خالقهم للحساب.
 
فكيف سيكون حال الإنسان من هذا الجم الغفير إذا كان صاحب ثراء وقوة ونعمة؟ لا شك أن اللهو سيكون أعظم، وسبيل المعاصي ستكون لأقدامه مطروقةً متى شاء.
 
ولكن هداية الله تعالى إذا أراد أن يمنَّ بها على بعض خلقه فإنها ستخرق هذه الحواجز حتى تصل إلى القلب فتخرج صاحبه من أعماق الغفلة والضلال حتى ترفعه إلى آفاق التذكر والاستقامة، فيصبح مولوداً جديداً في مجتمع الصلاح والصالحين.
 
وللقرآن الكريم القِدح المعلّى في إرجاع الناس إلى ربهم بعد إباقهم عنه، وذلك حينما تصلهم حروفه مسموعة أو مقروءة، خصوصًا الآيات التي تسوق الناس إلى ربهم بسوط الترهيب والتخويف؛ إذ للرهبة وقع شديد على القلوب الغافلة، والنفوس الآبقة.
 
ولقوله تعالى: ﴿  يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ﴾  [الحاقة:18].
رهبة عظيمة، ففيه التصريح بالعرض للحساب على الله تعالى، الذي يعلم كل أعمال العبد جليلها ودقيقها، فما حال الإنسان العاصي يوم الحشر بين يدي ربه الذي أحصى أعماله كلها فلم يفته منها شيء.
 
ومعنى الآية الكريمة: "أي: تعرضون على عالم السر والنجوى الذي لا يخفى عليه شيء من أموركم، بل هو عالم بالظواهر والسرائر والضمائر؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَة ﴾...
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا؛ فإنه أخف عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ﴾"[1].
ولما كانت هذه الآية في هذه المنزلة من الفخامة والوعيد فإنها ردَّت بعض عباد الله إليه.
 
قال أبو محمد الإشبيلي: " قال مالك بن دينار رحمه الله: رأيت في البادية في يوم شديد البرد شابًا عليه ثوبان خَلِقانِ، وعليه آثار الدعاء وأنوار الإجابة، فعرفته، وكنت قبل ذلك عهدته في البصرة ذا ثروة، وحسن حال، وكان ذا مال وآمال.
قال: فبكيت لما رأيته على تلك الحال، فلما رآني بكى وبدأني بالسلام وقال لي: يا مالك بن دينار، ما تقول في عبد أبق من مولاه؟ فبكيت لقوله بكاء شديداً، وقلت له: وهل يستطيع المسكين ذلك؟! البلاد بلاده، والعباد عباده، فأين يهرب المسكين؟! فقال: يا مالك، سمعت قارئًا يقرأ: ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ﴾ فأحسست في الحال بنار وقعت بين ضلوعي، فلا تخمد ولا تهدأ من ذلك اليوم، يا مالك، أتُراني أُرحم وتُطفأ هذه الجمرة من قلبي؟
 
فقلت له: أحسن الظن بمولاك؛ فإنه غفور رحيم.
ثم قلت له: إلى أين؟ قال: إلى مكة شرفها الله تعالى؛ لعلي أن أكون ممن إذا التجأ إلى الحرم استحق مراعاة الذمم.
قال مالك: ففارقني ومضى، فتعجبت من وقوع الموعظة منه موقعها، وما تأجج بين جنبيه من نار التيقظ والإنابة، وما حصل عليه من صدق القبول وحسن الاستماع"[2].
 
فسبحان الله! كيف ذهبت سكرة ذلك المال من باله، وحلت الهداية في قلبه، فأصلحت من أعماله، وذلك حينما سمع هذه الآية فأناب إلى ربه إنابة عظيمة، وسلك إليه الطريق القويمة، ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء:9].
 
فما أعظم أثر هذا الكتاب العظيم! بآية واحدة من آياته غيَّرت مسيرة إنسان كان يتقلب بين أحضان الترف ساهيًا لاهيًا، حتى صيرته عابداً يقظًا.
 
وكم من إنسان كان بينه وبين تغيير مسار حياته آية واحدة، أو اتجه إلى لزومِ أمر من الأمور بسبب آية واحدة، لولاها لما كان كذلك.
 
عن حمران قال: لما توضأ عثمان قال: ألا أحدثكم حديثًا لولا آية ما حدثتكموه، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يتوضأ رجل فيحسن وضوءه ثم يصلي الصلاة إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة حتى يصليها) قال عروة: الآية: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ ﴾ [البقرة:159][3].
 
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: يقولون: إن أبا هريرة يكثر الحديث، والله الموعد، ويقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثل أحاديثه؟ وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخوتي من الأنصار كان يشغلهم عمل أموالهم، وكنت امرأ مسكينًا ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، فأحضر حين يغيبون، وأعي حين ينسون، وقال النبي صلى الله عليه وسلم يومًا: (لن يبسط أحد منكم ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ثم يجمعه إلى صدره فينسى من مقالتي شيئًا أبداً).
فبسطت نمرة ليس علي ثوب غيرها حتى قضى النبي صلى الله عليه وسلم مقالته ثم جمعتها إلى صدري، فوالذي بعثه بالحق ما نسيت من مقالته تلك إلى يومي هذا.
والله لولا آيتان في كتاب الله ما حدثتكم شيئا أبداً: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾ [البقرة:159] ﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة:160] [4].
 
قال النووي: "معناه: لولا أن الله تعالى أوجب على من علم علمًا إبلاغه لما كنت حريصًا على تحديثكم ولست متكثراً بتحديثكم"[5].
 
وقال ابن حجر: "ومعناه: "لولا أن الله ذم الكاتمين للعلم ما حدث أصلاً، لكن لما كان الكتمان حرامًا وجب الإظهار"[6].
 
دروس من قصة الهداية:
1- إذا صدق الإنسان في استقبال الحق وفتح له قناة الرضا من سمعه وقلبه وصل إليه، وغيَّر مجرى حياته إن كان عادلاً عن طريقه.
 
2- الشباب مرحلة عمرية مهمة في الإقبال على الحق واعتناقه.
 
3- لقوارعِ الوعيد وقعٌ على النفس شديد، فقد تصنع من العاصي المعرض اللاهي طائعًا مقبلاً عابداً، فالترهيب من أعظم وسائل القرآن التأثيرية.
 
4- على المسلم أن لا تحمله براهين الترهيب على القنوط واليأس، بل عليه أن يحسن الظن بمولاه؛ فإن الله غفور رحيم.
 
5- طوبى لعبد أسرف على نفسه فرزقه الله تعالى بعد ذلك التوبة والإنابة، والقبول والاستجابة.



[1] تفسير ابن كثير (4/ 500).



[2] العاقبة في ذكر الموت، عبد الحق الإشبيلي (ص: 74).



[3] رواه البخاري (1/ 166)، ومسلم (1/ 205).


[4] رواه البخاري (2/ 827)، ومسلم صحيح (4/ 1940).


[5] شرح النووي على مسلم (3/ 111).


[6] فتح الباري، ابن حجر (1/ 214).

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢