الحقيقة والشريعة
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
الحقيقة والشريعةلا زال عند البعض سهام يحاولون بها اقتِناص أصحاب الأحلام الهابِطة والأفئدة السَّاقطة لإعدادهم جنودًا في جَيشهم المحارِب للحقِّ، فترى وتَسمع من يتفَيهق بقوله: إنَّ العلم علمان: حقيقة وشريعة، أو ظاهِر وباطِن؛ فأهل الشَّريعة لا يَعرفون عند أهل الحقيقة شيئًا، وأهل الظَّاهر لا يُدركون ما عليه أهل الباطِن، وإنَّ أهل الشَّريعة تعلَّموا من الكتب، ولكن أهل الحقيقة - وهم أهلُ الباطن - فعِلمهم علمٌ لدُنِّي بدون واسِطة، واحتجُّوا قائلين: هذا هو الخضر من أهل الباطن، وموسى من أهل الظَّاهر.
وأقول للقارئ الكريم: هذه قاصِمة كبرى، وداهِيةٌ عُظمى، وشوكة أخرى يحاول بها المبطِلون أن يعوقوا ركبَ التوحيد عن السَّيرِ في فلَك الحقِّ، والنَّظرِ في كتاب الله، والفهم في هدي رسول الله؛ لإزاحةِ الباطِل من عقول النَّاس، واكتساحِ الظُّلمات من الطريق كي تَبدوَ المعالم، وينجاب الغمام.
إنَّ هذا المنطق عَفا عليه الزَّمن، وجانَب أهله الصَّواب وسط ثلَّة موحِّدةٍ سمعَت الحقَّ فصدَّقَته، ونظرَت في القرآن فآمنَت به، وما زالت مسألة الشَّريعة والحقيقة قانونًا بين من لهم قلوبٌ لا يَفقهون بها وأعين لا يُبصرون بها وآذانٌ لا يَسمعون بها.
والذي يؤسَف له أن يَكون على شاكِلَتهم من يُشار إليهم بالبنان ثقافة ووجاهة، وهذا - وإن كان داء عضالًا - لكنَّ بَلْسَمَ الحق سيستَأصِل هذا المرَض الكريه؛ لتصحَّ العقول، وتَزهو النفوس؛ فإنَّ الدعوة إلى الحقِّ بالحكمة والموعظة الحسنة، والحوار الهادئ الهادِف إلى التوادِّ والمَرحمة هي الشُّعلة المضِيئة، والمنهج السَّوي، كما أنَّها الحراب التي تُقذف على الباطل فتَدمَغه، والسِّهام الملقاة في نَحر المنكَرِ فتجهز عليه، ولن يُلقي الحقُّ سلاحَه أبدًا ما دام القرآن قانونًا والسنة نورًا.
أيها القارئ العزيز، تعالَ معي نناقِش ذلك القول، فأقول: مِن أين كان الاصطلاح الذي راقَ في نظر هؤلاء القوم؟ وكيف تقبَّلَته عقولُهم؟
ثمَّ متى كان أهل الظَّاهر هم أهل الشريعة؟ وأهل الباطن هم أهل الحقيقة؟
إن قالوا: إنَّ العبد الصَّالح - خضرًا - علِمَ ما لم يُدرِكه موسى، فأقول: هذه مسألة سبَق الفصل فيها؛ بأنَّ الخضر نبيٌّ علَّمه الله من عنده علمًا غاب عن موسى، كما أنَّ الكليم عليه السلام رسولٌ علَّمه الله من لَدُنه علمًا غاب عن الخضر، ولا غرابة في هذا.
وإن قالوا: إنَّ الخضر صاحب العلم (اللَّدنِّي)؛ لأنَّ الله يقول في شأنه: ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ﴾ [الكهف: 65]، فأقول: إنَّ معنى ﴿ مِنْ لَدُنَّا ﴾؛ يعني: مِن عندنا، وكلُّ شيءٍ من عِند الله سبحانه؛ إن كان خيرًا فذلك من فَيض الله يؤتيه مَن يشاء، وإن كان غير ذلك فبِما كسبَت أيدي الناس، ولا يَظلم ربُّك أحدًا.
وإليك نماذِج من القرآن الكريم تُميط اللِّثامَ عن الفهم لتتَّضح الرؤية، وليسَت حصرًا لكلِّ ما جاء في هذا الباب، فمثلًا:
حين فرَّ الموحِّدون من عسف الشرك وآوَوا إلى الكَهف، لم يكن أمامهم إلَّا الملاذ إلى الله جلَّ جلاله، فقالوا: ﴿ رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ﴾ [الكهف: 10]، وهذا رجاء نَأمله جميعًا.
وفي أول سورة الكهف يقرِّر الحقُّ تبارك وتعالى بأنَّه المستحق للحمدِ؛ حيث أَنزل القرآنَ الكريم على عبده محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ قَيِّمًا ﴾ غير ذي عِوَج؛ ﴿ لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ ﴾ [الكهف: 2]، وهو عذاب موجِع للمكذِّبين، نَستعيذ بالله جميعًا منه.
ألَستَ معي أيها الأخ العزيز بأنَّ تفسير كلمة ﴿ مِنْ لَدُنَّا ﴾؛ يعني: من عِندنا، ولا تصلح دليلًا على دعوى الحقيقة والشريعة، أو الظاهر والباطن؟ وعلى أصحاب هذا المذهب أن يَعلموا أنَّ الشَّريعة هي الحقيقة؛ إذ لو كانت الحقيقة غير الشَّريعة، فبماذا نسمِّي الشريعة؟ هي إذًا باطِلَة وهزِيلة وضلال، وعلى هذا تكون الشَّرائع الإلهيَّة كلها باطِلة ضالَّة، لا تَصلح للقيادَة ونظام الحياة؛ حيث إنَّها ليسَت لدنِّيَّة وغير حقيقة في نظر هؤلاء الأدعياء، تعالَى الله عمَّا يقول الظَّالمون علوًّا كبيرًا.
وفي الواقع لو سارَت الأمورُ وفق نظريَّتهم الفاسِدة لضاع الحقُّ، وطمِست معالِمه، وتعطَّل القرآن وانسحَبَ من ميدان التَّوجيه والسلوك.
وإنِّي لهامِسٌ في أذن مَن يَسمع: هب أنَّ إنسانًا سَطا عليك، فسَلَب الأموالَ، وقتلَ الأولادَ، وأزهَقَ الأرواح، وأهلَكَ الحَرث والنَّسل؛ فأَفسَدَ كلَّ صالح، وأقام كلَّ باطل، ورفع رايةَ كل منكر، ودافعَ عن كلِّ خبيث، وعند القضاء وتقصِّي الحقائق قال: إنَّ عِلمَه اللَّدنِّي يأمره بهذا، وأنَّ ما فعل إنَّما هو من عِلم الحقيقة والباطِن - فهل يُؤخذ بدفاعه هذا؟
لا، إنَّ ذلك الأسلوب الذي يَحمل هذه المعاني الخبيثة ما هو إلَّا فوضى عقائديَّة، روَّجها المبطِلون، وتقبَّلَها وأذاعَها الضالُّون، ودافَعَ عنها الصِّغار الغافلون.
وجدير بكلِّ ذي لبٍّ أن يكون على حذَرٍ من مثل هؤلاء الأَدعياء الذين يَنتسبون إلى الإسلام، وهو منهم بَراء، وجدير بكلِّ ذي لبٍّ ألَّا يَترك ميدانَ الدَّعوة إلى الله بالحكمة والموعِظة الحسنة خاليًا لأمثالِهم، فهؤلاء طلائع الهَزيمة للتوحيد؛ لاستنكافهم حتى عن مجرَّد النَّظر في كُتب الحقِّ؛ إذ إنَّه من العجب أن تظلَّ هذه الفِئة موجودة في دنيا العِلم والإيمان، ومن العيب على مَن يتعيَّن عليه إرشاد النَّاس أن يهمِل تَنقية بيئته من المعتقدات الفاسِدَة، ويترك تَرشيد العقول إلى فِئامٍ من الغُلاة الذين يَجهلون سماحَةَ الدِّين ويُسره، أو من المتهوِّرين الذين يَحملون غيرهم على ركوب الشَّطط، أو الجهَلَة الذين يَبتعدون بمَن معهم عن الهَدي الإلهي والنَّهج المحمَّدي، أو أصحاب الإتاوات المضروبة على كثيرٍ ممَّن لَم يسعدهم الحظُّ في ارتياد أماكن العِلم من جرَّاء تقاعُس المرشدين تطوعًا أو هوية.
والله المستعان، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد، وآلِه وصحبه.