مع نفسي. . .!
مدة
قراءة المادة :
4 دقائق
.
للأستاذ سيد قطب
(1) كتاب الحياة
هذه الحياة الدنيا عجيبة: صفحة منها تعرض كأنما هي وجه الجحيم، فإذا الدنيا كلها آلام، وإذا الطريق كله أشواك؛ وإذا النفس الإنسانية في يأس لا رجاء لها فيه، وضيق لا مخرج لها منه. وصفحة منها تعرض، كأنما هي طلعة الفردوس؛ فإذا النفس الإنسانية تطلع على هذه الحياة، وكأنما ترتادها أول مرة، وفي رحابها الفسيحة آفاق للأمل لا تأخذها الأبصار وليس بين هذه الصفحة وتلك، إلا بمقدار ما تتحول النظرة من صفحة إلى أخرى في كتاب! فأين هو الحق والباطل في هذا الكتاب العجيب؟ (2) لحظة سعيدة كم في هذه الدنيا من أشياء جميلة، نفقدها كل يوم لأننا لا نلقى إليها انتباهنا في اللحظة المناسبة بالأمس كنت في حجرتي منفرداً، كانت أبوابها مغلقة علي، لأنني في أعقاب توعك زال.
وفجأة نظرت إلى النافذة المغلقة، فرأيت الشمس من روائها توصوص لي بأشعتها لقد أحسست إحساساً - غير كاذب - أنها تستأذن عليَّ في لهفة.
إنها تود لو أسمح لها بالدخول.
كانت كالصبية الغريرة في مطلع الربيع.
وما كدت أفتح لها النافذة حتى أشرق محياها الوضئ بابتسامة عريضة.
وراحت تلقي في فرح وشوق على أرضية الحجرة المتواضعة، كأنها ملكة تتخفف من التقاليد وما لبثت أن أخذت تتجاذب مع كل شيء في الحجرة أطراف حديث شهي، كنت أصغي له بكل جوارحي؛ ولقد وعيت في لحظات قصار أشياء كثيرة، لا أملك أن أبوح بها.
لقد ذابت في دمي وأحاسيسي، واندست هناك بعيداً عن متناول الألفاظ ورويداً رويداً جعلت أشعر أن كل ما في الحجرة يؤلف (جوقة) راقصة توقع (سيمفونية) عذبة.
ورأيتني أشترك مع هذه الجوقة في الرقص والتوقيع.
وقد غاب عن حسي كل ما العالم الخارجي من شخوص وأحداث، وكل ما في عالمي النفس من مشاغل ومنغصات لقد كانت لحظة جميلة.
حقيقة لم تدم.
ولكنها كسب لا شك فيه، يضاف إلى رصيدي المتواضع من السعادة العميقة في هذه الحياة (3) الحلم الضائع حينما كنت أحلم مغمض العينين، كنت أتسخط على أشواك تؤذيني في هذه الأحلام فلما استيقظت وتفتحت عيناي، رحت أتحسر على تلك الرؤى بكل ما فيها من آلام عندئذ حاولت أن أغمض أجفاني مرة أخرى، وأن أستعيد الحلم الذاهب مع الكرى هنالك سمعت هاتفاً من الأعماق: هيهات أيها الواهم هيهات أنه حلم واحد في هذه الحياة (4) الفتى المفقود لست أنت التي أريد يا فتاة، ولا عليك آسى في هذه الحياة إنما أريد ذلك الفتى الحالم الذي كان يحيل حقيقتك المجسمة، إلى رؤيا مجنحة ذلك الفتى الذي كان يلقاك في عالم الأجسام، كأنما يلتقي بأسطورة في عالم الأوهام ذلك الفتى الذي كانت تضطرب أنفاسه وتتلاحق لأن كفه لامست كفك، أو لأن نظرته التقت بنظراتك ذلك الفتى الذي كان الدم يطفر في شرايينه والبهجة ترقص في خاطره، لأن شفتيك أو عينيك قد همستا إليه ابتسامة سريعة نعم! أريد ذلك الفتى المغمض العينين، الذي كان يراك بخياله حورية ساحرة.
فإذا فتحهما مرة فرآك إنسانة عابرة، أغمض عينيه فاستطاع أن يلقاك في الفردوس المسحور أريد ذلك الفتى الذي أفتقده في نفسي اليوم فلا ألقاه.
وعليه آسي كل الأسى لا عليك أنت يا فتاة! (حلوان)