الإسـراء والمعـراج
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
نقف اليوم أمام حدث من أحداث سيرة حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، ألا وهي حادثة " الإسراء والمعراج "، والحديث عن هذه الرحلة المباركة، وما يحيط بها من دروس وعبر تكرر كثيرًا على أسماع الناس، غير أن النفوس المؤمنة لا تسأم ولا تمل من هذا الحديث مهما تكرَّر سماعها له، بل هي راغبة فيه مشتاقة إليه، وكيف لا تكون نفوس المؤمنين في أشد الشوق للحديث عن هذه الذكرى الطيبة بين الحين والآخر، وهي متعلقة بسيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم...معاشر المؤمنين، إن "الإسراء والمعراج" تعتبر مدرسة إيمانية وتربية روحانية متكاملة، يحتاج المسلم المعاصر في خِضَمِّ الابتلاءات التي تحيط به من كل جانب أن يتذاكرها ليهنَأ نفسًا ويهدأ بالًا..
معاشر المحبين لرسول الله، يقول الله تعالى في مطلع سورة الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1].
في هذه الآية يمجِّد الله تعالى نفسه ويعظِّم شأنه لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه، فلا إله غيره أسرى بعبده محمدًا صلى الله عليه وسلم في جنح الليل من المسجد الحرام بمكة المكرمة إلى المسجد الأقصى المبارك الذي بارك الله حوله بالزروع والثمار وغير ذلك؛ ليرى النبي صلوات الله وتسليماته عليه بإذن ربه من آيات الله العظيمة الجليلة...
أيها الأحبة الكرام، من الملاحظ بالآية أن الله لما تكلَّم عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال عنه [بعبده]، وإن هذا يدل دلالة واضحة على أن أكرم مكانة للعبد هي أن يكون عبدا لله رب العالمين، فصفة العبودية من أشرف الصفات ومن أكرم النعوت التي ينعت بها الإنسان، لله در الشاعر الذي قال:
ومما زادني شرفًا وتيهًـــــــــا *** وكدت بأخمصي أطأ الثُّريَّا
دخولي تحت قولك يا عبادي *** وأن صيَّرتَ أحمد لي نبيَّــا
إخوة الإسلام، لو لاحظتم نفس اللفظة المباركة {بعبده}، لوجدتم أن فيها تأكيدًا جازمًا على أن الإسراء والمعراج كان بالروح والجسد، وأنه لم يكن فقط حركة روحية أو رؤى منامية كما يقول بعض الناس.
عباد الله، لقد علَّمتنا رحلة الإسراء والمعراج أنه بعد كل مِحنة منحة، فلقد تعرض النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لمحن عظيمة لو تعرَّضت لها الجبال الصماء لاندكَّت مِن هولها، غير أن الله ألْهَمه الصبر ، فقد توفي أبو طالب عم رسولنا صلى الله عليه وسلم، وتوفيت زوجه الكريمة خديجة، وهذه قريش قد سَدَّت في وجه رسولنا صلى الله عليه وسلم كل طرق الدعوة في مكة، وأبرمت حصارًا رهيبًا ضد الدعوة الإسلامية ورجالاتها من كل جانب، فذهب حبيبنا الكريم صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، لعله يجد نواة تساند دعوة الحق هناك، غير أنه صلى الله عليه وسلم لم يجد من قبيلتي ثقيف وهوازن غير الصد والإعراض، وأغروا سفهاءهم برسولنا صلى الله عليه وسلم، فوقفوا صفين وأخذوا يرمونه بالحجارة وبكلمات كلها سوء وسفه، ورجموا عراقيبه صلى الله عليه وسلم حتى اختضب نعلاه بالدماء، فاصطفاه الله لهذه الرحلة المباركة تكريمًا لصبره صلى الله عليه وسلم..
ولله در القائل:
لما استفز المشركون بأحمـــــــد *** جاءته توًّا رحلة الإســــــــــــراء
ليغيثه من حقدهم وبلائهـــــــم *** ويريحه من شدة وعنـــــــــــاء
فلقد أتى جبريل يسرع خطــوه *** معه البراق مطية العظمــــــــاء
ليبشر المختار بالفضل الــــــذي *** سيناله من واهب الإعطـــــــاء
سيضيفك المولى لتنعمَ بالرضا *** وترى العجائب في أعالي سماء
ركب البراق محمد حتى أتـــى *** للمسجد الأقصى بلا إبطــــــــاء
وهناك أم المرسلين جميعهـــم *** فالكل زكوه بدون مـــــــــــــراء
أتباع الحبيب صلى الله عليه وسلم:
إن تنبَّهتم للآية الكريمة ستلاحظون أن الله تعالى قال: {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى}، وهذا الربط بين المسجدين لم يأت سدى، بل إن له دلالات وفوائد منها بيان أهمية المسجد الأقصى في الاعتقاد الإسلامي؛ إذ أصبح مسرى رسولنا ونقطة انطلاقه إلى رحلة المعراج السماوية، وهذا توجيه للمسلين أن يحبُّوا المسجد الأقصى، وبيت المقدس كاملة، فهي أرض مباركة بنص القرآن [المسجد الأقصى الذي باركنا حوله]، ووالله إن الربط بينهما يشعرنا أن أي تهديد للمسجد الأقصى هو تهديد للحرم المكي الشريف، وهذا والله هو عين الحقيقة، ولن أسبح في غياهب الخيال، بل هذا هو عين ما نطقت به "غولدمائير رئيسة وزراء الصهاينة" بعد احتلال عصابة الصهاينة لبيت المقدس، فقد وقفت على شاطئ خليج العقبة وهي تقول: [ إنني أشم رائحة أجدادي في المدينة والحجاز، وهي بلادنا التي سوف نسترجعها ]، هكذا قالت خبيثة بني صهيون، فبالله عليكم لا تنسوا قضيتكم وربُّوا أجيالكم على أن الأقصى عقيدة؛ حتى لا تموت تلك العقيدة في النفوس، علِّموهم أن الصهاينة مجرمون فجرة، وأن اتحادنا قوة، وحفظوهم أن تفرُّقَنا ضعف، فإن اليهود اليوم يتصرفون في مسجدنا الأقصى قبلتنا الأولى ومسرى رسولنا وكأنه ممتلك لهم ولآبائهم:
وبدا اليهود بأرضنا وكأنهـــــــــــــــم *** أصحاب أرض مالها أصحــاب
وضاعت فلسطين الجريحة واعتلى *** أقصى المساجد بالسواد ثياب
معاشر الموحدين، بعد ذلك كانت رحلة المعراج، وفيها رأى النبي صلى الله عليه وسلم عجائب لم يرها غيره، وفي هذا بيان لعظم مكانة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقول الله تعالى في سورة النجم {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 8 - 18].
ولله در القائل:
صعد الرسول إلى السماء فإذ بها *** مشتاقة في فرحة وهنـــــاء
لقدوم خير المرسلين محمـــــــد *** علم الهدى بل سيد السعداء
ما زال أحمد صاعدا حتى أتـــى *** للمنتهى والسدرة العصمــاء
وإذا بجبريل يفارق أحمــــــــدا *** حتى يعود معجلًا لـــــــوراء
فله حدود إن تعداها فـــــــــــلا *** ينجو من الإحراق والإفنــاء
أما محمد فاستعان بربـــــــــــه *** حتى غدا في لجة الأضـواء
عباد الله، وفي هذا المشهد المهيب وفي هذه اللحظة التي أهل الله لها نبيه صلى الله عليه وسلم افترض الله على الأمة فريضة الصلاة التي تكاسلنا وانتكسنا فيها نسأل الله لنا جميعا الهداية، وقد ثبت في السنة الصحيحة ما يؤكد أن الصلاة فُرضت على المسلمين ليلة الإسراء والمعراج، فعلينا جميعا أن نلتزم بها فهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة ..
ولله در القائل:
سمع النداء من العلي معطـــــرًا *** يلقي عليه تحية النبــــلاء
ويكلف الله النبي وقـــــــــــومه *** بفريضة قبلت بكل رضـاء
خمس من الصلوات في أوقاتها *** يحظى مؤديها بخير جزاء
أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لقد رأى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة مشاهد مباركة، ومناظر لم يرها غيره، ففي السماء الأولى سلم على سيدنا آدم، وفي الثانية سلم على سيدنا يحيى وسيدنا عيسى، وفي الثالثة سلم على سيدنا يوسف، وفي الرابعة سلم على سيدنا إدريس، وفي الخامسة سلم على سيدنا هارون، وفي السادسة سلم على سيدنا موسى، وفي السابعة سلم على سيدنا إبراهيم..
وفي رحلة المعراج خير نبينا بين الخمر واللبن والعسل فاختار النبي اللبن، فقال له سيدنا جبريل: [هذه الفطرة التي أنت عليها وأمتك].
ولله در القائل:
ورأى النبي عجائبًا وغرائبًـــــا *** تعلو على الأوصاف والإطــراء
فلقد رأى جنات عدن عينهــــا *** مأوى التقاة وموطن الصلحاء
ورأى جهنَّم في بشاعة شكلها *** دار العصاة ومدمني الأخطـــاء
أيها الأحباب، وبعد المشاهد البهية التي رآها نبينا الكريم في رحلته العطرة، كانت رحلة الهبوط إلى الأرض مرة أخرى ومواجهة أهل مكة، واختبارًا لإيمان بعض من آمن بالنبي في بداية الأمر ومدى تصديقه للرسالة.
فأما المشركون القرشيون، فقد سخروا واستهزؤوا بسيدنا رسول الله، وطلبوا منه وصف المسجد الأقصى ووصفه لهم وصفًا دقيقًا، ووصف لهم عِيرهم التي في الطريق من بيت المقدس إلى مكة، ووجدوا الأمر كما قال، لم يؤمنوا، بل اتهموه صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر.
ولله در القائل:
نزل الرسول من السماء ممتعًـــــا *** مما رأى بالحضرة العليـــــــاء
حين التقى بالمشركين حكى لهم *** ما قد رأى بالرحلة العصمــــاء
طارت عقولهم وجن جنونهــــــم *** واستنكروا ما قص من أنبـــاء
طلبوا من المعصوم وصفًا كامـلًا *** للمسجد الأقصى البعيد النائي
قام الرسول بوصفه وكأنــــــــــه *** قدام عين المصطفى مترائـي
وأما ضعاف النفوس، فقد شككوا في صدق كلام رسول الله، وارتدُّوا على أدبارهم خائبين خاسرين.
وأما موقف الصديق أبو بكر رضي الله عنه، فلما ذهب إليه أهل الشرك وضعاف النفوس يقصون عليه القصة، فما كان من الصديق إلا أن سألهم قائلًا: أو قال ذلك؟ قالوا نعم، قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق.
وفي هذا إظهار لمكانة وعقل وفطنة الصديق، فقد بيَّن لهم أن أمرا كهذا ليس بمستحيل الحدوث لرسول الله.
ولله در القائل:
فشكوا إلى الصديق أمر محمد *** مستبعدين لهـــــــــــــــذه الآراء
وهنا أبو بكر يصيح مزمجــــرًا *** هو صادق في السرد والإحصاء
صلى عليك الله يا علم الهــدى *** ما لاح نجم في السما بضيـــــاء
عباد الله:
استلهموا العبرة والعظة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو القدوة الحسنة التي يجدر بنا التشبه بها، واعلموا ونحن نتذاكر ذكرى الإسراء والمعراج أنه لا كرامة لقوم مشتتين متفرقين غير متحدين، يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف:4].
اللهم أبرِم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويُهدى فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دينانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شرٍّ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وآمِّنا في أوطاننا ودورنا، اللهم آمين يا رب العالمين.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [سورة الأحزاب: 56].
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
_____________________________________________________
الكاتب: عبدالفتاح شعبان حبسه