شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب الأذان والإقامة


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

قال المصنف رحمه الله: [ باب الأذان والإقامة ].

وفي هذا الباب عدة مسائل: أولها قوله: [ باب الأذان ].

فالأذان في اللغة: هو الإعلام، كما قال الله عز وجل: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ [التوبة:3]، وقال: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279].

وهو شرعاً: إعلام بدخول وقت الصلاة بألفاظ مخصوصة.

وقد شرع الأذان في المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليها، كما في حديث ابن عمر المتفق عليه، وكذلك حديث عبد الله بن زيد، وأنهم فكروا في إيقاد نار أو ضرب ناقوس أو غير ذلك ثم أذنوا بالصلاة، وأما ما جاء في بعض الأحاديث أن الأذان شرع في مكة في العام الذي أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم فيه وعرج إلى السماء أو غير ذلك؛ فإنه لا يصح شيء من هذا قط، والظاهر -والله تعالى أعلم- أن الأذان شرع على مراحل، أو أن الأذان كان له ثلاثة أحوال:

الحال الأولى: أنهم كانوا يصلون دون أذان، وإنما كانوا يتحينون وقت الصلاة، فيجتمعون عند المسجد للصلاة من غير نداء ولا أذان، وكان هذا هو الغالب في مكة وفي أول الهجرة، ثم بعد ذلك نادوا للصلاة نداءً عاماً كما أشار بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما في حديثه المتفق عليه، فكان ينادى للصلاة من غير ألفاظ مخصوصة، كأن ينادى لها بـ (الصلاةُ جامعة)، أو (الصلاةَ جامعة)، أو ما أشبه ذلك.

وبعد ذلك انتقلوا إلى النداء للصلاة بألفاظ مخصوصة، كما في حديث عبد الله بن زيد : ( أنه رأى رجلاً في المنام معه ناقوس فقال: أتبيع هذا؟ قال: ما تصنعون به؟ قال: ننادي به للصلاة، قال: ألا أدلك على خير من ذلك؟ قال: بلى، فعلمه الأذان، ثم رجع قليلاً وعلمه الإقامة، فأخبر بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ألقها على بلال ؛ فإنه أندى منك صوتاً فليؤذن بها، فأذن بها بلال رضي الله عنه )، والحديث رواه أهل السنن، وسنده صحيح .

وجاء في رواية صحيحة: ( أن عمر رضي الله عنه لما سمع ذلك جاء يجر إزاره، قال: والذي بعثك بالحق -يا رسول الله- لرأيت مثلما رأى )، فكانت هذه يمكن أن تضاف إلى موافقات عمر رضي الله عنه وأرضاه.

إذاً: هذا ما يتعلق بالأذان.

قال: [باب الأذان والإقامة].

الإقامة: هي المسألة الثانية، وهي مأخوذة -والله تعالى أعلم بالصواب- من (قام) إذا نهض، أقام الشخص إذا أنهضه من مكانه، فكأن الهمزة في (أقام) همزة التعدية، أي: أن الذي أقام يجعل الناس يقومون من قعودهم ليستعدوا لصلاتهم، ويجوز أن تكون من أقام بالمكان إذا جلس فيه كما هو معروف لغة، ومن الأول قوله تعالى: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى [النساء:142]، وقوله: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6].

والإقامة شرعاً: هي إعلام الحاضرين بالقيام للصلاة، وقد شرعت مع الأذان كما سبق في الخبر السابق خبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وخبر عبد الله بن زيد بن عبد ربه .

قال المصنف رحمه الله تعالى في المسألة الثالثة: [ وهما مشروعان للصلوات الخمس دون غيرها ].

وقوله: (مشروعان): هذا لفظ عام، فالمشروع يدخل فيه: الواجب، وفرض الكفاية، والمستحب، كل ذلك مشروع، ولهذا المؤلف رحمه الله خرج من الخلاف بقوله: (مشروعان)، لم يقل: واجبان ولا مستحبان، وإنما قال: مشروعان، وهذا لاشك فيه: أنهما مشروعان للصلوات الخمس دون غيرها، ويدخل في ذلك أيضاً: أنهما مشروعان لصلاة الجمعة، وهما -أي: الأذان والإقامة- فرض على الكفاية، فرض كفاية، يقاتل القوم إذا تركوها، إذا تركها أهل بلد قوتلوا على تركها، والقول بأنهما فرض كفاية هو قول أكثر الحنابلة، أما قول الخرقي كما هو في مختصره رحمه الله تعالى - وهو قول جمهور الأئمة الثلاثة: مالك، وأبي حنيفة، والشافعي -: فهو أن الأذان سنة وليس بواجب، ومع ذلك فإنهم يقولون: يقاتل أهل البلد إذا تركوه ولو كان سنة؛ لأنهم إذا أجمعوا على ترك هذه السنة قوتلوا على ذلك.

والأدلة على مشروعيتهما من القرآن والسنة والإجماع.

فأما القرآن فقوله تعالى: وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا [المائدة:58]، فإن ذلك دليل على مشروعية النداء للصلاة، وكذلك قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9]، فإن فيه دليلاً على مشروعية النداء للجمعة، وغيرها كذلك.

وأما السنة؛ فقد جاء في ذلك أحاديث كثيرة، منها ما سبق حديث ابن عمر وعبد الله بن زيد بن عبد ربه، ومنها -بل من أصرحها في الوجوب- ما رواه الشيخان عن مالك بن الحويرث أنه قال: ( قدمنا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونحن شببة متقاربون، قال: فأقمنا عنده عشرين يوماً وليلة، فلما رأى أنا قد اشتقنا إلى أهلنا قال: ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم )، فقوله: ( فليؤذن لكم أحدكم )، هذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب، ومثله أيضاً الحديث المتفق عليه عن أنس رضي الله عنه قال: ( أُمر بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة )، فقوله: ( أُمر بلال أن يشفع الأذان ) قد يدل بظاهره على الوجوب.

أما الإجماع: فإن المسلمين أجمعوا على مشروعية الأذان، وما زال الأذان يرتفع في مساجدهم منذ عهد النبوة إلى اليوم، وكانوا إذا أرادوا أن يغيروا على أهل قرية انتظروا، فإن سمعوا أذاناً أمسكوا وإلا أغاروا، كما جاء في الحديث الصحيح، وذلك يدل على أن الأذان فرض كفاية، أما الإقامة فهي فرض عين على كل جماعة أن يقيموا لأنفسهم.

قال رحمه الله تعالى: [ للرجال دون النساء ].

فأما الأذان: فإن ذلك بالإجماع فيما أعلم؛ لأنه نداء للجماعة، ولا جماعة إلا على الرجال، أما النساء فلا تجب عليهن الجماعة. أما فيما يتعلق بالإقامة فالأمر كذلك، وإن كان ثمة قول بمشروعية الإقامة للمرأة.

والدليل على أنه ليس على النساء أذان ولا إقامة ما رواه البيهقي موقوفاً على ابن عمر رضي الله عنه بسند صحيح أنه قال: (ليس على النساء أذان ولا إقامة)، وهذا الأثر ذكره بعض شراح العمدة ونسبوه إلى البخاري وهذا غلط، فهذا الأثر نسبوه إلى البخاري مرفوعاً، وهذا غلط من وجوه:

أولاً: أنه لا يصح مرفوعاً، بل الصواب: أنه موقوف على عبد الله بن عمر .

الثاني: أنه ليس في البخاري قط لا مرفوعاً ولا موقوفاً، وإنما هو عند البيهقي، وقد روي مرفوعاً عند البيهقي وغيره وهو ضعيف جداً، وغلط كما أسلفت من نسبه إلى البخاري، فهو ليس فيه لا مرفوعاً ولا موقوفاً.

قال في المسألة الخامسة: [ والأذان خمس عشرة كلمة لا ترجيع فيه ].

هذا الأذان الذي ذكره المصنف رحمه الله خمس عشرة كلمة هو أذان بلال رضي الله عنه، وهو الذي رآه عبد الله بن زيد بن عبد ربه في الرؤيا وألقاه على بلال، فكان بلال يؤذن به في الحضر والسفر مع النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، وهو الأذان المعتاد: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، ففيه أنه يؤذن مثنى مثنى، إلا التكبيرتين الأوليين فإنه يكبر أربعاً، وهذا ثابت من حديث عمر وعبد الله بن زيد وأنس وابن عمر وغيرهم، هذا الأذان.

وقوله: [ لا ترجيع فيه ]، الترجيع: هو أن يقول التشهد بصوت منخفض ثم يعيده بصوت جهوري، فيقول مثلاً: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، ثم يعيده مرة أخرى بصوت جهوري: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله.

يقول: [ لا ترجيع فيه ]، أي: أن الأذان الذي هو خمس عشرة كلمة هو بدون ترجيع كما سبق، وهناك أذان آخر، وهو المعروف بأذان أبي محذورة، وقد جاء أيضاً في صحيح مسلم وفي السنن وغيرها، وهو مكون من تسع عشرة كلمة، فيه التكبير أربعاً: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، ثم فيه الترجيع، أي: أنه ينطق بالشهادتين أولاً بصوت منخفض ثم يجهر بهما بعد ذلك، ثم بقية الأذان كأذان بلال، فيكون خمس عشرة كلمة مضافاً إليها ماذا؟ مضافاً إليها أربعة تشهدات يقولها ثم يعيدها مرة أخرى، فيكون المجموع خمس عشرة زائداً أربعاً، المجموع: تسع عشرة كلمة. هذا أذان أبي محذورة، وهو ثابت صحيح أيضاً، ولهذا إذا أذن به أحياناً فإن ذلك موافق للسنة، وكان أبو محذورة قد أذن بحضرة النبي صلى الله عليه آله وسلم وأقره على ذلك، بل هو الذي ألقى عليه الأذان وعلمه الأذان، كما في صحيح مسلم والسنن وغيرها.

قال المصنف رحمه الله: [ والإقامة إحدى عشرة كلمة ].

هذه إقامة بلال أيضاً، وهي فرادى، ولهذا قال أنس رضي الله عنه كما في الحديث المتفق عليه: ( أُمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة )، وقوله: ( يوتر الإقامة )، أي: أنه يأخذ من كل جملة واحدة، فإذا كان التكبير في الأذان جملتين جملتين: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، فإنه يأخذ من ذلك واحدة، أي: الله أكبر الله أكبر، فهذا وتر باعتبار أن الكلمتين كأنهما جملة واحدة، ثم بقية الإقامة فرادى: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، فيقول التكبير ثنتين ثم يفرد ما بقي من جمل الإقامة، فيقول: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، هذه إقامة بلال، وهي الإقامة المعروفة عندنا وهي إحدى عشرة كلمة.

وقيل في الإقامة أوجه أخرى كثيرة، منها -وأقتصر عليها-: إقامة أبي محذورة، وإقامة أبي محذورة مكونة من سبع عشرة كلمة، لأنه ليس في الإقامة -والله تعالى أعلم- ترجيع، ففيها ما يشبه أذان بلال مضافاً إليه: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة. هذه إقامة أبي محذورة، وإن أقام بإقامة أبي محذورة فذلك حسن؛ لأنه ثابت في السنة أيضاً.

المسألة السابعة: [ وينبغي أن يكون المؤذن: أميناً صيِّتاً عالماً بالأوقات ].

قوله: (ينبغي) هذا أيضاً لفظ عام، ليس فيه تصريح بالوجوب، وإنما هو إشارة إلى أن ذلك مشروع مطلوب، دون أن يصرح المصنف رحمه الله تعالى بوجوبه؛ ولذلك لأن الأذان ولاية، يترتب عليها دعوة الناس إلى الصلاة وإيقاع الصلاة، فإن الناس إذا سمعوا المؤذن صلوا، صلت النساء في بيوتها وصلى المعذورون، وكذلك يترتب عليها الصيام، فإن الناس إذا سمعوا المؤذن أمسكوا واعتقدوا دخول الوقت، ولهذا كان ينبغي أن يكون المؤذن أميناً؛ لئلا يؤذن قبل الوقت فيغتر بذلك المصلون والصائمون.

وكذلك قوله: (صيتاً) أي: مرتفع الصوت، حسن الصوت، يسمع من بعد؛ وذلك -أولاً- لأن الأذان نداء للصلاة ودعوة إليها، فينبغي أن يكون المؤذن صيتاً ليسمع من بعيد، وكذلك جاء في السنة ما يدل على ذلك، كما في حديث عبد الله بن زيد الذي ذكرته قبل وخرّجه أهل السنن وهو صحيح، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له لما سمع الأذان: ( ألقه على بلال ؛ فإنه أندى منك صوتاً )، فذلك دليل على استحباب أن يكون المؤذن صيتاً.

أما كونه عالماً بالأوقات فلأن ذلك يتوقف عليه صحة أذانه وضبطه للوقت، فإنه ما لم يكن عالماً بالوقت لا يوقع الأذان في وقته المشروع.

المسألة الثامنة: قال: [ويستحب أن يؤذن قائماً، متطهراً، على موضع عال، مستقبل القبلة].

أما كون المؤذن قائماً فإنه لم يرد في ذلك نص صحيح، وقد قال صاحب العدة رحمه الله: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـبلال : ( قم فأذن )، وفي الواقع أن قوله صلى الله عليه وسلم: ( قم فأذن ) ليس معناه الأمر بالقيام، لكن معناه: الذهاب إلى المكان الذي يُؤذَّن عليه، وإنما جاء في بعض الأحاديث أن بلالاً رضي الله عنه كان يؤذن قائماً على بيت امرأة من بني النجار، أنه كان ينام على بيت هذه المرأة فإذا جاء الوقت تمطى ثم أذن، والسياق يدل على أنه كان يؤذن قائماً.

وقد جاء في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم، وكان رجلاً أعمى لا يؤذن حتى يقال له: أصبجت أصبحت، ولم يكن بينهما إلا أن يرقى هذا وينزل هذا )، وهذا هو الشاهد: ( إلا أن يرقى هذا وينزل هذا )، فهو دليل على أنه يقوم على موضع عال؛ لأنه إذا بحث عن مكان عال فمن باب أولى أن يكون قائماً؛ لأن هذا أبلغ في إيصال الصوت، فهذا يستدل به على مشروعية قيام المؤذن، وينبغي أن يقال: إن ذلك مستحب كما نص عليه المؤلف، ولا دليل على وجوبه قط.

الأمر الثاني: أنه يستحب أن يكون متطهراً، أي: من الحدث الأصغر والأكبر، والدليل على ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم عند الترمذي وغيره عن أبي هريرة أنه قال -يعني: الرسول عليه الصلاة والسلام- : ( لا يؤذن إلا متوضئ )، وهذا الحديث رواه الترمذي، وهو حديث ضعيف، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً قط، لا عن أبي هريرة ولا عن غيره أنه قال: ( لا يؤذن إلا متوضي ) .

وغاية ما يمكن أن يستدل به على مشروعية الطهارة للأذان ما سبق في صحيح مسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل من نحو بئر جمل فسلم عليه رجل، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم الجدار فتيمم، ثم رد عليه السلام، وقال: كرهت أن أذكر الله تعالى على غير طهر ) كما جاء في بعض الألفاظ. فهذا دليل على مشروعية التطهر للذكر، والأذان ذكر لا شك؛ لأن فيه تكبير الله عز وجل، والشهادة له بالوحدانية، والشهادة لنبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة، والنداء للصلاة، وما أشبه ذلك من الأذكار، فيشرع ويستحب له أن يكون متطهراً من الحدث الأكبر والأصغر، لكن ذلك لا يجب.

أما قوله: [ على موضع عال ]، فكما سبق ( ولم يكن بينهما إلا أن يرقى هذا وينزل هذا )، يعني بلالاً وابن أم مكتوم، فهو دليل على مشروعية أن يكون على موضع عال، سواء كان ذلك على منارة أو بيت أو ما أشبه ذلك، وقد سبق أن بلالاً رضي الله عنه كان يؤذن على بيت امرأة من بني النجار؛ ولأن ذلك أبلغ في إيصال الصوت.

أما الأمر الرابع: فهو يستحب أن يستقبل القبلة، والواقع أنه لا دليل صريحاً على ذلك إلا العمومات، أما قول الشارح: إن ذلك إجماع، وإن مؤذني النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يؤذنون مستقبلي القبلة؛ فلا يصح من ذلك شيء، وقد جاء في خبر ابن زيد أن الملك الذي رآه عبد الله بن زيد في المنام يؤذن: ( أنه رآه يؤذن مستقبل القبلة )، وهذه الزيادة رواها إسحاق بن راهويه في مسنده، وهو خبر منقطع، لكن مما لاشك فيه: أن استقبال القبلة في الأذان مشروع؛ لأنه هو المعلوم، ولهذا شرع للمؤذن أن يلتفت في الحيعلتين كما سوف يأتي، فهذا دليل على أن الأصل أنه موجه وجهه إلى القبلة.

المسألة التاسعة: قال: [ وإذا بلغ الحيعلة التفت يميناً وشمالاً ولا يزيل قدميه ]، الحيعلة ما هي؟

الحيعلة: هي حي على الصلاة، وحي على الفلاح، والدليل على أنه يستحب الالتفات في الحيعلة يميناً وشمالاً ما رواه البخاري في صحيحه عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه: ( أنه رأى بلالاً -وذلك في حجة الوداع وهم بـمكة - يؤذن، قال: فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا، يقول يميناً وشمالاً: حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح )، والحديث رواه البخاري كما سبق، ورواه مسلم، فهو حديث متفق عليه، فهو يدل على مشروعية الالتفات في الحيعلتين.

وقد اختلفوا في صورة الالتفات، والمعروف أنه يلتفت ذات اليمين بحي على الصلاة، ويلتفت ذات الشمال بحي على الفلاح، وقيل: يلتفت ذات اليمين وذات الشمال بحي على الصلاة، ثم يلتفت ذات اليمين وذات الشمال بحي على الفلاح.

ومما يدل على أن ذلك مشروع أيضاً: أن الحيعلتين هما المقصود الأصلي بالأذان، فهما اللفظان المحتويان على النداء بالصلاة؛ لأن قوله: حي على الصلاة، أي: هلموا وتعالوا إلى الصلاة وأقبلوا عليها، فهي النداء المقصود بالأذان، ولهذا شرع الالتفات فيها؛ لأنه أبلغ في إيصال الصوت إلى المخاطبين والمقصودين.

وأما قوله: [ ولا يزيل قدميه ] فالمعنى: أنه يحرك رأسه فقط، ولا يحرك قدميه، ولذلك جاء في رواية أبي جحيفة السابقة عند أبي داود أنه قال: ( فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا يقول يميناً وشمالاً: حي على الصلاة، حي على الفلاح، قال: ولم يستدر )، أي: أنه لم يحرك بدنه ولا استدار استدارة كاملة أيضاً، وإنما كان يحرك رأسه فقط.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب الفدية 3987 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – باب الخيار -2 3926 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - زكاة السائمة 3854 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - باب زكاة العروض 3846 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين 3672 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب محظورات الإحرام -1 3625 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب صلاة المريض 3615 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – مراجعة ومسائل متفرقة في كتاب البيوع 3552 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب صفة الحج 3517 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب أركان الصلاة وواجباتها 3444 استماع