مختصر التحرير [2]


الحلقة مفرغة

ثم قال المؤلف رحمه الله: [ فصل: الدال الناصب للدليل، وهو لغة: المرشد، وما به الإرشاد ].

الدال هو الناصب للدليل، فعندنا ثلاثة أشياء بل أربعة: دال، ودليل، ومستدل ومستدل عليه، يمكن يكون أكثر، ونتركها حتى يأتي كلام المؤلف.

من هو الدال؟ الدال هو الناصب للدليل، وليس هو الدليل نفسه، بل الدال هو الناصب للدليل، مثال ذلك: الطريق له علامات، منها اللافتات التي توضع في الطريق، الذي يضع العلامة ليدل الناس على الطريق يسمى دالاً، وهذه العلامة تسمى دليلاً، هذا هو معنى الدال ومعنى الدليل، فيقول المؤلف: (الدال هو الناصب للدليل، وهو لغة المرشد وما به الإرشاد)، هو: الضمير يعود إلى أقرب مذكور، يعني الدليل هو المرشد وما به الإرشاد.

الغريب أن المؤلف رحمه الله في المعنى الأخير جعل الدليل بمعنى الدال؛ لأنه قال: (المرشد وما به الإرشاد)، الذي به الإرشاد هو الدليل، والمرشد هو الواضع للدليل.. وهو الدال، فكأن المؤلف رحمه الله جمع بين القولين؛ لأن بعض العلماء يقول: إن الدال هو الواضع للدليل، وهو نفس الذي يحسن به الإرشاد الذي هو الدليل، فاللافتة الموضوعة مثلاً يصح أن نسميها دالاً لأنه حصل بها الإرشاد، ونسميها أيضاً دليلاً، وكل هذا من باب سعة اللغة.

يقول: [ وشرعاً ]، يعني الدليل شرعاً، [ ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري ]، أي: تصديق.

قوله: (الدليل شرعاً ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري)، يعني: الشيء الذي إذا نظرت إليه بنظر الفقيه أمكنك أن تتوصل إلى مطلوب خبري، ولو قال المؤلف بدل المطلوب الخبري: (إلى حكم) لكان أوضح؛ لأن المطلوب الخبري هو الحكم الذي هو التصديق، فالدليل إذاً شرعاً: كل شيء إذا نظرت إليه نظراً صحيحاً توصلت به إلى حكم، فهو دليل شرعي، وكلمة (ما يمكن التوصل فيه) تعني أن الإنسان قد يتوصل وقد لا يتوصل.

فمثال حصول النضر تأويل قول الله: (وجاء ربك) بأنه جاء أمر ربك، فنقول له: لماذا قلت: جاء أمر ربي؟ قال: لأن العقل يمنع مجيء الله بذاته، فيتعين أن نصرفه إلى المعنى المجازي، نقول: هذا النظر غير صحيح؛ لأن العقل لا يمنع مجيء الله عز وجل على الوجه اللائق به، إنما يمنع مجيء الله على وجه مماثل لمجيء المخلوقين، فنظرك إذاً نظر غير صحيح، فلا يكون دليلك هذا دليلاً صحيحاً؛ لأننا إذا أخذناه بالنظر وجدنا أنه ليس بصحيح فلا يكون دليلاً، كأن المؤلف رحمه الله يقول: إن الدليل هو الذي يدل على الحكم على وجه صحيح، أو بعبارة أخرى: ما يمكن التوصل به إلى الحكم على وجه صحيح، فخرج بذلك ما يتوصل به إلى الحكم على وجه فاسد، فهذا لا يسمى دليلاً في الشرع.

الأدلة هي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح، هذا هو الذي عليه جمهور أهل العلم.

قال: [ ويحصل المطلوب المكتسب عقبه عادة ]، معنى ذلك أن الإنسان إذا نظر إلى الدليل حصل المطلوب بمجرد النظر عادة لا عقلاً، كما يقول المؤلف؛ مثاله: رجل اغتسل للتبرد وكان عليه جنابة، فهل يرتفع حدثه؟ لا، ما هو الدليل؟ ( إنما الأعمال بالنيات )؛ لمجرد أن تنظر في الدليل يحصل عقب هذا النظر الحكم على أن هذا الاغتسال ليس بصحيح، وهل هذا الذي حصل بمقتضى العقل أم بمقتضى العادة؟

يقول المؤلف: إنه بمقتضى العادة، يعني: عادة الإنسان المستدل أنه إذا نظر في الدليل حصل الحكم عقب النظر في الدليل.

وبعضهم يرى أنه يحصل الحكم عقبه عقلاً، والصحيح في هذا أن ينظر إذا كان العقل يقتضي التلازم بين الدليل والمدلول فإنه يحصل عقلاً؛ لأن التلازم بين الدليل والمدلول عقلاً يوجب أن يوجد المدلول إذا وجد الدليل، أما إذا كان لا يقتضي العقل فهذا يحصل عادة وليس عقلاً؛ لعدم التلازم العقلي بينهما.

فتحرر مما سبق أن الدليل لغة هو: المرشد وما به الإرشاد، [ وشرعاً ]، يعني اصطلاحاً: [ ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري ] يعني: كل شيء يمكن التوصل فيه إلى مطلوب خبري -أي تصديقي- يعني إلى حكم من الأحكام يسمى دليلاً اصطلاحاً، فالإشارات في الاصطلاح ليست دليلاً، لكن في اللغة دليل؛ لأن المؤلف يقول: (وهو لغة: المرشد وما به الإرشاد) أما في الاصطلاح فإن الدليل هو: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري، أي: لا إلى مطلوب حسي، والخبري يقول المؤلف أنه بمعنى التصديقي، كقولنا: هذا جائز، هذا واجب، هذا ممنوع، وما أشبه ذلك.

عندنا أيضاً أركان ستة: مستدل، ودال، ودليل، ومستدل عليه، ومستدل به، ومستدل له..

يقول المؤلف رحمه الله: [ المستدل هو الطالب له ] أي: للدليل، [ من سائل ومسئول ]، فكل من طلب الدليل ليثبت الحكم يسمى مستدلاً سواء كان سائلاً أو مسئولاً، والفرق بين السائل والمسئول كالفرق بين المستفتي والمفتي.

يقول: [ فالدال: الله تعالى ]؛ الدال هو الله عز وجل لأنه هو الذي نصب الدليل، [ والدليل: القرآن، والمبين: الرسول ]، وإذا ما اقتصرنا على ما قال المؤلف صار الكلام الآن على القرآن نفسه؛ لأن الرسول مبين للقرآن، أما إذا أخذنا بالأعم فنقول: الدال هو الله ورسوله، والدليل القرآن والسنة، ولذلك المؤلف يتكلم الآن على الدليل الذي هو القرآن.

[ والمستدل: أولو العلم ]، يعني أصحاب العلم، وسبق قبل قليل أن المستدل هو الطالب للدليل، فيقال: نعم إن أولي العلم يطلبون الدليل فهم المستدلون.

قال: [ هذه قواعد الإسلام ]، أي: هذه الأشياء الأربعة: الدال والدليل والمبين والمستدل؛ هذه قواعد الإسلام، المؤلف نقل هذا الكلام من نص الإمام أحمد رحمه الله، فيقول: القواعد يعني: الأركان هي هذه؛ لأن الأحكام تحتاج إلى دال ودليل ومبين ومستدل، مع أن المبين في الحقيقة يعتبر دالاً؛ لأنه يبين لك المراد.

[ والمستدل عليه الحكم ] الحكم من واجب وحرام ومكروه وما أشبه ذلك، فنحن نستدل على وجوب الصلاة بقوله تعالى كذا وكذا، إذاً: المستدل عليه هو الحكم.

[ وبه: ما يوجبه ]، يعني: المستدل به هو: ما يوجب الحكم، وهو أربعة: القرآن والسنة والإجماع والقياس الصحيح.

ثم قال المؤلف رحمه الله: [ والمستدل له: الخصم ]، يعني: فيما لو كنت تجادل إنساناً ثم أتيت بدليل نقول: الآن أنت مستدل له، بمعنى: أنك تستدل لقولك على خصمك.

ثم قال: [ والنظر هنا فكر يطلب به علم أو ظن ]، يعني النظر المذكور في قوله: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه، فما المراد بالنظر في قولنا: (بصحيح النظر)؟ يقول: هو فكر يطلب به علم أو ظن؛ لأن الوصول إلى الأحكام تارة يكون عن طريق العلم، وتارة يكون عن طريق الظن، بمعنى: أنك أحياناً َتجزم بأن حكم هذا الشيء حرام أو واجب أو ما أشبه ذلك، وأحياناً تظن.

تعريف الفكر

قال: [ والفكر هنا حركة النفس من المطالب إلى المبادئ ورجوعها منها إليها ].

لو قال: حركة القلب لكان أوضح للإنسان، لكن المعنى واضح، فقوله: (حركة النفس من المطالب إلى المبادئ ورجوعها منها إليها)، عندما تنظر في حكم مثلاً من المسائل كما لو قال لك قائل مثلاً: ما حكم الالتفات في الصلاة؟ أولاً تنظر في الالتفات ما هو ثم في الدليل عليه ثم تحكم، فتجد نفسك متردداً بين شيئين: بين دليل ومستدل له أو مستدل عليه، أيهما المبدأ؟ محتمل، ولهذا اختلفوا فيه هل المبدأ الدليل أو المبدأ المستدل عليه؟

الظاهر لي حسب الترتيب أن المبدأ المستدل عليه، يعني: تفكر في هذا الشيء أولاً ثم تطلب له الدليل، فتبدأ أولاً من الشيء الذي تريد أن تلمح حكمه ثم تطلب الدليل له.

وعندي أيضاً هناك حركة ثالثة وهي دلالة هذا الدليل؛ لأنه قد تجد مثلاً شيئاً تظنه دليلاً وليس بدليل، فتحتاج إلى زيادة تفكير تتحرك في نفسك.. فالنفس إذاً تتحرك بين مستدل عليه، ومستدل به وهو الدليل، وبين دلالة؛ هل صحيح أن هذا الدليل يدل على هذا أم لا؟ نحتاج أيضاً إلى فكر ثالث بعد أن نعرف المحكوم عليه، والدليل يجب أن نعرف هل يدل أم لا يدل، وليس بعيداً عنا ما ذكرناه في درس صحيح البخاري أن البخاري رحمه الله استدل على إجازة الطلاق بالثلاث بما ليس بدليل، هو صحيح لكن ليس فيه دلالة.

يقول: (النظر حركة النفس من المطالب إلى المبادئ ورجوعها منها) أي من المبادئ إلى المطالب، يعني: أنها تتردد بين المطلوب وبين المبدأ.

التصور والتصديق

قال: [ والإدراك بلا حكم تصور، وبه تصديق ].

يعني: أنك إذا أدركت الشيء فقط فهذا تصور، والتصور يصدق التصديق؛ لأن التصديق هو الحكم، فمثلاً: (زيد قائم) تتصور أولاً ما هو زيد، وتتصور ما هو القيام، ثم تدرك النسبة بينهما.

(الصلاة واجبة) تتصور أولاً الصلاة ثم الوجوب ما معناه، ثم الحكم عليه، ولهذا تجدون الفقهاء رحمهم الله إذا ذكروا الباب أو الكتاب أول ما يذكرون التعريف، يقولون: الصلاة هي عبادة ذات أقوال وأفعال معلومة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم، هنا تتصور الصلاة إجمالاً؛ لأننا لا نعرف الآن لا ركوع ولا سجود ولا شيء من الأفعال، إذا تصورناها نحكم عليها فنقول: الصلاة واجبة، فتصور الإدراك بلا حكم يسمى تصوراً، وبه تصديقاً، أنت تدرك مثلاً الصلاة وتتصور الهيئة العامة منها، فهذا تصور، فإذا قلت: الصلاة واجبة فهو تصديق، ولهذا قال العلماء: الحكم على الشيء فرع عن تصوره.

قال: [ والفكر هنا حركة النفس من المطالب إلى المبادئ ورجوعها منها إليها ].

لو قال: حركة القلب لكان أوضح للإنسان، لكن المعنى واضح، فقوله: (حركة النفس من المطالب إلى المبادئ ورجوعها منها إليها)، عندما تنظر في حكم مثلاً من المسائل كما لو قال لك قائل مثلاً: ما حكم الالتفات في الصلاة؟ أولاً تنظر في الالتفات ما هو ثم في الدليل عليه ثم تحكم، فتجد نفسك متردداً بين شيئين: بين دليل ومستدل له أو مستدل عليه، أيهما المبدأ؟ محتمل، ولهذا اختلفوا فيه هل المبدأ الدليل أو المبدأ المستدل عليه؟

الظاهر لي حسب الترتيب أن المبدأ المستدل عليه، يعني: تفكر في هذا الشيء أولاً ثم تطلب له الدليل، فتبدأ أولاً من الشيء الذي تريد أن تلمح حكمه ثم تطلب الدليل له.

وعندي أيضاً هناك حركة ثالثة وهي دلالة هذا الدليل؛ لأنه قد تجد مثلاً شيئاً تظنه دليلاً وليس بدليل، فتحتاج إلى زيادة تفكير تتحرك في نفسك.. فالنفس إذاً تتحرك بين مستدل عليه، ومستدل به وهو الدليل، وبين دلالة؛ هل صحيح أن هذا الدليل يدل على هذا أم لا؟ نحتاج أيضاً إلى فكر ثالث بعد أن نعرف المحكوم عليه، والدليل يجب أن نعرف هل يدل أم لا يدل، وليس بعيداً عنا ما ذكرناه في درس صحيح البخاري أن البخاري رحمه الله استدل على إجازة الطلاق بالثلاث بما ليس بدليل، هو صحيح لكن ليس فيه دلالة.

يقول: (النظر حركة النفس من المطالب إلى المبادئ ورجوعها منها) أي من المبادئ إلى المطالب، يعني: أنها تتردد بين المطلوب وبين المبدأ.

قال: [ والإدراك بلا حكم تصور، وبه تصديق ].

يعني: أنك إذا أدركت الشيء فقط فهذا تصور، والتصور يصدق التصديق؛ لأن التصديق هو الحكم، فمثلاً: (زيد قائم) تتصور أولاً ما هو زيد، وتتصور ما هو القيام، ثم تدرك النسبة بينهما.

(الصلاة واجبة) تتصور أولاً الصلاة ثم الوجوب ما معناه، ثم الحكم عليه، ولهذا تجدون الفقهاء رحمهم الله إذا ذكروا الباب أو الكتاب أول ما يذكرون التعريف، يقولون: الصلاة هي عبادة ذات أقوال وأفعال معلومة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم، هنا تتصور الصلاة إجمالاً؛ لأننا لا نعرف الآن لا ركوع ولا سجود ولا شيء من الأفعال، إذا تصورناها نحكم عليها فنقول: الصلاة واجبة، فتصور الإدراك بلا حكم يسمى تصوراً، وبه تصديقاً، أنت تدرك مثلاً الصلاة وتتصور الهيئة العامة منها، فهذا تصور، فإذا قلت: الصلاة واجبة فهو تصديق، ولهذا قال العلماء: الحكم على الشيء فرع عن تصوره.

ثم قال: [ فصل: العلم لا يحد في وجه ] المقدم خلافه، يعني: أن الصحيح أنه يحد.

إذاً: إذا قال قائل: ما هو العلم؟ نقول: العلم معلوم، هذا على رأي من يقول أنه لا يحد، ولذلك لو قال لك قائل: ما الحب؟ الحب معلوم لا يحد، ما البغض؟ معلوم لا يحد، ما العلم؟

في وجه لا يحد لأنه معلوم، أنا علمت مثلاً أن هذه لمبة فلا يحتاج أن نحده، لكن المقدم أنه يحد قال: [والصحيح أنه يحد]؛ وذلك لأن العلم يقابله ظن، ويقابله شك، ويقابله وهم، ويقابله جهل أيضاً فلا بد من معرفته، فالصحيح أنه يحد.

قال: [ وهو صفة يميز المتصف بها تمييزاً جازماً مطابقاً ].

صفة: أي ليس إدراكاً، بل صفة محلها القلب يميز المتصف بها تمييزاً جازماً مطابقاً، فيميز مثلاً أن هذه الحقيبة حقيبة، فعلمت أنها حقيبة، فإذاً: ميزتها تمييزاً جازماً مطابقاً، فإن قلت: هذه حقيبة، وهو مكرفون، فقد ميزتها تمييزاً غير مطابق.

في المعنويات لو سألني سائل: متى كانت غزوة الفتح؟ فقلت: كانت في السنة العاشرة فهذا غير مطابق، فلا يسمى علماً.

ولو سألني سائل: أيهما أسبق غزوة بدر أم غزوة أحد؟ فقلت: لا أدري، فهذا جهل، ما عندي تمييز.

ولو سألني آخر: أيهما أسبق؟ فقلت: أظن أن الأسبق غزوة بدر، فهذا غير علم؛ لأنه غير جازم، فهنا المؤلف يقول: (يميز المتصف بها تمييزاً جازماً)، وقوله: (مطابقاً) كما لو سألني ثالث وقال: أيهما أسبق غزوة بدر أم أحد؟ فقلت: أحد.

أنا الآن جازم، لكن غير مطابق. إذاً: هذا غير علم، فلابد من تمييز الشيء إدراكاً جازماً مطابقاً.

إدراك الحواس لا يدخل في حد العلم

قال: [ فلا يدخل إدراك الحواس ]؛ لأن إدراك الحواس ليس علماً، بل العلم ما يحصل من هذا الإدراك، أما مجرد الإدراك فليس بعلم، كوني أدرك الذي أمامي: زيد وعمر وبكر وخالد.. إلخ، يقولون: هذا ليس بعلم؛ لأنه مدرك بالحس، إنما أثر ذلك الشيء أو نتيجة ذلك الشيء علم، فأنت الآن تدرك الذي أمامك ولكن إدراكك إياه لا يسمى علماً، إنما ما يحصل من هذا الإدراك أو ما يترتب على هذا الإدراك يسمى علماً، ولهذا كان العلم في المعقولات والمحسوسات، لكنه في المحسوسات يترتب على الحس وليس هو الحس، ولهذا إدراك المرء عن طريق الرؤية بالبصر ليس علماً، لكن إذا رأيت وأدركت ببصري علمت، فرؤية زيد ليست علماً، لكن إدراكي أن هذا هو زيد وأنه قاعد أو قائم أو مضطجع يسمى علماً.

تفاوت العلم

قال: [ ويتفاوت كالمعلوم والإيمان ]:

يتفاوت العلم كما يتفاوت المعلوم، أظن أن تفاوت المعلوم أمر لا ينكر مثل: إنسان.. حيوان.. بيت.. شجر، كذلك العلم يتفاوت، فإن علم الإنسان بأحوال قريبه ليس كعلمه بأحوال البعيد، وعلمه بما يدل عليه النص القطعي ليس كعلمه بما يدل عليه النص الظني، وعلى هذا فقس، بل إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال الله له: قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]؛ ولهذا قال المؤلف: [ والإيمان ] يعني: كما أن الإيمان بالشيء وتصديق القلب به يتفاوت فكذلك العلم يتفاوت.

وتفاوت العلم أمر ظاهر، ولهذا بعض العلماء تجده يحكم على المسألة حكماً جازماً به لأن عنده من الأدلة ما يصل به إلى اليقين، وبعض العلماء تسأله فيقول: والله الظاهر كذا الظاهر كذا، فالثاني علمه أنقص من الأول.

قال: [ فلا يدخل إدراك الحواس ]؛ لأن إدراك الحواس ليس علماً، بل العلم ما يحصل من هذا الإدراك، أما مجرد الإدراك فليس بعلم، كوني أدرك الذي أمامي: زيد وعمر وبكر وخالد.. إلخ، يقولون: هذا ليس بعلم؛ لأنه مدرك بالحس، إنما أثر ذلك الشيء أو نتيجة ذلك الشيء علم، فأنت الآن تدرك الذي أمامك ولكن إدراكك إياه لا يسمى علماً، إنما ما يحصل من هذا الإدراك أو ما يترتب على هذا الإدراك يسمى علماً، ولهذا كان العلم في المعقولات والمحسوسات، لكنه في المحسوسات يترتب على الحس وليس هو الحس، ولهذا إدراك المرء عن طريق الرؤية بالبصر ليس علماً، لكن إذا رأيت وأدركت ببصري علمت، فرؤية زيد ليست علماً، لكن إدراكي أن هذا هو زيد وأنه قاعد أو قائم أو مضطجع يسمى علماً.