مختصر التحرير [1]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونستهديه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، وبعد:

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الحمد لله كما أثنى على نفسه، والصلاة والسلام على أفضل خلقه محمد وآله وصحبه، أما بعد:

فهذا مختصرٌ محتوٍ على مسائل تحرير المنقول وتهذيب علم الأصول في أصول الفقه، جمع الشيخ العلامة علاء الدين المرداوي الحنبلي تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنته، مما قدمه أو كان عليه الأكثر من أصحابنا دون الأقوال، خالٍ من قولٍ ثانٍ إلا لفائدةٍ تزيد على معرفة الخلاف، ومن عزو مقالٍ إلى من إياه قال، ومتى قلت: (في وجهٍ) فالمقدم غيره، (وفي) أو (على قولٍ) فإذا قوي الخلاف أو اختلف الترجيح، أو مع إطلاق القولين أو الأقوال إذا لم أطلع على مصرحٍ بالتصحيح ].

المؤلف رحمه الله تعالى ترجمته موجودة قبل هذه المقدمة بإمكانكم الرجوع إليها.

قوله: [ الحمد لله كما أثنى على نفسه ]؛ أي: كما وصف نفسه بصفات الكمال مكرراً ذلك، فالعبد لا يحصي ثناء على ربه؛ لأن صفات الله تعالى وأحكامه وأفعاله لا منتهى لها، وكل وصف أو حكم أو فعل فإنه مستحق سبحانه وتعالى للثناء عليه.

وهل نحن نحصي أفعال الله وأحكامه وصفاته؟

الجواب: لا، إذاً: لا نحصي الثناء عليه.

[ والصلاة والسلام على أفضل خلقه محمد وآله وصحبه ] قوله: (على أفضل خلقه) عام يشمل الملائكة والجن والإنس والسماوات والأرض، فمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أفضل خلق الله.

قال الناظم:

وأفضل الخلق على الإطلاق نبينا فمل عن الشقاق

محمد بن عبد الله بن القرشي الهاشمي، صلوات الله وسلامه عليه.

[ وآله وصحبه ]: آله: هم أتباعه على دينه من قرابته وغيرهم.

وصحبه: هم أصحابه، وهو كل من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك.

قوله: [ أما بعد ] هذه كلمة يؤتى بها للانتقال من المقدمة إلى الموضوع، وليست كما قال بعضهم للانتقال من أسلوب إلى آخر؛ لأنه لو كان كذلك لكانت (أما بعد) تأتي كثيراً، ولكن المراد الانتقال من المقدمة إلى الموضوع، وإعرابها كما يقول النحويون: (أما) نائبة عن مهما يكن من شيء، فهي نائبة عن اسم شرط وفعل شرط.

و(بعد) ظرف، فهذه الجملة جواب الشرط المحذوف مع فعل الشرط.

قوله: [ فهذا مختصر ] يعني مقلل، فما قل لفظه وكثر معناه فهو مختصر.

[ محتو ] أي جامع، [ على مسائل تحرير المنقول وتهذيب علم الأصول ] لو جعل تحرير المنقول وتهذيب علم الأصول بين قوسين لكان أولى؛ لأن كلمة (تحرير المنقول وتهذيب علم الأصول) اسم لكتاب مطول، هذا الكتاب الذي نقرؤه مختصر منه.

قوله: [ في أصول الفقه ] وأصول الفقه سيأتي إن شاء الله تعريفها في كلام المؤلف، [ جمع الشيخ العلامة علاء الدين المرداوي الحنبلي ]، وهو صاحب الإنصاف الكتاب المشهور، وله كتاب اسمه: (تحرير المنقول وتهذيب علم الأصول) هذب فيه علم الأصول ورتبه وجعله على أبواب ومقدمات، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان ذلك في كلام المؤلف.

قوله: [ تغمده الله برحمته ] أي: غطاه بها، وهو مأخوذ من غمد السيف وهو جرابه الذي دخل فيه.

[ وأسكنه فسيح جنته ]، أي: واسع جنته، وهو من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: الجنة الفسيحة.

قوله: [ مما قدمه ] يعني: أن هذا المختصر ذكر فيه ما قدمه [ أو كان عليه الأكثر من أصحابنا دون الأقوال ]؛ لأن تحرير المنقول فيه أقوال متعددة، وهذا المختصر حذف الأقوال ولم يذكر إلا ما قدمه أو كان عليه الأكثر ولو كان مؤخراً في كتاب: تحرير المنقول..

إذاً: المؤلف اختار من تحرير المنقول ما قدمه المؤلف، وما معنى (ما قدمه)؟

يعني: إذا ذكر قولين وبدأ بأحدهما فالمبدوء به هو المقدم.

قوله: [ أو كان عليه الأكثر من أصحابنا ] أي: ولو كان المؤخر، فإن الفتوحي رحمه الله يضعه في هذا الكتاب المختصر؛ [ دون الأقوال ] لماذا؟ [ طلباً للاختصار ] حتى يسهل على من أراد أن يحفظها حفظه.

قوله: [ خال من قول ثان إلا لفائدة تزيد على معرفة الخلاف ]، يعني هذا الكتاب المختصر خال من قول ثان، فلا يذكر فيه قول آخر إلا لفائدة تزيد على معرفة الخلاف، يعني: ليس المقصود من ذكر القول الثاني أن أبين للقارئ أن في المسألة خلافاً، بل لابد أن يكون هناك فائدة غير معرفة الخلاف، ويمر بنا ذلك إن شاء الله تعالى.

يقول: [ ومن عزو مقال إلى من إياه قال ]، أي: خال من عزو.. إلخ، (عزو) بمعنى إضافة أو نسبة، يعني: لا أنسب المقال إلى قائله، فلا أقول: قال فلان كذا وكذا، بل إن اضطررت إلى ذكر الخلاف أقول: وقيل كذا، ولماذا لا يعزوه إلى قائله؟

كل هذا طلباً للاختصار، مع العلم أن عزو القول إلى قائله فيه فائدة؛ لأن الأقوال في الواقع يطمئن الإنسان إليها إذا عرف قائلها، لكن لشدة طلب الاختصار من المؤلف حذف عزو الأقوال إلى قائليها.

قوله: [ ومتى قلت (في وجه) فالمقدم غيره ]، يعني: إذا قلت في مسألة: (كذا وكذا في وجه) فالمقدم غيره، إذا قال مثلاً: كل نهي لا يقتضي الفساد في وجه، فالمقدم غيره، المهم أنه إذا ختم الكلمة بكلمة (في وجه) أو قال: (في وجه لا يكون كذا وكذا) فالمقدم غيره، إذاً: يكون قد ذكر الضعيف لا القوي.

مثلاً لو قال: النهي لا يقتضي الفساد في وجه، فالراجح أنه يقتضي الفساد، أما إذا قال: [ في قول أو على قول فإذا قوي الخلاف ]، يعني: معناه إذا قلت: كذا وكذا في قول، فمعناه أن الخلاف قوي، وأن المؤلف لم يذكر لا راجحاً ولا مرجوحاً، وكذلك إذا قال: (على قول) فإنه لا راجح ولا مرجوح لقوة الخلاف، ومثاله ما ذكره في إثبات الحكمة لله، قال: (وفعله وأمره لا لحكمة في قول) معناه أن الخلاف في هذه المسألة قوي، هل أفعال الله وأحكامه تعلل أم لا تعلل؟

على كل حال أفادنا المؤلف رحمه الله أنه يشير إلى الخلاف على ثلاثة وجوه أو على ثلاث صور، فتارة يقول: (في وجه)، وتارة يقول: (في قول)، وتارة يقول: (على قول).

إذا قال (في وجه) فالمقدم غيره، إذاً: هو ذكر الضعيف، وإذا قال (على قول) ففيه خلاف قوي ولم يترجح عنده شيء، وإذا قال (على قول) فالخلاف قوي لا يترجح فيه شيء، وهذا اصطلاح من المؤلف، وليس معناه أنه كلما جاءت مثل هذه العبارة فلها هذا الحكم، بل: هذه اصطلاحات خاصة، أرأيت عند المحدثين أنهم إذا قالوا: (متفق عليه) فمعناه أنه رواه البخاري ومسلم ؛ لكن في المنتقى إذا قال: متفق عليه فرواه البخاري ومسلم وأحمد ، فما دام المؤلف ذكر اصطلاحه في مقدمة الكتاب فإنه لا يقال له: لا نعرف لهذه العبارة مراداً بها هذا المعنى، ما دام هذا اصطلاحه فله اصطلاحه.

قوله: [ فإذا قوي الخلاف أو اختلف الترجيح أو مع إطلاق القولين أو الأقوال إذا لم أطلع على مصرح بالتصحيح ] إذاً: صارت (في قول وعلى قول) تكون في ثلاثة مواضع:

الأول: إذا قوي الخلاف، الثاني: إذا اختلف الترجيح، الثالث: مع إطلاق القولين أو الأقوال إذا لم يطلع على مصرح بالتصحيح، بمعنى: أن غيره ذكر أن المسألة فيها قولان وأطلق ولم يرجح، فيقول: في قول أو على قول.

قال: [ وأرجو أن يكون مغن لحفاظه على وجازة ألفاظه ]؛ إذاً: كأن المؤلف يقول لنا: احفظوه!

[ وأسأل الله تعالى أن يعصمني ومن قرأه من الزلل، وأن يوفقنا والمسلمين لما يرضيه من القول والعمل ] آمين.

ثم قال المؤلف رحمه الله: [ مقدمة:

موضوع علم أصول الفقه

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، فموضوع ذا الأدلة الموصلة إلى الفقه ].

يقول العلماء: إن كل من أراد طلب علم فلابد أن يعرف موضوعه حتى يعرف ماذا يطلب، وموضوعه هو الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، هنا عبارة أفضل من هذه وأوضح: موضوعه هو محل البحث، يعني: ما يبحث فيه، فمثلاً: باب صلاة الجمعة ما موضوعه أحكام صلاة الجمعة، الفقه موضوعه العبادات والمعاملات وما أشبه ذلك، فموضوع كل علم هو الذي يبحث فيه، يعني: موضوع البحث هو موضوع العلم.

وقوله: [ عوارضه الذاتية ]؛ العوارض تعني الأوصاف من وجوب وتحريم وكراهة وصحة وفساد وما أشبه ذلك، فالعوارض هي الصفات، جمع عارضة.

[ الذاتية ] احترازاً من العوارض غير الذاتية، وهي العارضة، فلا تدخل في الموضوع.

فموضوع العلوم هي العوارض الذاتية، يعني: الأوصاف التي يبحث فيها في هذا العلم، وتكون أوصافاً لازمة؛ بخلاف العوارض.

وموضوع أصول الفقه الأدلة الموصلة إلى الفقه، ولهذا تجد علم الأصول يبحث في الكتاب والسنة والإجماع والقياس وما يتفرع عن ذلك، ومن زاد الاستصحاب والمصالح المرسلة، ويبحث في هذه الأشياء، ولا يبحث في حكم صلاة من صلى إلى غير قبلة؛ لأن هذا من موضوع الفقه.

إذاً: لو سئلت: ما موضوع علم أصول الفقه؟ فقل: أدلة الفقه، أو الأدلة الموصلة إلى الفقه، وهذا هو الصواب، والأدلة الموصلة إلى الفقه الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح.

قال: [ ولابد لمن طلب علماً أن يتصوره بوجه ما ]، كل إنسان يريد أن يطلب العلم لابد أن يتصوره، لكن بوجه ما؛ إذ إنه لا يمكنه أن يتصوره تصوراً كاملاً إلا بعد أن يدركه ويخلص منه، فالتصور الكامل لا يكون لمن ابتدأ طلب العلم؛ لأنه لو تصوره كاملاً لم يحتج إلى تعلمه، لكن أن يتصوره بوجه ما، و(ما) هذه نكرة واصفة، يعني: بوجه أي وجه.

فمثلاً عندما نريد أن نطلب علم النحو لابد أن نتصوره: وما علم النحو هذا؟ وما المقصود منه؟ حتى نلج فيه، علم أصول الفقه لابد أن نتصوره: وما هذا العلم وما يبحث فيه؟ قال: يبحث في الأدلة الموصلة للفقه، فإذاً: لابد أن تتصور العلم تصوراً ما قبل أن تطلبه.

قال: [ وأن يعرف غايته ]، الغاية يعني: الثمرة التي يكتسبها من وراء هذا العلم، وإلا لكان طلبه لهذا العلم عبثاً، مثل رجل دخل يتعلم أصول الفقه، قلنا: ما هي الغاية من تعلم أصول الفقه؟ قال: والله لا أدري؛ لكن جاءت لي فرصة وطلبت العلم! نقول: هذا عبث وإضاعة وقت، إذا لم تعرف غايته فكيف تطلبه؟ ولهذا حتى في الأمور الدنيوية لو أراد أحد أن يسافر إلى بلد ما نقول: لابد أن تعرف ما غاية السفر.

وغاية أصول الفقه من أهم الغايات؛ لأن الإنسان يعرف كيف يستنبط الأحكام الفقهية من أدلتها الشرعية بواسطة علم أصول الفقه، فالغاية منه غاية عظيمة حميدة، ولا يمكن للإنسان أن يستنبط الأحكام من الأدلة على وجه سليم إلا بذلك، وإلا لغوى ولم يعرف، أو على الأقل: لم يحرر المسائل كما ينبغي.

[ ويعرف غايته ومادته ] أي: من أين يؤخذ؛ لأجل أن يذهب إلى هذه المادة ويطلبها حتى يصل إليه، أما أن تطلب شيئاً وأنت لا تعرف مادته ولا من أين يؤخذ فإن هذا يشق عليك أن تصل إلى درجة الكمال فيه.

تعريف الأصول

قال: [ فأصول: جمع أصل، وهو لغة: ما يبنى عليه غيره، واصطلاحاً: ما له فرع ].

الأصل في اللغة: ما يبنى عليه غيره، ومنه أساس الجدران يسمى أصلاً لها، ومنها القاعدة التي يركز عليها العمود مثلاً هذه تسمى أصلاً، لأنه يبنى عليها غيرها.

وأما في الاصطلاح فيقولون: إن الأصل كل ما تفرع عنه غيره، أي: كل ما له فرع سواء وجد ذلك الفرع أم لم يوجد، لكن في اللغة لابد أن يكون هناك بناء على شيء، فلا أصل إلا ببناء، أما في الاصطلاح فكل ما له فرع وإن لم يتفرع عليه يسمى أصلاً.

قال: [ ويطلق على الدليل غالباً، وهو المراد هنا، وعلى الرجحان والقاعدة المستمرة والمقيس عليه ].

أفادنا المؤلف أن كلمة (أصل) تطلق على أربعة أمور:

أولاً: على الدليل، كما في قول أهل العلم: الأصل في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، الأصل في هذا قول الله تعالى كذا وكذا، الأصل في هذا الإجماع، مثلاً يقول: يسن للمسافر إذا سافر أن يصلي الرباعية ركعتين، والأصل في ذلك قوله تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النساء:101] فالأصل هنا بمعنى الدليل.

وقوله: [ وهو المراد هنا ]، أي في قوله: (أصول الفقه) المراد بذلك أدلته الموصلة إليه.

قال: [ ويطلق أيضاً على الرجحان وعلى القاعدة المستمرة ]:

على الرجحان مثل: رجل متوضئ ثم شك هل أحدث أم لا، نقول: الأصل أنك على طهارتك، يعني: الراجح أنك على طهارتك لأن الحدث طارئ والأصل عدم وجوده.

القاعدة المستمرة: هي الضوابط التي نراها في الفقه، تجدهم يعللون الشيء بعلة، فيبنون عليها المسائل، مثل قولنا إن الدفع أسهل من الرفع، والاستدامة أقوى من الابتداء، هذه قاعدة مستمرة، نقول: بناء على هذا الأصل يكون كذا وكذا، فيطلق إذاً على القاعدة المستمرة وإن لم تكن دليلاً؛ لأن القاعدة مأخوذة من دليل، ولكنها ضابط يشتمل على مسائل جزئية.

قال: [والمقيس عليه]؛ لأن أركان القياس أربعة: أصل وفرع وعلة وحكم، الأصل هو المقيس عليه، والفرع هو المقيس.

إذاً: لو سئلنا: على أي شيء يطلق الأصل؟

نقول: يطلق على أربعة أشياء: الدليل، والرجحان، والقاعدة المستقرة، والمقيس عليه.

تعريف الفقه

قال: [ الفقه لغة: الفهم، وهو إدراك معنى الكلام ]، قال الله تعالى: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه:27-28] أي: يفهموه، فإدراك معنى الكلام يسمى فقهاً في اللغة.

[ وشرعاً: معرفة الأحكام الشرعية الفرعية بالفعل أو بالقوة القريبة ].

الفقه: معرفة الأحكام الشرعية، وكلمة (معرفة) تشمل العلم والظن؛ لأن إدراك الأحكام الشرعية تارة يكون علماً وتارة يكون ظناً.. فوجوب الصيام المستفاد من قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183]، هذا علم، فنقول: هذا إدراك لحكم الصيام علماً يقينياً.

بعض المسائل الخلافية كوجوب أو رجحان الوضوء من مس الذكر ظن؛ لأنه يحتمل خلاف ما حكمت به.

إذاً: (معرفة) تشمل العلم والظن.

قوله: (الأحكام الشرعية) احتراز من الأحكام العقلية والأحكام العادية؛ فإن هذه لا تسمى فقهاً، فالأحكام العقلية كمعرفتنا أو كحكمنا بأن الجزء أصغر من الكل، أو بأن الأثر يدل على المؤثر، أو بأن كل حادث لابد له من محدث، هذه أحكام عقلية لا تدخل في الفقه.

والأحكام العادية كمعرفتنا أن هذا الدواء إذا تناوله الإنسان أصابه الإسهال مثلاً، فحكمي على أن هذا يسبب الإسهال حكم عادي، وكذلك إذا رأينا أن الشرط منتشرة في الأسواق نستدل بذلك على أنه سيأتي ضيف أو إنسان كبير، بناء على العادة، هذا لا يدخل في الفقه.

قوله: (الفرعية): احتراز من الأحكام الأصولية التي هي العقائد، فهذه لا تدخل في الفقه في الاصطلاح؛ لكن تدخل في الفقه من حيث المعنى الشرعي، بل هي أصل الفقه وأشرف الفقه، ولهذا يسمى العلم بالعقائد: الفقه الأكبر.

قوله: (بالفعل أو بالقوة القريبة)، يعني: أن الفقه يعرفه الإنسان بالفعل، من يوم يسأل يحكم، فهذه معرفة بالفعل، والآن عندنا مثلاً أحكام كثيرة في نفوسنا نعرفها بأن هذا حرام وهذا واجب وهذا مسنون وهذا مباح وهذا مكروه هذه نعرفها بالفعل.

أو بالقوة القريبة: لأننا لا نحيط علماً بكل الأحكام؛ لكن عندنا قوة وقدرة أننا ندركها عن قرب، بأن نتأمل أدنى تأمل ونعرف الحكم، أو نراجع مراجعة سهلة ونعرف الحكم؛ لكن نأتي لواحد ونقول: ما هو حكم كذا وكذا؟ قال: دعني أراجع، فنقول: إلى متى؟ قال: قد أدركها بعد عشرة أيام، هذه قوة بعيدة، وليست قريبة؛ ولهذا حتى العامي الذي يعرف القراء يمكن أن يعرف حكم المسألة، لكن لا يعرفها إلا بعد مراجعة وبعد زمن طويل.

فإذاً: الفقه معرفة الأحكام الشرعية الفرعية بالفعل، ومعنى (بالفعل) أنه لا يحتاج إلى تأمل وتفكير، بل يكون مستحضرها بقلبه من الآن، أو بالقوة القريبة بأن لا يكون مستحضراً لها لكن يحصل عليها بأدنى تأمل أو بأدنى مراجعة.

بعضهم يقول: إن الفقه هو معرفة الأحكام الشرعية المتعلقة بأفعال المكلفين، وهذا صحيح، وهو أسهل أيضاً، وكلمة (معرفة) تغني عن قولنا: (بالفعل أو بالقوة القريبة)؛ لأن الذي ليس له معرفة لا هو عارف لا بالفعل ولا بالقوة القريبة. والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: [ والفقيه من عرف جملة غالبة كذلك ]، فيريد المؤلف رحمه الله أن الفقيه هو الذي يعرف جملة غالبة من الأحكام الشرعية الفرعية.

وقوله: (كذلك) أي بالفعل أو بالقوة القريبة، وكل إنسان يعرف الفقه يعرف الفقيه؛ لأن الفقيه هو الذي اتصف بالفقه.

تعريف أصول الفقه علماً

قال: [ أما أصول الفقه علماً ] يعني: اسماً لهذا الفن المعين، يعني: لو سألك سائل: ما هو أصول الفقه؟ فاستمع للتعريف.

قال: [ القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية ]، أي: استنباطها من الأدلة.

فهو عبارة عن قواعد، والقواعد: جمع قاعدة، وهو الأمر الكلي الذي يتفرع عليه مسائل جزئية.

القواعد التي يتوصل بها، يعني: أنك إذا عرفتها توصلت إلى استنباط الأحكام الشرعية.

(استنباط) بمعنى: استخراج (الأحكام الشرعية) من الأدلة.

ففائدة أصول الفقه الآن فائدة عظيمة جداً؛ لأن الإنسان إذا عرفه ورزقه الله تعالى فهماً استطاع أن يستنبط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة وغيرها من الأدلة؛ لأن معه آلة يستنبط بها، فهو بمنزلة الحفار الذي يحفر به الإنسان الأرض ليستنبط به الماء، فهذا هو أصول الفقه، قواعد وليس جزئيات، فمثلاً نقول في أصول الفقه: الأمر للوجوب، النهي للتحريم، النهي يقتضي الفساد، الواجب يثاب فاعله، تجد قواعد عامة لكن يتوصل بها الإنسان إلى استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.

قال: [ والأصولي من عرفها ]، أي: عرف أصول الفقه، فإذا قيل: أصولي فالمعنى أنه عالم بأصول الفقه.

غاية علم الأصول

[ وغايتها معرفة أحكام الله تعالى والعمل بها ]، أي: بأحكام الله، يعني: لو سأل سائل: ما هي الغاية من أصول الفقه؟

فالجواب: أن الغاية أن تعرف أحكام الله عز وجل.

وقوله: (والعمل بها) الواقع أنه ليس فهم هذه الأصول مستلزماً للعمل، ولكن هو الثمرة؛ لأن هذه الأصول المرحلة الأولى، ثم المرحلة الثانية: العلم بما تقتضيه النصوص بناء على هذه الأصول، ثم المرحلة الثالثة: العمل، فالعمل ثمرة؛ لكن الغاية من دراسة أصول الفقه أن تعلم الأحكام الشرعية من أدلتها بواسطة هذه الأصول.

أما أن نقول: العمل فهو في الحقيقة ثمرة وليس بغاية؛ لأن الأصولي إذا عرف كيف يستنبط الأحكام من الأدلة الشرعية فهذه وظيفته؛ لكن العمل ثمرة أخرى.

حكم تعلم أصول الفقه

قال: [ ومعرفتها فرض كفاية كالفقه ]:

معرفة أصول الفقه فرض كفاية، وعلى هذا فإذا درسها الإنسان فإنه ينبغي أن يعتبر نفسه قائماً بفرض.

وأن له أجر عامل هذا الفرض، ونحن مع الأسف في دروسنا هذه وغيرها يدرس الإنسان وكأنه يريد أن يصل إلى العلم فقط، وهذا طيب ونية طيبة؛ لكن ينبغي أن يشعر بأنه يقوم بفرض من أجل أن يحتسب الأجر على الله عز وجل، لأن هناك فرقاً بين أن يدرس الإنسان العلم لمجرد الحصول على العلم وبين أن يدرس العلم على أنه قائم بفرض، الثاني تجده يحتسب الأجر عند كل كلمة يقولها أو يكتبها أو يقرؤها، وهذا في الحقيقة يفوتنا كثيراً.

إذاً: تعلم أصول الفقه فرض كفاية، إن قام به من يكفي سقط عن الباقين، وإن لم يقم به تعين علينا أن نتعلمه؛ لأن غايته معرفة أحكام الله عز وجل من كتاب الله وسنة رسوله، وهذا أمر لابد للمسلمين منه.

وقوله: (كالفقه) يعني: كما أن تعلم الفقه فرض كفاية، وإطلاق المؤلف فرض الكفاية على تعلم الفقه فيه نظر؛ لأن تعلم الفقه قد يكون فرض عين، وذلك إذا كان يتوقف أداء العبادة عليه، أو بعبارة أصح: إذا كان تتوقف المتابعة عليه فإنه يكون حينئذٍ فرض عين، فمثلاً: من أراد أن يصلي ففرض عليه أن يعرف كيف كان الرسول عليه الصلاة والسلام يصلي الفرض، إذا أراد أن يتطهر فرض عليه أن يعرف كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يتطهر، إذا كان عنده مال ففرض عليه أن يعرف أحكام الزكاة، إذا كان يريد الحج فعليه أن يعرف كيف حج النبي صلى الله عليه وسلم، أما ما عدا ذلك مما لا يحتاج إليه في الفقه فهو فرض كفاية.

فصار الفقه منه فرض عين ومنه فرض كفاية، فما يتوقف عليه الاتباع فرض عين، وما زاد على ذلك فرض كفاية؛ أنا مثلاً لا أريد أن أشتغل بالتجارة، فلا يلزمني أن أتعلم أحكام البيوع، بل هو فرض كفاية، إذا كان في البلد من يعرف أحكام البيوع ويفتي الناس بما تقتضي الشريعة لم يجب عليَّ تعلمه.

قال: [ والأولى تقديمها عليه ]:

الأولى أن يقدم تعلم أصول الفقه على الفقه، هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله، ووجهه أن الإنسان يبدأ بالأصول ويبني عليها الفروع.

وقال بعض العلماء: بل الأولى تقديم الفقه؛ لأن الإنسان مطالب بعمل، مطالب بالصلاة والزكاة والصوم والحج والطهارة وغير ذلك قبل أن يطالب بمعرفة الأصول، سيكون الأولى أن يقدم الفقه، بل لو قيل بتقديم الفقه عليها لكان أقرب، وهذا عند التزاحم، أما إذا كان الإنسان يمكنه أن يتعلم هذا وهذا فلا شك أنه أفضل، لكن عند التزاحم لو جاءنا جاءٍ وقال: هل الأولى أن أبدأ بأصول الفقه أو بالفقه؟ قلنا: الآن أيهما أحوج؟ الفقه لا شك؛ لأن الإنسان محتاج إليه في كل ساعة من حين ما يكلف وهو محتاج إلى الفقه.

فالقول الثاني في المسألة: أن الأولى أن يقدم الفقه على أصول الفقه، وهذا -كما قلت- عند التزاحم، أما مع السعة فالإتيان بهما جميعاً أفضل.

استمداد أصول الفقه

قال: [ ويستمد من أصول الدين والعربية وتصور الأحكام ]:

(يستمد) الضمير يعود على أصول الفقه، واستمداده من ثلاثة أمور:

من أصول الدين التي أصلها العقيدة: لأن الإنسان إذا لم يعتقد أن له رباً يأمره وينهاه فإنه لن يسعى ولن يقرأ في أصول الفقه، لا يمكن أن الإنسان يقرأ في أصول الفقه ويعتقد أن الأمر ملزم والنهي ملزم والندب غير ملزم إلا إذا كان عنده عقيدة، وهذا يتعلق بأصول الدين.

العربية: أيضاً لابد أن يكون عند الإنسان عربية؛ لأن العربية تعرف بها العام من الخاص والمطلق من المقيد، والمحصور من غير المحصور، فلابد من علم العربية في أصول الفقه.

تصور الأحكام: لابد أن نتصور الأحكام التي نحكم بها، وأما أن نقول: الأمر يقتضي الوجوب، ونحن لا نعرف الوجوب؛ فهذا لا يستقيم.

فصار استمداد أصول الفقه من ثلاثة أشياء:

الأول: أصول الدين الذي هو العقيدة.

والثاني: العربية؛ لأنا محتاجون أن نعرف دلالات الألفاظ.

والثالث: تصور الأحكام، لنعرف كيف نحكم بأن هذا واجب وهذا حرام؛ لأن ذلك لا يكون إلا بعد أن نتصور معنى الواجب ومعنى الحرام.