المرابطون في بيوت الله [4] - رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به، ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير، اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين، يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].

وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعمّن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

معشر الإخوة المؤمنين! أفضل البقاع وأحبها إلى رب الأرض والسماء المساجد، فهي بيوت الله في الأرض، وفيها نوره وهداه، وقد وصف الله الذين يعمرونها، ويتواجدون فيها بأنهم رجال، ثم نعتهم بأربع خصال تدل على أنهم أهل الرشد والعقول والكمال فقال: لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37]، فلا يلهيهم عرض الدنيا ومتاعها، ويعظمون الله، فيصلون له ويذكرونه سبحانه وتعالى، ويشفقون على عباد الله، ويحسنون إليهم، فيتصدقون عليهم، ويواسونهم، ثم هم في أتم استعدادٍ ليوم المعاد: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37].

وهذه الصفات التي نعت الله بها الرجال الذين يعمرون بيوته في هذه الحياة، ينبغي أن نقف عندها، لنتصف بها، ونسأل الله أن يجعلنا من أهلها، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

الصفة الأولى: من يعمرون بيوت الله لا يلهيهم عرض الدنيا ومتاعها، ولا يشغلهم عما أوجب الله عليهم، وعن الغاية التي خلقوا من أجلها: لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ [النور:37]، فعند هذه الجملة المباركة يوجد تنبيهان ينبغي أن نقف عندهما على وجه الاختصار.

التنبيه الأول: لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ [النور:37]، فأثبت الله لهم التجارات والبيوع في هذه الحياة، وهذا من كمال رجولتهم، لئلا يحتاجوا إلى غير ربهم جل وعلا؛ فهم يزاولون البيوع والتجارات في هذه الحياة؛ لكن لا يشغلهم ذلك طرفة عين عن الحقوق والواجبات، وعن طاعة رب الأرض والسماوات، وهذا المعنى هو المعنى الحق الذي ينبغي أن تفسر به الآية، ولا يجوز أن تحمل على غير ذلك، وما ذهب إليه بعض الناس من أن الله جل وعلا نفى التلهي والالْتِهَاءَ عمن يعمرون بيوته لعدم وجود تجارةٍ وبيعٍ عندهم؛ فهو معنىً ركيك، ينبغي أن يتنزه عنه كلام الله جل وعلا.

قال الإمام الألوسي عليه رحمة الله: إنما أثبت الله لهم البيوع والتجارات، وأخبر أن هذه البيوع وتلك التجارات لا تلهيهم عن طاعة رب الأرض والسماوات؛ فهذا أمدح لهم وأحسن في أوصافهم، فعندهم عرض الدنيا لكنه في الأيدي، ولا أثر له في القلوب، وإذا نادى منادي طاعة الله جل وعلا أسرعوا إليه ولبوه.

وقال الإمام الرازي : هذا المعنى الذي قاله بعض الناس فاسد باطل؛ فلا يقال: فلانٌ لا تلهيه تجارته ولا بيعه إلا إذا كان يزاول البيع والشراء؛ فهم يزاولون البيوع ويعملون التجارات في هذه الحياة، لكنَّ ذلك لا يشغلهم عن طاعة رب الأرض والسماوات.

الأمر الثاني: مما يتساءل عنه كثيرٌ من الناس: لمَ ذكر الله البيع بعد التجارة، وما البيع إلا نوعٌ من التجارة؟ فالتجارة بيعٌ وشراء، وأخذٌ وإعطاء، فلم خُصَّ البيع مع أنه يدخل في ضمن التجارة؟ وهل تكون التجارة دون أن يبيع الإنسان ويشتري؟ لا ثم لا؛ فالتجارة قائمة على أمرين: يشتري التاجر ما يشتريه، ثم بعد ذلك يبيعه ويحصل الربح فيه، فعلامَ خص الله البيع بعد التجارة وهو داخلٌ في التجارة؟ ولِمَ لَمْ يذكر الله جل وعلا الشراء بعد التجارة كما ذكر البيع؟ فالبيع يدخل في التجارة، والشراء يدخل في التجارة، فعلامَ ذكر الله البيع بعد التجارة دون الشراء؟ وما الحكمة من ذكر هذا الخاص بعد دخوله في لفظ التجارة؟

فنقول: إنما ذكر الله البيع بعد التجارة لثلاثة أمور معتبرة؛ لأن البيع هو أدخل في الإلهاء من الشراء من ثلاثة أوجه.. فالتجارة بيعٌ وشراء؛ لكنَّ التلهي والاشتغال يكون في البيع أكثر مما يكون في الشراء وذلك من ثلاثة أوجه كما قرر هذا أئمتنا العلماء:

أولها: أن البيع في الغالب الربح فيه مضمونٌ متيقنٌ، وأما الشراء فالربح فيه غيبٌ مستقبل، وذلك مظنونٌ أو مشكوكٌ فيه.

فالتاجر عندما يبيع السلعة في الغالب يحصل ربحاً، وأما عندما يشتري فالأمر موقوف على المستقبل، قد تباع السلعة بربحٍ، وقد تباع بخسارة، وأما البيع فهو ربحٌ متيقنٌ؛ فلذلك ذكر الله أنه لا تلهيه التجارة، ثم ذكر ما هو أدخل في الإلهاء، وما ينبغي أن يُنَصَّ عليهُ لبيان قدر هؤلاء الرجال، وكمال عقولهم، وطاعتهم لربهم. فهذا البيع الذي فيه الربح متيقن إذا حان وقت طاعة الله جل وعلا والإحسان إلى عباد الله، يقومون بذلك على وجه التمام، ولا يشتغلون بالبيع الذي ربحه حاضر متيقنٌ لا شك فيه.

الأمر الثاني: أن البيع في الغالب يكون مقابل إعطاء سلعة وأخذ نقد، وأما الشراء ففي الغالب يكون بأن يعطي الإنسان نقداً ويأخذ سلعة، والنفوس البشرية تتعلق بالنقد وتميل إليه أكثر من ميلها إلى السلع، إذاً البيع محبوبٌ إلى النفس أكثر من الشراء؛ من أجل أنه يحصِّل الدراهم والدنانير، ويملأُ جيبه من هذه الفلوس، فالتلهي في البيع أكثر من التلهي بالشراء؛ ولذلك خصه الله جل وعلا بعد التجارة بالذكر.

والأمر الثالث وهو معتبرٌ أيضاً: أن التجارة يمكن أن تكون عن طريق الجلب، أن يجلب الإنسان البضائع والسلع من أماكن أخرى بواسطة من يحملها له، وأما البيع فيكون عندما يُصَرِّفُها هو بنفسه، فالإلهاء بالبيع أكثر من التجارة التي تجلب من كل جهةٍ، ومن كل مكان عن طريق من يحملها، ومن يُوصلها إليه.

لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النور:37]، إذاً: عروض الدنيا، أمتعتها، زخرفها، زينتها، لا يشغلهم ذلك عما أوجبه الله عليهم.

زوال الدنيا وحقارتها وهوانها

عباد الله! كيف يلتهي هؤلاء الرجال العقلاء بمتاع الدنيا وزينتها، وكلها سريعة الزوال إلى فناءٍ، لا تبقى ولا تدوم، وليس لها عند الحي القيوم أي وزنٍ وأي اعتبار، كيف يتلهى هؤلاء الرجال الذين نُعِتُوا بأنهم رجال، كيف يتلهون ويُشغَلُون بمتاع الدنيا وزينتها؟ والدنيا من أولها إلى آخرها ليس لها قدرٌ عند ربها جل وعلا.

ثبت في سنن الترمذي وسنن ابن ماجه، والحديث رواه الضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة، والطبراني في معجمه الكبير، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في شعب الإيمان، وإسناده صحيح، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضةٍ ما سقى كافراً منها شربة ماء)، سبحان ربي العظيم! الدنيا من أولها لآخرها بجميع أمتعتها وزخارفها، لا تعدل عند الله جناح بعوضة! ولو كان لها هذا المقدار عند العزيز القهار، لما سقى الكفار في هذه الحياة شربة ماء، ولا جرعة ماء؛ لهوانهم على ربهم جل وعلا، لكنَّ هذه الدنيا لا وزن لها، ولا قدر لها، فيعطيها الله لمن يحب ولمن يكره، فكيف يتلهى العقلاء بالتجارة والبيوع عن طاعة رب الأرض والسماوات؟!

وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن كل ما في هذه الدنيا ملعون إلا ما أريد به وجه الحي القيوم، فكيف يتلهى هؤلاء المؤمنون الموحدون، الذين يعكفون في بيوت الله، ويذكرون الله، كيف يتلهون ويُشْغَلون بالبيوع والتجارات؟ ثبت في سنن الترمذي ، وابن ماجه ، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث روي عن عدة من الصحابة الكرام، فروي عن عبد الله بن مسعود وأبي الدرداء ، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين، والحديث إسناده صحيح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً أو متعلماً).

وفي بعض روايات الحديث: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ما أريد به وجه الله منها)، وفي بعض الروايات: (الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ما ابتغي به وجه الله)، وفي بعض الروايات: (الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا أمر بمعروفٍ، أو نهى عن منكر، أو ذكر الله جل وعلا).

وخلاصة الكلام: أن كل ما في هذه الدنيا ملعون إلا من أطاع الحيَّ القيوم، الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً أو متعلماً، فكيف يتلهي هؤلاء الأخيار بهذه الدنيا التي ليس لها قدر واعتبار عند العزيز الغفار سبحانه وتعالى؟!

كون الدنيا لهو ولعب وزينة ومتاع الغرور

إخوتي الكرام! أخبرنا الله في كتابه في كثير من الآيات عن حقيقة هذه الدنيا، وعن أحوالها، فكيف يركن إليها من يعمرون بيوت الله، ونُعِتُوا بأنهم رجال؟! يقول الله جل وعلا في سورة الأنعام: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنعام:32]، فالحياة الدنيا في سرعة زوالها وقصر أيامها، حالها كحال من يلعب بشيءٍ ويتلهى به، سرعان ما يزول، وسرعان ما ينقضي، وهكذا الحياة الدنيا.

والمعنى الثاني للآية الكريمة: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [آل عمران:185]: ما أمرها من أولها لآخرها، وما حال من يركن إليها إلا كلعب ولهو، كحال لاعبين عندما يلعبون، فهم يلعبون وسيزولون، ولعبهم لا قيمة له، ولا وزن، ولا اعتبار. وقوله تعالى: وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنعام:32]، قال أئمتنا المفسرون: في ذلك إشارة إلى أن أمور التقوى في هذه الحياة ليست من الدنيا، فالذين اتقوا الله في هذه الحياة؛ فعظموه وأطاعوه؛ فهؤلاء ما قاموا بِاللَّهْوِ ولا باللعب.

إخوتي الكرام! وإذا قرن الله بين اللعب وبين اللهو في كتابه فيفترقان من حيث المعنى افتراقاً لطيفاً، مع أن كلاً منهما يدل على أن صاحب اللعب وصاحب اللهو قد اشتغلا بالباطل، لكن بينهما مفارقة عندما يقترنان؛ فإذا قرن اللعب باللهو فالمراد من اللعب: أن يشتغل الإنسان بالباطل، وقد يفعل الحق وقد لا يفعله، قد يقوم بالواجب وقد لا يقوم به، وأما إذا ذكر اللهو بعده فيدل على أنه اشتغل بالباطل مع إعراضه عن الحق وعدم المبالاة به.

فقد يلعب الإنسان ويشتغل بالباطل، ثم يقوم بالواجبات وبالحقوق، أو يقوم بشيءٍ منها، ولا يلزم من ذلك أن يعرض عنها، أما اللهو فقد لها قلبه وأعرض عن الحق، بحيث اشتغل بالباطل مع نفرةٍ من الحق وكراهية له، وهكذا حال الحياة الدنيا: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ، اشتغالٌ بأمور الباطل، وَلَهْوٌ، إعراضٌ عن الحق مع شغل بالباطل، هذا حالها، وهذا أمرها، وهذا حال من يركن إليها، ويستقر فيها، إلا المتقين، وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ [يوسف:109].

وقال جل وعلا في سورة العنكبوت: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:64] (الحيوان) أي: أنها الحياة الكاملةٌ التامة، من حيَّ، والأصل أن يقال: حَيَيَان، قال أئمتنا: قلبت الياء الثانية واواً، فصارت حيوان، وإنما أتى بصيغة (فَعَلان)؛ ليدل على الحياة والإطراب والبهجة والكمال والتمام؛ لأن ذلك يقابل السكون الذي يكون عن طريق الموت، (وإن الدار الآخرة لهي الحيوان)؛ أي: الحياة الكاملة التي فيها بهجةٌ وحيويةٌ ونشاطٌ على وجه التمام والكمال.

إذاً: هذه الحياة الدنيا لهو ولعب، كما قال الله في سورة محمد على نبينا صلوات الله وسلامه: إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ [محمد:36]، وهكذا قَصَّ الله علينا حال الدنيا في كثيرٍ من الآيات في كتابه، فقال جل وعلا في سورة الحديد: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20]، يتمتع بها على وجهٍ ما، ثم تنقضي وتزول، لكنَّ هذا المتاع الزائل يَغْتَرُّ به كثيرٌ من ضعاف العقول، لا يغتر به الرجال الذين يذكرون الله في بيوته في هذه الحياة، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]، لا يغتر بها إلا من فقد عقله، ولم يكن رجلاً، وقال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].

نهي الله تعالى عن التلهي بالدنيا والانشغال بها عن عبادة الله

عباد الله! ولذلك نهانا الله جل وعلا عن التلهي بها، والاشتغال بها، والعكوف عليها، بحيث يشغلنا ذلك عما أوجبه الله علينا، فقال جل وعلا في سورة المنافقون: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:9-11].

وقد أخبرنا الله جل وعلا عن حال الضعفاء، ضعاف العقول، عن حال الأنذال في هذه الحياة، أنهم أقبلوا على اللهو واللعب، واشتغلوا بذلك عن طاعة الله جل وعلا، قال الله جل وعلا في أول سورة الأنبياء على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1]، لفظ (الناس) من أسماء العموم، وكل ما ورد من صيغ الذم بألفاظ العموم في كلام الحي القيوم فيخرج منه المهتدون، يخرج منه الصالحون، فلا يدخلون في ألفاظ الذم العامة، إنما تلك تنال العُصَاةَ والكافرين، كقوله تعالى: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3]، وقوله: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [التين:4-6]، وقوله هنا: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء:1-3].

سبحان ربي العظيم! لعبوا فاشتغلوا بالباطل، ثم أعرضوا بعد ذلك عن الحق على وجه التمام والكمال، وعادوه ونفروا منه عندما اشتغلوا باللعب والتلهي: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء:2-3]، فجمعوا بين اللعب واللهو، اشتغلوا بالباطل، ثم أعرضوا بعد ذلك عن الحق على وجه التمام والكمال، ليتهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم، لكنهم لعبوا واشتغلت قلوبهم بعد ذلك باللهو والإعراض، والنُفْرَةِ عن كلام رب العباد: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنبياء:2-4].

وأخبرنا الله جل وعلا عن مثل هذا في أول سورة الحجر، فقال جل وعلا: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ * رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ [الحجر:1-2]، وذلك عندما يرون عصاة الموحدين، الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، عندما يخرجون من نار الجحيم، بعد أن يعذبوا، فيتمنى الكفار لو أسلموا في هذه الحياة، ونطقوا بتوحيد رب الأرض والسماوات، رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:2-3].

عباد الله! كيف يلتهي هؤلاء الرجال العقلاء بمتاع الدنيا وزينتها، وكلها سريعة الزوال إلى فناءٍ، لا تبقى ولا تدوم، وليس لها عند الحي القيوم أي وزنٍ وأي اعتبار، كيف يتلهى هؤلاء الرجال الذين نُعِتُوا بأنهم رجال، كيف يتلهون ويُشغَلُون بمتاع الدنيا وزينتها؟ والدنيا من أولها إلى آخرها ليس لها قدرٌ عند ربها جل وعلا.

ثبت في سنن الترمذي وسنن ابن ماجه، والحديث رواه الضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة، والطبراني في معجمه الكبير، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في شعب الإيمان، وإسناده صحيح، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضةٍ ما سقى كافراً منها شربة ماء)، سبحان ربي العظيم! الدنيا من أولها لآخرها بجميع أمتعتها وزخارفها، لا تعدل عند الله جناح بعوضة! ولو كان لها هذا المقدار عند العزيز القهار، لما سقى الكفار في هذه الحياة شربة ماء، ولا جرعة ماء؛ لهوانهم على ربهم جل وعلا، لكنَّ هذه الدنيا لا وزن لها، ولا قدر لها، فيعطيها الله لمن يحب ولمن يكره، فكيف يتلهى العقلاء بالتجارة والبيوع عن طاعة رب الأرض والسماوات؟!

وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن كل ما في هذه الدنيا ملعون إلا ما أريد به وجه الحي القيوم، فكيف يتلهى هؤلاء المؤمنون الموحدون، الذين يعكفون في بيوت الله، ويذكرون الله، كيف يتلهون ويُشْغَلون بالبيوع والتجارات؟ ثبت في سنن الترمذي ، وابن ماجه ، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث روي عن عدة من الصحابة الكرام، فروي عن عبد الله بن مسعود وأبي الدرداء ، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين، والحديث إسناده صحيح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً أو متعلماً).

وفي بعض روايات الحديث: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ما أريد به وجه الله منها)، وفي بعض الروايات: (الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ما ابتغي به وجه الله)، وفي بعض الروايات: (الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا أمر بمعروفٍ، أو نهى عن منكر، أو ذكر الله جل وعلا).

وخلاصة الكلام: أن كل ما في هذه الدنيا ملعون إلا من أطاع الحيَّ القيوم، الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً أو متعلماً، فكيف يتلهي هؤلاء الأخيار بهذه الدنيا التي ليس لها قدر واعتبار عند العزيز الغفار سبحانه وتعالى؟!