شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة -1


الحلقة مفرغة

قال رحمه الله تعالى: [ باب صفة الصلاة ].

المسألة الأولى: قال: [ وإذا قام إلى الصلاة قال: الله أكبر ].

وهذا فيه أولاً: القيام إلى الصلاة، وقد سبق مراراً أن القيام إلى الصلاة مع القدرة من أركان الصلاة؛ لقوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6] إلى آخر الآية، والإجماع على أن القيام إلى الصلاة فرض على القادر؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتفق عليه: ( صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب ).

قال: [ الله أكبر ].

وهي تكبيرة الإحرام وهي فرض، ركن عند جماهير أهل العلم خلافاً لمن لم ير ذلك من السلف، وخلافاً لـأبي حنيفة الذي يرى أن الدخول في الصلاة يتم بأي صفة فيها تعظيم لله، كأن تقول: (الله أعظم) أو (الله أجل)، بل النصوص تدل على أنه يجب أن يقول هذا اللفظ بذاته: الله أكبر.

ولذلك جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال عن الصلاة: ( مفتاحها الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم )، أي: أنه إذا كبر حرم عليه ما يحرم في الصلاة: من الالتفات عن القبلة، والكلام، والأكل، والشرب .. وغير ذلك، وتحليلها التسليم، أي: أنه إذا سلم حل له ما حرم عليه في الصلاة من ذلك.

والحديث رواه أبو داود والترمذي والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي وهو كما قال .

فهو دليل على أن الصلاة إنما يحرم الإنسان بها بلفظ: (الله أكبر) لا بغيره من الألفاظ.

جهر الإمام بالتكبيرات ليؤتم به

المسألة الثانية: يجهر بها الإمام وبسائر التكبير ليُسمع من خلفه، أي: أن الإمام يجهر بتكبيرة الإحرام ويجهر بغيرها من التكبيرات الأخر التي هي تكبيرات الانتقال، كتكبيرة الركوع مثلاً، وتكبيرة السجود، وتكبيرة الرفع من السجود، وتكبيرة القيام من التشهد الأول.. ونحو ذلك، يجهر بها ليُسمع من خلفه، وذلك هو ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما في حديث نعيم المجمر قال: ( صليت خلف أبي هريرة رضي الله عنه فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم -وظاهر ذلك أنه جهر بها- ثم قرأ بأم القرآن حتى إذا بلغ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] قال: آمين، ويقول كلما سجد أو قام: الله أكبر، فلما انصرف من صلاته رضي الله عنه قال: إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) والحديث صحيح رواه النسائي وابن خزيمة وصححه، فهو دليل على أن الإمام يجهر بالتكبيرات كلها ليُسمع من خلفه؛ وذلك لأن من خلفه يقتدي بصلاته.

ولذلك جاء أيضاً في الحديث الآخر المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، ولا تسجدوا حتى يسجد ) إلى آخر الحديث، وذلك كله لا يتم إلا إذا كان الإمام يجهر بالتكبيرات، تكبيرة الإحرام وغيرها من تكبيرات الانتقال؛ ليتسنى للمأمومين سماع صوته واتباع التكبير بعده والانتقال بعده أيضاً.

حكم الجهر بالتكبير في حق غير الإمام

الثالثة: قال: [ ويخفيه غيره ].

أي: غير الإمام، وذلك يشمل المأموم والمنفرد، فإن السنة في حقهم أن يخفوا جميع التكبيرات: تكبيرة الإحرام، وتكبيرات الانتقال؛ لأنه لا معنى لجهرهم بها، فليس أحد يتبعهم في الصلاة ليسمعهم أو يكبر بتكبيرهم، ولكن في حقهم أن يخفوا ذلك، وهذا هو المأثور عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، أنهم كانوا يخفون تلك التكبيرات.

مشروعية رفع اليدين عند ابتداء التكبير

الرابعة: قال: [ ويرفع يديه عند ابتداء التكبير إلى حذو منكبيه أو إلى فروع أذنيه ].

(عند ابتداء التكبير) أي: تكبيرة الإحرام، أو التكبيرات الأخرى التي يشرع فيها الرفع، وقد جاء في حديث عبد الله بن عمر في المتفق عليه أنه قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حذو منكبيه إذا كبر للصلاة -يعني تكبيرة الإحرام- وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك وقال: سمع الله لمن حمده، وكان لا يفعل ذلك في السجود ) هذا حديث ابن عمر رضي الله عنه وهو متفق عليه، وقد صرح فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حذو منكبيه إذا كبر للصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع.

وفي حديث ابن عمر أولاً: أن التكبير إلى حذو منكبيه، وفيه أيضاً أنه يرفع يديه عند ابتداء الصلاة، عند تكبيرة الإحرام، وأما موضع الرفع فقد يرفع مع التكبير، قد يرفع مع التكبير وهو الغالب، أو قبله أو بعده، كل هذه الأحوال الثلاثة جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ربما رفع يديه قبل التكبير أو بعده أو معه وهو الغالب، ولهذا قال هاهنا: [ ويرفع يديه عند ابتداء التكبير إلى حذو منكبيه ] لحديث ابن عمر السابق، [ أو إلى فروع أذنيه ]، أي: أنه يجعل أصابعه إلى أطراف أذنيه، وهذا أيضاً جاء عند مسلم عن مالك بن الحويرث أنه صلى الله عليه وآله وسلم ( رفع يديه إلى فروع أذنيه ).

قال بعض أهل العلم: إن أسفل الكف يكون حذو المنكبين، وأطراف الأصابع إلى فروع الأذنين؛ وذلك جمعاً بين النصوص، والأولى -والله تعالى أعلم- أن يحمل هذا على تعدد الأحوال، فأحياناً يرفع يديه إلى حذو منكبيه، وأحياناً يرفعهما إلى فروع أذنيه.

المسألة الثانية: يجهر بها الإمام وبسائر التكبير ليُسمع من خلفه، أي: أن الإمام يجهر بتكبيرة الإحرام ويجهر بغيرها من التكبيرات الأخر التي هي تكبيرات الانتقال، كتكبيرة الركوع مثلاً، وتكبيرة السجود، وتكبيرة الرفع من السجود، وتكبيرة القيام من التشهد الأول.. ونحو ذلك، يجهر بها ليُسمع من خلفه، وذلك هو ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما في حديث نعيم المجمر قال: ( صليت خلف أبي هريرة رضي الله عنه فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم -وظاهر ذلك أنه جهر بها- ثم قرأ بأم القرآن حتى إذا بلغ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] قال: آمين، ويقول كلما سجد أو قام: الله أكبر، فلما انصرف من صلاته رضي الله عنه قال: إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) والحديث صحيح رواه النسائي وابن خزيمة وصححه، فهو دليل على أن الإمام يجهر بالتكبيرات كلها ليُسمع من خلفه؛ وذلك لأن من خلفه يقتدي بصلاته.

ولذلك جاء أيضاً في الحديث الآخر المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، ولا تسجدوا حتى يسجد ) إلى آخر الحديث، وذلك كله لا يتم إلا إذا كان الإمام يجهر بالتكبيرات، تكبيرة الإحرام وغيرها من تكبيرات الانتقال؛ ليتسنى للمأمومين سماع صوته واتباع التكبير بعده والانتقال بعده أيضاً.

الثالثة: قال: [ ويخفيه غيره ].

أي: غير الإمام، وذلك يشمل المأموم والمنفرد، فإن السنة في حقهم أن يخفوا جميع التكبيرات: تكبيرة الإحرام، وتكبيرات الانتقال؛ لأنه لا معنى لجهرهم بها، فليس أحد يتبعهم في الصلاة ليسمعهم أو يكبر بتكبيرهم، ولكن في حقهم أن يخفوا ذلك، وهذا هو المأثور عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، أنهم كانوا يخفون تلك التكبيرات.

الرابعة: قال: [ ويرفع يديه عند ابتداء التكبير إلى حذو منكبيه أو إلى فروع أذنيه ].

(عند ابتداء التكبير) أي: تكبيرة الإحرام، أو التكبيرات الأخرى التي يشرع فيها الرفع، وقد جاء في حديث عبد الله بن عمر في المتفق عليه أنه قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حذو منكبيه إذا كبر للصلاة -يعني تكبيرة الإحرام- وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك وقال: سمع الله لمن حمده، وكان لا يفعل ذلك في السجود ) هذا حديث ابن عمر رضي الله عنه وهو متفق عليه، وقد صرح فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حذو منكبيه إذا كبر للصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع.

وفي حديث ابن عمر أولاً: أن التكبير إلى حذو منكبيه، وفيه أيضاً أنه يرفع يديه عند ابتداء الصلاة، عند تكبيرة الإحرام، وأما موضع الرفع فقد يرفع مع التكبير، قد يرفع مع التكبير وهو الغالب، أو قبله أو بعده، كل هذه الأحوال الثلاثة جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ربما رفع يديه قبل التكبير أو بعده أو معه وهو الغالب، ولهذا قال هاهنا: [ ويرفع يديه عند ابتداء التكبير إلى حذو منكبيه ] لحديث ابن عمر السابق، [ أو إلى فروع أذنيه ]، أي: أنه يجعل أصابعه إلى أطراف أذنيه، وهذا أيضاً جاء عند مسلم عن مالك بن الحويرث أنه صلى الله عليه وآله وسلم ( رفع يديه إلى فروع أذنيه ).

قال بعض أهل العلم: إن أسفل الكف يكون حذو المنكبين، وأطراف الأصابع إلى فروع الأذنين؛ وذلك جمعاً بين النصوص، والأولى -والله تعالى أعلم- أن يحمل هذا على تعدد الأحوال، فأحياناً يرفع يديه إلى حذو منكبيه، وأحياناً يرفعهما إلى فروع أذنيه.

المسألة الخامسة: [ ويجعلهما تحت سرته ].

(ويجعلهما) أي: يديه، (تحت سرته)، إذا انتهى من رفعهما فإنه يضعهما تحت السرة على ما ذهب إليه المصنف رحمه الله تعالى، وقد جاء في ذلك حديث عند أبي داود عن علي رضي الله عنه وأرضاه أنه [ كان يجعل يده اليمنى على اليسرى تحت سرته ]، الحديث رواه البيهقي أيضاً وغيره، وهو حديث ضعيف، وهو أحد الأقوال في المذهب، وضع اليد اليمنى على اليسرى تحت السرة.

والقول الثاني: أنه يضع اليمنى على اليسرى فوق السرة، وهو مذهب الجمهور الشافعي وغيره.

والقول الثالث: أنه يضعهما فوق صدره، وهذا منقول عن الإمام أحمد وفقهاء أهل الحديث، وهو أصح ما ورد، فقد جاء عند ابن خزيمة وأحمد وغيرهما عن وائل بن حجر رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى وضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره ) والحديث بهذا اللفظ حسنه الترمذي، وهو أصح ما ورد في الباب، والقول بوضعهما فوق السرة قريب من ذلك، فهذا يشبه مذهب الجمهور فيما سبق وهو أصح ما ورد.

أما وضع اليمنى على اليسرى فهو ثابت بالسنة الصحيحة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ( نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة ) وقد جاء ذلك في أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما.

إذاً: لا إشكال في وضع اليمنى على اليسرى، وإنما الإشكال أين يضعهما: تحت السرة أم يرسلهما أم فوق السرة أم فوق الصدر؟ والأقرب ما ذكرت فيما سلف.

أما إرسال اليدين -وقد نقل من مذهب المالكية- فهذا ليس عليه دليل، وإنما نقل أن مالكاً رحمه الله كان يرسل لعذر عنده، وإلا فإن السنة وضع اليمنى على اليسرى كما سبق.

وهذا يصدق على ما قبل الركوع وما بعده، فإنه يضع يده اليمنى على اليسرى فوق السرة أو فوق الصدر بعد تكبيرة الإحرام وبعد الركوع أيضاً، فإذا رفع من الركوع استحب له أن يفعل ذلك، ومما يدل عليه ما رواه البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد رضي الله عنه أنه قال: [ كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على اليسرى في الصلاة ]، وقوله: (في الصلاة) هذا يشمل ما قبل الركوع وما بعده، والله تعالى أعلم.

السادسة: [ ويجعل بصره إلى موضع سجوده ].

أي أنه يطأطئ رأسه وينظر إلى موضع سجوده، سواء كان قائماً أو راكعاً أو قاعداً، سواء كان عند الكعبة أو غيرها، وذلك لحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( إذا كبر طأطأ رأسه ورمى ببصره نحو الأرض )، والحديث رواه الحاكم والبيهقي، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وهو كما قال .

وقد جاء في بعض الروايات: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة ما كان بصره يخالف موضع سجوده )، لما دخل الكعبة وصلى فيها ما كان بصره يخالف موضع سجوده، فدل ذلك على أنه سواء كان في الكعبة أو مشاهداً لها أو في غيرها وفي كل حال، أنه ينظر إلى موضع السجود، وذلك أكمل في الخشوع، وهو حال المحتاج الذليل المفتقر إلى الله جل وتعالى.

ولذلك أيضاً: نهى النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين- عن أن يرفع الإنسان بصره إلى السماء، بل اشتد قوله في ذلك حتى قال صلى الله عليه وسلم: ( لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم في الصلاة أو لتخطفن أبصارهم )، فشدد في ذلك صلى الله عليه وآله وسلم، وفي ذلك دفع لما يشغل المصلي مما يكون في قبلته من الأشكال والصور والرسوم والأحوال وغيرها التي قد تخطف بصره، ولهذا جاء في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة، فلما انصرف منها. قال: اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانية أبي جهم، فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي )، وكان فيها خطوط وأعلام ورسوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي )، ولهذا ينبغي ألا يكون في قبلة المصلي شيء يشغله عن الصلاة، ولو وجد شيء أو لم يوجد ففي الحالين السنة في حقه أن ينظر إلى موضع سجوده، ألا يجاوز بصره ذلك الموضع.

السابعة: قال: [ ثم يقول: ( سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك ) ].

وهذا هو دعاء الاستفتاح، وقد جاء موقوفاً عند مسلم رحمه الله تعالى عن عمر رضي الله عنه، وجاء مرفوعاً عن أبي سعيد عند الخمسة وغيرهم، وسنده جاء مرفوعاً عن أبي سعيد رضي الله عنه عند النسائي وابن السني وغيرهما، وسنده فيه مقال، لكن له طرق يقوي بعضها بعضاً .

وهذا الاستفتاح هو الذي اختاره الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وقد رجحه الإمام ابن القيم في زاد المعاد وغيره من نحو عشرة وجوه، منها: اشتماله على ألوان الذكر من التسبيح والثناء والدعاء والتوحيد وغير ذلك، ولو استفتح بغير ذلك من الأدعية الواردة كان ذلك حسناً، ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: ( يا رسول الله! بأبي أنت وأمي أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد )، ولو دعا بغير ذلك مثل: ( وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين )، أو غير ذلك من ألوان الاستفتاح التي بلغت ما يزيد على اثني عشر نوعاً؛ فكل ذلك لا حرج فيه، وإن كان الكثير منها إنما ثبت في صلاة النافلة في قيام الليل، لكن إذا ثبت في صلاة النافلة فالأصل جوازه في غيرها، وأكثر ما كان يقول صلى الله عليه وسلم: إما (سبحانك اللهم وبحمدك)، أو (اللهم باعد بيني وبين خطاياي) ونحوهما.

والسنة أن يسر بذلك، ولو جهر به للتعليم فلا حرج، فإن عمر رضي الله عنه جهر بذلك -كما في الحديث الصحيح- من أجل أن يعلم المأمومين هذا الدعاء والذكر، ويبين لهم مشروعيته.

الثامنة: قال: [ ثم يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ].

وذلك لقول الله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98]، وهو أمر يدل على تأكد ذلك، أنه ينبغي للمصلي والقارئ أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ولو زاد: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم) فحسن؛ لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه كان ذلك حسناً؛ لأنه رواه الخمسة عن أبي سعيد الخدري بسند صحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه )، والهمز: هو نوع من الجنون، والنفخ: هو الكبر، والنفث: هو الشعر، الشعر الباطل المذموم الذي يكون معصية ومخالفة.

فاستعاذ بالله تعالى من هذه الأشياء كلها، ولو جمع هذا وذاك فقال: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه) كان ذلك أكمل ألوان الاستعاذة.

وهل يستعيذ بالله تعالى في كل ركعة، باعتبار أن كل ركعة فيها قرآن، أم يستعيذ بالله تعالى في الركعة الأولى؟

وجهان في المذهب وغيره، والأقرب أنه إنما يستعيذ في الركعة الأولى بعد تكبيرة الإحرام وبعد دعاء الاستفتاح؛ لأن هذا هو الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم ينقل عنه -فيما أعلم- أنه كان يستعيذ بالله في غيرها.

التاسعة: قال: [ ثم يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، ولا يجهر بشيء من ذلك ].

وذلك -أي: قول بسم الله الرحمن الرحيم- ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر، كما في حديث أنس وغيره أنه ذكر أنهم لم يكونوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم، وجاء في بعض الطرق: ( لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول القراءة ولا في آخرها )، وفي بعضها أنهم ( لم يكونوا يقرءون بسم الله الرحمن الرحيم )، والمعنى: أنهم لم يكونوا يجهرون بها، وإلا فقد اتفقت الرواية أنهم يقولونها، لكن الغالب أنهم يسرون بها، وإلا فإنها تقال في أول القراءة في الصلاة.

حكم الجهر بالبسملة

العاشرة: قال: [ ولا يجهر بشيء من ذلك ].

أي: مما سبق، سواء دعاء الاستفتاح أو الاستعاذة أو قول: بسم الله الرحمن الرحيم، وذلك لقول أنس رضي الله عنه: ( صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر

وعمر

فلم أسمع أحداً منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم
)، وهذا الحديث متفق عليه، وهو دليل على أن الأصل إسرار البسملة، وقد جاء في أحاديث كثيرة قوية أنهم كانوا يجهرون بها، وذهب إلى هذا جماعة من أهل العلم كالشافعية وغيرهم، أنه يسن الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وفي ذلك أحاديث لا بأس بأسانيدها؛ ولهذا كان القول الوسط كما اختاره الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى وغيره: أن الغالب أنه لا يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ولكنه يجهر بها أحياناً في الصلاة الجهرية، فيقول: بسم الله الرحمن الرحيم ثم يقرأ الفاتحة بعد ذلك؛ ولهذا كانوا يسمعونها أحياناً وينقلونها، والغالب أنه يسر بها، فكان أغلب أحواله صلى الله عليه وسلم الإسرار بالبسملة، وأقل أحواله: أن يجهر بها ويسمعها المأمومون من ورائه.