شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [62]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقد تقدم معنا في بداية هذه المسألة وهي مسألة النظر إلى الأمرد، أنه إذا كان صبيحاً جميلاً فحكمه حكم النساء، ويحرم النظر إليه بالاتفاق إذا كان النظر بشهوة، سواء كانت هذه الشهوة شهوة تلذذ بالنظر واستحسان لهذه الصورة المليحة، أو شهوة وطء له وفعل الفاحشة به، فإذا كان فيه جمال ونظر بشهوة، حرم تلذذاً أو تطلعاً لشيء أشنع من النظر، وهكذا يحرم عليه باتفاق النظر إلى الأمرد إذا ظن الشهوة من نفسه أو خشي على نفسه الفتنة، وهكذا أيضاً على المعتمد يحرم النظر إلى الأمرد الصبيح الجميل من غير حاجة، وعليه فالنظر بشهوة حرام، وإن خشي الشهوة حرام، وإن ظنها حرام، وإن بدون شهوة ولا خشيها ولا ظنها لا يجوز أن يتبع النظرة النظرة إلى الأمرد، ومن فعل هذا يتهم، وإذا قال: ليس في قلبي شيء فلا يصدق، فلا يجوز النظر إليه كما لا يجوز النظر إلى النساء على المعتمد.

وهذا ما نص عليه سيدنا الإمام الشافعي فيما نقله عنه الإمام النووي في روضة الطالبين في الجزء السابع صفحة خمس وعشرين، تحريم النظر إلى الأمرد مطلقاً، ومعاملته معاملة المرأة، وهذا الذي ذكره الإمام ابن قدامة في المغني في الجزء السابع صفحة ثلاث وستين وأربعمائة، لكن قال: يحرم النظر إلى الغلام، قال: إن خشي عليه أو خشي منه.

وتقدم معنا أن هناك من فرق بين الأمرد والملتحي في استحسان النظر، فعندما تنظر إلى ملتحٍ، فلك اعتبار معين، فإذا كان هذا الاعتبار هو هو عندما تنظر إلى الأمرد بأن نظرت من غير شهوة، ولا خشيت ولا ظننت وإنما هي نظرة طبيعية فلا حرج، أما مع استحسان وتلذذ بالنظر دون أن ينتقل إلى شيء منكر بأن يريد منه الفاحشة، فإنه إذا كان يستحسن هذه الصورة ويستحليها كما يستحلي النظر إلى وجه المرأة وإن لم يرد أيضاً مباشرتها، فلا يجوز؛ لأن هذا سيجرك بعد ذلك إلى بلايا ورزايا وأنت لا تدري، فلا بد إذن أن تضع الحواجز والسدود من البداية، فإذا كان الإنسان يفرق في نظرته بين الأمرد والملتحي حرم عليه النظر إلى الأمرد.

وتقدم معنا أن هذا الذي قرره الإمام الغزالي في الإحياء في الجزء الثالث صفحة تسع وتسعين، وقلت: إن الإمام ابن تيمية عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه أفاض في هذه المسألة فذكر ما يزيد على خمسين صفحة في الجزء الخامس عشر من صفحة أربع وسبعين وثلاثمائة إلى صفحة سبع وعشرين وأربعمائة، وفي الجزء الحادي عشر صفحة اثنتين وأربعين وخمسمائة، وفي الجزء الثاني والثلاثين صفحة سبع وأربعين ومائتين.

فالنظر إلى الأمرد في هذه الحالة محرم عليه باتفاق، وعمومات الأدلة تدل على هذا، فالآيات التي تأمرنا بأن نصون فروجنا، وأن نغض طرفنا، يدخل فيها غض الطرف عن الأمرد وعن المرأة، لكن الأدلة الخاصة التي وردت في المنع من النظر إلى الأمرد تنقسم إلى قسمين: منها ما هو مرفوع لم يصح، وإن كان الحكم ثابتاً للعمومات من الأدلة الشرعية، وهناك آثار أخرى عن سلفنا الكرام رضي الله عنهم أجمعين جنسها متواتر، وهذا ما سنبحث فيه إن شاء الله.

وسأذكر ثلاثة من الأدلة والآثار المرفوعة، وأبين أنها لا تصح، حتى إذا سمعناها نكون على علم بها، ثم نأتي بالآثار عن سلفنا الأبرار رضي الله عنهم، وقد اتفقت كلمتهم على تحريم النظر إلى الأمرد والخلوة به، وعاملوه معاملة المرأة كما تقدم معنا مختصراً، وإليكم التفصيل في ذلك.

أثر الشعبي في المنع من النظر إلى الأمرد وبيان درجته

الأثر الأول: روي مرسلاً عن الإمام الشعبي كما في ذم الهوى صفحة ست ومائة، وتلبيس إبليس صفحة واحدة وسبعين ومائتين، وهو في مجموع الفتاوى في الجزء الثاني والثلاثين صفحة ثمان وأربعين ومائتين، ولفظ الأثر عن الإمام الشعبي رضي الله عنه وأرضاه: أن وفد عبد قيس لما جاءوا إلى نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وقعدوا بين يديه، كان فيهم غلام وضيء، جميل صبيح، فأخره النبي عليه الصلاة والسلام وراء ظهره وأجلسه خلفه، وقال: (إنما كانت فتنة نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام من أجل النظر).

والأثر لا يصح كما سيأتينا، وعلق عليه ابن تيمية بقوله: هذا وهو رسول الله عليه الصلاة والسلام -يعني فعل هذا وهو رسول الله عليه الصلاة والسلام- وهو مزوج بتسع، والوفد قوم صالحون، ولم تكن الفاحشة معروفة عند العرب، ومع ذلك احتاط نبينا عليه الصلاة والسلام ولم ينظر إليه وأجلسه خلفه وقال: (إنما كانت فتنة نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام من أجل النظر).

وكأن الإمام ابن تيمية كان يرى أن الأثر صحيح حتى علله بما علل، واستنبط منه ما استنبط، وقال في الجزء الخامس والثلاثين صفحة اثنين وأربعين كلاماً يشبه هذا وإن لم يذكر الأثر، فقال: كلاهما -يعني نبي الله آدم ونبي الله داود على نبينا وعليهما صلوات الله وسلامه -ابتلي بما ابتلي به الآخر من الخطيئة، وكل منهما خطيئته تناسب خطيئة الآخر، أما نبي الله آدم عليه السلام فخطيئته من أجل البطن عندما أكل من الشجرة، وأما نبي الله داود على عليه السلام فخطيئته من أجل النظر التي هي شهوة الفرج.

الرد على من صحح أثر الشعبي

وحقيقة الكلام خشن كدر ممن صدر، فنبي الله آدم ما جرى منه كان عن ذهول ونسيان، وليس عن تعمد معصية للرحمن، عندما قاسمه اللعين الشيطان أنه له ناصح، وأنه سيخلد في غرف الجنان، ولن يخرج فعل ما فعل وهو ذاهل عن النهي الذي وجه إليه، لكن لعلو مقامه ورفعة درجته عوتب على ما صدر منه، وترتب على ذلك ما ترتب من حكمة هذا الوجود لعبادة الرب المعبود سبحانه وتعالى، وهذا موضوع آخر، لكن القول بأن نبي الله آدم عليه السلام تعمد المعصية وفعل الخطيئة قول باطل، حاشاه وحاشا الأنبياء من مباشرة الخطيئة مع استحضار النهي.

والإنسان إذا ذهل وغفل ونسي، ففي حقنا لا نعاتب عليه، أما الأنبياء عليهم السلام فيعاتبون، فهو معصية بالنسبة إليهم ودرجتهم ورفعة قدرهم -ولابد من وعي هذا- وأما معصية نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام فكلها افتراء وهراء، ولابد من أثر يبين هذا، فالنهي عن الأكل من الشجرة وارد في القرآن، وأما أن نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام نظر نظرة محرمة، وترتب عليها أن يأخذ زوجة الغير، فأين هذا عندنا؟!

فلابد أن نتقي الله في أنفسنا، وانظر إلى التناقض من هذا الإمام المبارك رحمه الله وغفر لنا وله، فقد ضعفه في الجزء الخامس عشر صفحة سبع وسبعين وثلاثمائة، حيث ذكر أثر الشعبي وأن حبيبنا النبي عليه الصلاة والسلام أجلس هذا الغلام وراء ظهره لأنه وضيء جميل وقال: (إنما كانت فتنة نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام من أجل النظر)، قال: قلت: هذا حديث منكر! وما دام أنه منكر فكيف تستدل به؟! فهناك تأخذ منه أحكاماً وتعلله، وهنا تقول: منكر!

والاستدلال والتوجيه فرع الثبوت، لا يجوز أن تستدل بأثر إلا بعد أن يثبت، فأثبت ثم استدل، والأثر منكر باطل لا يثبت بحال، فاستمعوا لكلام أئمتنا الأبرار.

قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير في الجزء الثالث صفحة سبعين ومائة: قال ابن الصلاح: إنه ضعيف لا أصل له، وضعفه الإمام ابن القطان في كتابه أحكام النظر.

قال الإمام ابن حجر رضي الله عنهم أجمعين: ورواه أحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن نبيط بن شريط ، ومن طريقه رواه أبو موسى المديني في الترغيب والترهيب، وإسناده واهٍ، أما أحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن نبيط بن شريط فلا يحل الاحتجاج به؛ كذاب كما في اللسان في الجزء الأول صفحة ست وثلاثين ومائة، وقال عنه الذهبي في المغني في الجزء الأول صفحة أربع وثلاثين: إنه ساقط ذو أوابد، يعني أنه يأتي بأمور شاذة غريبة، لا يعلم إنسان من أين يختلقها. وقال ابن حجر الهيتمي في الزواجر في الجزء الثاني صفحة ست: روي بسند ضعيف، ثم ذكر الأثر، عبر بعضهم بأن الإسناد ضعيف، وهو واه كما قال شيخ الإسلام ابن حجر رحمه الله.

مرة في امتحان التوحيد في كلية الشريعة كتبت في السؤال: قرر الإمام ابن تيمية عليه رحمات رب البرية كذا، اشرح القول، ودعمه بالأدلة، فطالب يتفلسف يقول: أنت لمَ لم تقل عن الإمام ابن تيمية إنه شيخ الإسلام وقد صار علماً عليه؟ في قلبك سوء نحوه، وهنا في الزواجر قال ابن حجر كما قال شيخ الإسلام وهو ابن حجر ، فما أحد يظن أنه ابن تيمية ، فليس شيخ الإسلام أينما وجد ابن تيمية ! فاستدعيت الطالب وكان من الكويت من المشوشين هؤلاء الذين لهم لغط في هذه الأيام، قلت: يا رجل! أنت لا تستحي من الله؟! هل قلت: الولد أو الصبي أو الراعي؟ قلت: قال الإمام ابن تيمية ، الله قال عن خليله إبراهيم وعن أنبياء الله: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا [الأنبياء:73]، ماذا تريد أن أقول لهم؟! أتظن شيخ الإسلام أعلى من الإمام؟ أريد أن أعلم من الذي نحت لكم تماثيل وبدأتم تدورون حولها؟ أنا عندما أذكر الأئمة أقول فيهم هذا، قال الإمام النووي ، قال الإمام أبو حنيفة ، ما قلنا في يوم من الأيام: قال شيخ الإسلام أبو حنيفة ، وحقيقة رتبة الإمام أعلى، فيا رجل! كف عن سفاهتك، ثم هذه ورقة امتحان تطلب منك إجابة على سؤال، ما يطلب منك أن تصحح هذا السؤال للمدرس؟!

يعلم الله فكرت مراراً أن أضرب على الورقة وأضع له صفراً من أجل فلسفته، ليس انتقاماً للنفس أو كذا، ولكن السفاهة ينبغي أن يوقفها الإنسان عند حد، لكن سيقال: هذا تكلم على الأستاذ فانتقم منه.

حقيقةً! العقول الضحلة التي ابتلينا بها هذه الأيام أمرها عجيب، شيخ الإسلام هذا الذي ينبغي، واخترعوا لقباً آخر وهو: أئمة الدعوة، الآن لما يذكر أئمة الدعوة يقصدون بهم الذين هم من أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أطلقوا على علماء الإسلام اصطلاحات مشتركة، ولا تخصوا بعد ذلك كل واحد بلقب، هذا في الأصل من أهل الزيغ عندما يقولون علياً عليه السلام رضي الله عنه وأرضاه، ويذكرون بعد ذلك أبا بكر وعمر وعثمان ولا يقولوا: رضي الله عنهم ولا رحمهم الله.

إخوتي! لم السفاهة؟! نقول: أبو بكر عليه السلام، وعلي عليه السلام لا بأس، أما علي عليه السلام كما تجدونه في سبل السلام بكثرة، قال: علي عليه السلام، ثم يذكر أبا بكر وعمر وعثمان ، ولا يقول: رضي الله عنهم، والله ما خطر ببالي في يوم من الأيام أن أفرق بين الصحابة، ولا أن أفرق بين من بعدهم من أئمة الإسلام، فإذا كنا نحب شيخ الإسلام الإمام النووي فلا نتخذ نحو العلماء الآخرين موقفاً آخر، فكلهم أئمة الدين، وحبهم دين نتقرب به إلى رب العالمين، أما أن نأتي إلى جهة فنميل إليها ونهيل عليها الألقاب، والجهة الأخرى على العكس، فتقول: قال النووي قرر هذا النووي فيقول: هذا متمذهب! وعندما تقول: قال الإمام ابن تيمية يقول: لم لا تقول: شيخ الإسلام؟!

خلاصة الكلام أنه لا يثبت الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وتأخيره للغلام الأمرد بحيث أجلسه خلفه ووراءه لا يثبت هذا، ولذلك ذكر الإمام الشوكاني هذا الحديث في كتابه الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، وكان يرى عدم صحته، وأنه موضوع في صفحة ست ومائتين، وقال: لا أصل له، وفي إسناده مجاهيل.

الأثر الأول: روي مرسلاً عن الإمام الشعبي كما في ذم الهوى صفحة ست ومائة، وتلبيس إبليس صفحة واحدة وسبعين ومائتين، وهو في مجموع الفتاوى في الجزء الثاني والثلاثين صفحة ثمان وأربعين ومائتين، ولفظ الأثر عن الإمام الشعبي رضي الله عنه وأرضاه: أن وفد عبد قيس لما جاءوا إلى نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وقعدوا بين يديه، كان فيهم غلام وضيء، جميل صبيح، فأخره النبي عليه الصلاة والسلام وراء ظهره وأجلسه خلفه، وقال: (إنما كانت فتنة نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام من أجل النظر).

والأثر لا يصح كما سيأتينا، وعلق عليه ابن تيمية بقوله: هذا وهو رسول الله عليه الصلاة والسلام -يعني فعل هذا وهو رسول الله عليه الصلاة والسلام- وهو مزوج بتسع، والوفد قوم صالحون، ولم تكن الفاحشة معروفة عند العرب، ومع ذلك احتاط نبينا عليه الصلاة والسلام ولم ينظر إليه وأجلسه خلفه وقال: (إنما كانت فتنة نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام من أجل النظر).

وكأن الإمام ابن تيمية كان يرى أن الأثر صحيح حتى علله بما علل، واستنبط منه ما استنبط، وقال في الجزء الخامس والثلاثين صفحة اثنين وأربعين كلاماً يشبه هذا وإن لم يذكر الأثر، فقال: كلاهما -يعني نبي الله آدم ونبي الله داود على نبينا وعليهما صلوات الله وسلامه -ابتلي بما ابتلي به الآخر من الخطيئة، وكل منهما خطيئته تناسب خطيئة الآخر، أما نبي الله آدم عليه السلام فخطيئته من أجل البطن عندما أكل من الشجرة، وأما نبي الله داود على عليه السلام فخطيئته من أجل النظر التي هي شهوة الفرج.

وحقيقة الكلام خشن كدر ممن صدر، فنبي الله آدم ما جرى منه كان عن ذهول ونسيان، وليس عن تعمد معصية للرحمن، عندما قاسمه اللعين الشيطان أنه له ناصح، وأنه سيخلد في غرف الجنان، ولن يخرج فعل ما فعل وهو ذاهل عن النهي الذي وجه إليه، لكن لعلو مقامه ورفعة درجته عوتب على ما صدر منه، وترتب على ذلك ما ترتب من حكمة هذا الوجود لعبادة الرب المعبود سبحانه وتعالى، وهذا موضوع آخر، لكن القول بأن نبي الله آدم عليه السلام تعمد المعصية وفعل الخطيئة قول باطل، حاشاه وحاشا الأنبياء من مباشرة الخطيئة مع استحضار النهي.

والإنسان إذا ذهل وغفل ونسي، ففي حقنا لا نعاتب عليه، أما الأنبياء عليهم السلام فيعاتبون، فهو معصية بالنسبة إليهم ودرجتهم ورفعة قدرهم -ولابد من وعي هذا- وأما معصية نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام فكلها افتراء وهراء، ولابد من أثر يبين هذا، فالنهي عن الأكل من الشجرة وارد في القرآن، وأما أن نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام نظر نظرة محرمة، وترتب عليها أن يأخذ زوجة الغير، فأين هذا عندنا؟!

فلابد أن نتقي الله في أنفسنا، وانظر إلى التناقض من هذا الإمام المبارك رحمه الله وغفر لنا وله، فقد ضعفه في الجزء الخامس عشر صفحة سبع وسبعين وثلاثمائة، حيث ذكر أثر الشعبي وأن حبيبنا النبي عليه الصلاة والسلام أجلس هذا الغلام وراء ظهره لأنه وضيء جميل وقال: (إنما كانت فتنة نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام من أجل النظر)، قال: قلت: هذا حديث منكر! وما دام أنه منكر فكيف تستدل به؟! فهناك تأخذ منه أحكاماً وتعلله، وهنا تقول: منكر!

والاستدلال والتوجيه فرع الثبوت، لا يجوز أن تستدل بأثر إلا بعد أن يثبت، فأثبت ثم استدل، والأثر منكر باطل لا يثبت بحال، فاستمعوا لكلام أئمتنا الأبرار.

قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير في الجزء الثالث صفحة سبعين ومائة: قال ابن الصلاح: إنه ضعيف لا أصل له، وضعفه الإمام ابن القطان في كتابه أحكام النظر.

قال الإمام ابن حجر رضي الله عنهم أجمعين: ورواه أحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن نبيط بن شريط ، ومن طريقه رواه أبو موسى المديني في الترغيب والترهيب، وإسناده واهٍ، أما أحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن نبيط بن شريط فلا يحل الاحتجاج به؛ كذاب كما في اللسان في الجزء الأول صفحة ست وثلاثين ومائة، وقال عنه الذهبي في المغني في الجزء الأول صفحة أربع وثلاثين: إنه ساقط ذو أوابد، يعني أنه يأتي بأمور شاذة غريبة، لا يعلم إنسان من أين يختلقها. وقال ابن حجر الهيتمي في الزواجر في الجزء الثاني صفحة ست: روي بسند ضعيف، ثم ذكر الأثر، عبر بعضهم بأن الإسناد ضعيف، وهو واه كما قال شيخ الإسلام ابن حجر رحمه الله.

مرة في امتحان التوحيد في كلية الشريعة كتبت في السؤال: قرر الإمام ابن تيمية عليه رحمات رب البرية كذا، اشرح القول، ودعمه بالأدلة، فطالب يتفلسف يقول: أنت لمَ لم تقل عن الإمام ابن تيمية إنه شيخ الإسلام وقد صار علماً عليه؟ في قلبك سوء نحوه، وهنا في الزواجر قال ابن حجر كما قال شيخ الإسلام وهو ابن حجر ، فما أحد يظن أنه ابن تيمية ، فليس شيخ الإسلام أينما وجد ابن تيمية ! فاستدعيت الطالب وكان من الكويت من المشوشين هؤلاء الذين لهم لغط في هذه الأيام، قلت: يا رجل! أنت لا تستحي من الله؟! هل قلت: الولد أو الصبي أو الراعي؟ قلت: قال الإمام ابن تيمية ، الله قال عن خليله إبراهيم وعن أنبياء الله: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا [الأنبياء:73]، ماذا تريد أن أقول لهم؟! أتظن شيخ الإسلام أعلى من الإمام؟ أريد أن أعلم من الذي نحت لكم تماثيل وبدأتم تدورون حولها؟ أنا عندما أذكر الأئمة أقول فيهم هذا، قال الإمام النووي ، قال الإمام أبو حنيفة ، ما قلنا في يوم من الأيام: قال شيخ الإسلام أبو حنيفة ، وحقيقة رتبة الإمام أعلى، فيا رجل! كف عن سفاهتك، ثم هذه ورقة امتحان تطلب منك إجابة على سؤال، ما يطلب منك أن تصحح هذا السؤال للمدرس؟!

يعلم الله فكرت مراراً أن أضرب على الورقة وأضع له صفراً من أجل فلسفته، ليس انتقاماً للنفس أو كذا، ولكن السفاهة ينبغي أن يوقفها الإنسان عند حد، لكن سيقال: هذا تكلم على الأستاذ فانتقم منه.

حقيقةً! العقول الضحلة التي ابتلينا بها هذه الأيام أمرها عجيب، شيخ الإسلام هذا الذي ينبغي، واخترعوا لقباً آخر وهو: أئمة الدعوة، الآن لما يذكر أئمة الدعوة يقصدون بهم الذين هم من أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أطلقوا على علماء الإسلام اصطلاحات مشتركة، ولا تخصوا بعد ذلك كل واحد بلقب، هذا في الأصل من أهل الزيغ عندما يقولون علياً عليه السلام رضي الله عنه وأرضاه، ويذكرون بعد ذلك أبا بكر وعمر وعثمان ولا يقولوا: رضي الله عنهم ولا رحمهم الله.

إخوتي! لم السفاهة؟! نقول: أبو بكر عليه السلام، وعلي عليه السلام لا بأس، أما علي عليه السلام كما تجدونه في سبل السلام بكثرة، قال: علي عليه السلام، ثم يذكر أبا بكر وعمر وعثمان ، ولا يقول: رضي الله عنهم، والله ما خطر ببالي في يوم من الأيام أن أفرق بين الصحابة، ولا أن أفرق بين من بعدهم من أئمة الإسلام، فإذا كنا نحب شيخ الإسلام الإمام النووي فلا نتخذ نحو العلماء الآخرين موقفاً آخر، فكلهم أئمة الدين، وحبهم دين نتقرب به إلى رب العالمين، أما أن نأتي إلى جهة فنميل إليها ونهيل عليها الألقاب، والجهة الأخرى على العكس، فتقول: قال النووي قرر هذا النووي فيقول: هذا متمذهب! وعندما تقول: قال الإمام ابن تيمية يقول: لم لا تقول: شيخ الإسلام؟!

خلاصة الكلام أنه لا يثبت الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وتأخيره للغلام الأمرد بحيث أجلسه خلفه ووراءه لا يثبت هذا، ولذلك ذكر الإمام الشوكاني هذا الحديث في كتابه الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، وكان يرى عدم صحته، وأنه موضوع في صفحة ست ومائتين، وقال: لا أصل له، وفي إسناده مجاهيل.

إخوتي الكرام! لابد من أن نقف وقفة نحو هذا النبي المبارك الذي أثنى عليه ربنا ثناء طيباً، لنحذر الترهات والأباطيل والاختلاقات التي تجرى حوله، ولعله لو قيل: إن الله أثنى عليه بخصوصيات لم تحصل لغيره من الأنبياء عليهم السلام لما بالغنا، فلا بد من أن نقف وقفة إخوتي الكرام نحو هذا النبي الكريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

داود عليه السلام أعبد الخلق

أما هذا النبي المبارك فهو نبي كريم ذو جد واجتهاد في طاعة رب العالمين، فما عبد مخلوق ربه بعبادة أعلى من عبادة نبي الله داود، ولذلك شهد له نبينا المحمود عليه الصلاة والسلام أن عبادته أكمل العبادات وأعلاها، ثبت في مسند الإمام أحمد ، والحديث في الصحيحين والسنن الأربعة، فهو في الكتب الستة، ورواه ابن حبان في صحيحه، وكذا ابن خزيمة في صحيحه، والإمام الدارمي في سننه والحميدي في مسنده والطحاوي في شرح معاني الآثار وفي مشكل الآثار، ورواه شيخ الإسلام عبد الرزاق في المصنف، والبيهقي في السنن الكبرى، وأبو نعيم في الحلية رضي الله عنهم أجمعين.

ولفظ الحديث من رواية سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الصيام صيام نبي الله داود)، وفي رواية: (أحب الصيام إلى الله صيام نبي الله داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وأحب الصلاة، إلى الله صلاة نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام)، وهي صلاة الليل التي يخلو الإنسان فيها مع ربه سبحانه وتعالى، قال: (كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه)، الليل ستة أسداس، ثلاثة أسداس وهي النصف ينامها، وسدسان وهي الثلث يقومه، فيقوم إذاً سدساً من الثلث الأخير، وسدس يكون فيه نائماً، فهذه أحب الصلاة إلى الله.

وحقيقةً! فيها مزيد عزم وحزم وجد واجتهاد، وفيها راحة للبدن، عندما ينام الإنسان نصف الليل يستريح، فيقوم للعبادة بنشاط، وحينما يبقى إلى الفجر ساعة ونصف أو ساعتان ينام ليتنشط لصلاة الفجر، ولئلا يظهر في وجهه الصفرة التي تعتري من يقومون السدس الأخير دون نوم، فإذاً: فيها جد واجتهاد، مع أن فيها زيادة تعب، فهو لو نام الثلثين واستيقظ الثلث الأخير ليتهجد ويصلي الفجر كان أيسر عليه، بينما هنا نام واستيقظ، ثم نام ثم استيقظ، وهذا يحتاج لمراقبة الله في كل لحظة وضبط للوقت.

إخوتي الكرام! لو ضبطنا الآن الليل بعد صلاة العشاء الآخرة، ولنفرض أننا ننتهي من الصلاة الساعة الثامنة، ونحن الآن في أوقات الليل فيها قصير والنهار طويل، ولذلك الشتاء غنيمة المؤمن، قصر النهار فصامه، وطال الليل فقامه، فلو قدرنا أنه في الثامنة يؤذن العشاء، فنحن نصلي الثامنة والنصف وننتهي التاسعة، ولو قدرنا الوقت من التاسعة إلى الثالثة فجراً فعندنا ست ساعات، نم ثلاث ساعات إلى الساعة الثانية عشرة، واستيقظ ساعتين من الثانية عشرة إلى الثانية ثم تنام إلى الثالثة، وتستيقظ مرة أخرى، فيصبح الترتيب هكذا، وهذا فعل نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

والصفة الثالثة: ( وكان لا يفر إذا لاقى) إذاً: صلاته خير الصلوات، وصيامه خير الصيام، وجهاده أكمل الجهاد، إذا لاقى أعداء الله لا يفر، ويثبت ولا يولي الدبر، فهل مثل هذا يجري منه ما ينزه أحدنا نفسه عنه؟!

ورع نبي الله داود

وقد كان هذا النبي الكريم عليه السلام على جانب من الورع عظيم ومراقبة لله الكريم، روى الإمام البخاري في صحيحه، وهكذا البيهقي في شعب الإيمان وفي السنن الكبرى، والأثر في شرح السنة للإمام البغوي، ورواه أبو نعيم في الحلية، والحديث صحيح فهو في البخاري من رواية سيدنا المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده)، سبحان ربى العظيم! نبي وحاكم له شأن، ولو لم يكن نبياً فبيت المال تحت رعايته ويستحق منه نفقة، ولا يأخذ من بيت المال درهماً، إنما يعيش من عمل يده، فنبوته لا يريد عليها أجراً، وحكمه ورعايته وإمرته لا يأخذ عليها مكافأة ولا شيئاً، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده.

فبعد هذا الورع عما يحل له, هل يتوقع منه أن يتطلع إلى ما لا يحل له؟!

أنا والله أعجب للعقول التافهة كيف تلوك الشبه المنكرة نحو أنبياء الله البررة على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه!

فقوله: (كان يأكل من عمل يده)، ثابت في حديث المقدام، وثابت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

تخفيف القرآن لداود

ومنقبة أخرى لهذا النبي رواها الإمام أحمد في المسند والبخاري في صحيحه وابن حبان في صحيحه أيضاً، والبيهقي في السنن الكبرى، والإمام البغوي في شرح السنة، والحديث من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، عن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: (خفف على نبي الله داود القرآن)، والمراد من القرآن هنا القراءة، وهي قراءة الزبور الذي أنزله الله عليه: وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا [النساء:163]، ثبت في مقدمة صحيح مسلم من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، انظروا الأثر في الجزء الأول صفحة ثمانين مع شرح الإمام النووي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال موقوفاً عليه: إن في البحر شياطين أوثقها نبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام يوشك أن تخرج فتقرأ على الناس قرآناً! أي: هذياناً وكلاماً باطلاً تزعم أنه قرآن نزل على النبي عليه الصلاة والسلام، يموهون على الناس ويقولون: هذا قرآن، وهذا سيكون عند انتشار الجهل وضياع العلم وظهور الفتن، والمقصود أن القراءة يقال لها: قرآن، قرأ يقرأ قراءة وقرآناً.

وهنا خفف على نبي الله داود عليه السلام القرآن، يعني القراءة والتلاوة، فكان يأمر بدوابه أن تسرج فيقرؤه -أي: الزبور- من أوله إلى آخره، قيل: إنه مائة وعشرون سورة، خفف عليه، أي: بورك له في وقته، وأعطاه الله نشاطاً بحيث يقرأ الزبور من أوله إلى آخره قبل أن تسرج الدواب، وإسراج الدواب لا يأخذ أكثر من ربع ساعة، ولا يأكل إلا من عمل يده، وهذه تكملة لنص الحديث: (خفف على نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام القرآن، فكان يأمر بدوابه أن تسرج فيقرؤه قبل أن تسرج، ولا يأكل إلا من عمل يده).

قال الحافظ ابن حجر في الفتح في الجزء السادس صفحة وخمس وخمسين وأربعمائة: في هذا الحديث دليل على أن البركة قد تقع في الزمن اليسير حتى يقع فيه العمل الكثير، وهذا إن صدر من نبي قالوا: له معجزة، وإن صدر من ولي يقال: له كرامة، وهذا يسميه أئمتنا بـ(نشر الزمان)، يقولون: الزمان كأنه نشر وتطاول في حقي، فساعة مرت علي وعليك، لكن أنا قرأت فيها المصحف بكامله، وأنت ما أنهيت جزأين، نشر الله الزمان ليبارك لي أما أنت فبقي الزمان العادي يجرى عليك وما حصلت فيه البركة، وهنا لو أرادوا أن يفعلوا مثل فعل نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام لما أمكنهم.

ثم قال الحافظ ابن حجر ناقلاً عن كتاب التبيان في آداب حملة القرآن للإمام النووي ، وانظروا التبيان في صفحة سبع وأربعين، قال ابن حجر : قال الإمام النووي : وأكثر ما بلغنا عن عباد هذه الأمة وصلحائها أنهم كانوا يختمون أربع ختمات في الليل، وأربع ختمات في النهار، يعني: هذه ذكرت مع معجزة نبي الله داود على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، لنحترم عقولنا ونقف عند حدنا، ونعلم أن هذا ليس بمستحيل، إذا وقع لنبي على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه فهو جائز شرعاً، كرامة ومعجزة، ويمكن أن يقع لولي، كرامة أيضاً، لكن يقال لها في حق النبي: معجزة تمييزاً لها عن كرامات الصالحين.

تخفيف القرآن لعباد الله الصالحين من هذه الأمة كابن الكاتب

وكما خفف لنبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام القراءة، خففت عن بعض العباد والزهاد والصالحين في هذه الأمة، وأكثر ما بلغنا ثماني ختمات، قال الإمام النووي: نقله أبو عثمان المغربي سعيد بن سلام عن شيخه ابن الكاتب، وأبو عثمان المغربي هو الإمام القدوة، كان شيخ الصوفية في زمنه، بهذا نعته الذهبي في السير في الجزء السادس عشر صفحة عشرين وثلاثمائة، قال الخطيب في تاريخ بغداد في الجزء التاسع صفحة ثلاث عشرة بعد المائة: كان من كبار المشايخ، له أحوال مأثورة وكرامات مشهورة مذكورة، وقال الإمام ابن الجوزي في المنتظم في الجزء السابع صفحة اثنتين وعشرين ومائة لما بلغه خبر وفاة العبد الصالح القانت أبي عثمان المغربي، وقد توفي سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة، والخطابي توفي سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، يعني قبل الخطابي بخمس عشرة سنة، لما بلغ الإمام الخطابي خبر وفاة أبي عثمان المغربي، كان يقول: إن كان في هذا العصر أحد من المحدثين فهو أبو عثمان المغربي ، يقول: كان في نظري رجلاً مكاشفاً، إذا كان في هذا العصر رجل يطلعه الله جل وعلا على شيء من أمور الغيب بإذنه ومشيئته سبحانه وتعالى فهو أبو عثمان المغربي .

وعندنا خوارق العادات تقع في العلم والقدرة والغنى كما قرر أئمتنا، وهي أمور الكمال ولا توجد مجتمعة، ولا يوجد واحد منها على الكمال إلا في ذي العزة والجلال، ثم يطلع الله بعض خلقه على شيء من هذه الأمور حسبما شاء، فإذا وقع في العلم يقال له: مكاشفة كما قال الإمام ابن تيمية: يا سارية! الجبل الجبل، هذا مكاشفة، وإذا وقع في التحمل يقال له: قدرة، وإذا وقع في الاستغناء عن الناس يقال: وقع في أمر الغنى، قدرة وغنى وعلم، فالخارق في العلم يقال له: مكاشفة، يقول الخطابي : إن كان أحد من المحدثين في هذا العصر فهو أبو عثمان المغربي .

وهذا كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام كما في المسند والصحيحين من رواية سيدنا أبي هريرة، والحديث في المسند وصحيح مسلم وسنن الترمذي والنسائي من رواية أمنا الصديقة المباركة سيدتنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد كان في الأمم قبلكم محدثون من غير أن يكونوا أنبياء؛ فإن يكن في أمتي أحد منهم فعمر )، رضي الله عنه وأرضاه.

فلا أحد يقول: إنك تخرف، أو الخطابي يخرف، لا أحد يخرف إلا من يفتري على الشريعة المطهرة، هذا كلام نبينا عليه الصلاة والسلام.

يا سارية! الجبل! الجبل! قالها عمر رضي الله عنه على المنبر عندما أخذته سنة، قال بعضهم: نام على المنبر وصاح وهو نائم على المنبر: يا سارية ! الجبل! الجبل! فسيدنا عمر ينام في خطبة الجمعة على منبر رسول الله عليه الصلاة والسلام! وسبحان الله! كيف الناس يتلاعبون ويتأولون، وإن تأويلات الجهمية أخف رداءة من هذا التأويل، ثم سلمنا أنه صاح في نومه، فكيف سمع قائد الجيش سارية هذا الكلام وهو ببلاد نهاوند؟!

نسأل الله أن يلهمنا رشدنا، وأن يلهمنا أن نقف عند حدودنا، فإن يكن في أمتي أحد منهم فعمر ، قال الحافظ ابن حجر: فـ(إن يكن) صيغة ترديد وشك، والمراد منها التحقيق والقطع، أي: وجد محدثون ملهمون مكاشفون في الأمم السابقة من غير أن يكونوا أنبياء، وهذه الأمة أفضل عند الله من الأمم السابقة، فإذا وجد في تلك الأمم هذا الصنف، فأمتي من باب أولى، وهذا كما تقول: إن كان لي صديق فأنت، تورد الكلام مورد الترديد والشك، وتريد منه التحقيق، يعني: أنت لا تشك في صداقتي لك، وأنا لي أصدقاء غيرك، لكن أنت في المقدمة، وإذا انتفت الصداقة بين وبينك فليس بيني وبين أحد من خلق الله صداقة، وهنا كذلك، يعني: إذا لم يكن في هذه الأمة محدثون، فمن باب أولى أن يكون في الأمم السابقة، وإذا وجد في الأمم السابقة محدثون، فمن باب أولى أن يوجد في هذه الأمة، فأورد الكلام مورد الترديد والشك، والمراد منه التحقيق، فـعمر رضي الله عنه وأرضاه صالح ولي قانت لله جل وعلا، ما جاز عليه يجوز على غيره من الأولياء، ولذلك قال أبو سليمان الخطابي : إن كان في هذا العصر أحد من المحدثين فأبو عثمان المغربي .

ومن كلام هذا العبد الصالح يقول: الناس قوالب وأشباح تجرى عليهم أحكام القدرة.

وقد دفن أبو عثمان المغربي بجوار أبي عثمان الحيري النيسابوري ، فاجتمع في ذلك المكان أبو عثمان المغربي والحيري النيسابوري رضي الله عنهما وعن أئمة الإسلام، وكل منهما من مشايخ الصوفية الكبار، وقد تقدم معنا ترجمة أبي عثمان النيسابوري ، وهي في السير وغير ذلك، انظروا سير أعلام النبلاء في الجزء الرابع عشر صفحة اثنتين وستين، ونعته الإمام الذهبي بقوله: هو الشيخ الإمام المحدث الواعظ القدوة شيخ الإسلام الأستاذ أبو عثمان سعيد بن إسماعيل النيسابوري الحيري ، توفي سنة ثمان وتسعين ومائتين، عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.

وتقدم معنا أنه كان مجاب الدعوة، ولما دعا على الأمير الظالم لم يصل الفجر حتى جاءه الخبر بموته، وعلق الإمام الذهبي على هذه القصة بقوله: وبمثل هذا يعظم مشايخ الوقت، وهو الذي تزوج امرأة مسكينة عوراء عرجاء شوهاء إكراماً لها وإرضاء لرب الأرض والسماء، وهو الذي قال لـأبي جعفر بن حمدان : ألستم ترون تروون روي بالوجهين أنه عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة؟ قال: بلى، قال أبو عثمان : فرسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الصالحين، يعني إذن نكتب حديث نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام لتنزل علينا رحمة رب العالمين؛ لأن نبينا عليه الصلاة والسلام سيد الصالحين وإمام الصالحين وأفضل خلق الله أجمعين.

أبو عثمان المغربي الذي توفي سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة، ينقل هذه الكرامة عن شيخه ابن الكاتب الذي توفي بعد الأربعين وثلاثمائة: أنه كان يختم أربعاً في الليل وأربعاً في النهار، وابن الكاتب هو أبو علي أحمد بن علي بن جعفر ، كان من كبار الصالحين، ومن مشايخ ساداتنا المصريين، انظروا ترجمته الطيبة في صفة الصفوة في الجزء الرابع صفحة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، وفي البداية والنهاية في الجزء الثاني عشر صفحة ثمان وعشرين ومائتين، وفي الرسالة القشيرية صفحة ست وعشرين وأربعمائة.

وكان يقول: إذا سكن الخوف قلب الإنسان لم يتكلم اللسان فيما لا يعنيه، أي أنك تتكلم بما لا يعنيك عندما لا تعظم الله والقلب خالٍ من هيبة الله جل وعلا.

وهذه الكرامة نقلها الإمام النووي ، ونقلها عنه حذام المحدثين ابن حجر في الفتح، وأوردها عند معجزة نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فكما وقع هذا معجزة لنبي، جاز أن يقع كرامة لولي والله على كل شيء قدير.

تخفيف القرآن لسليم بن عتر

وتقدم معنا ضمن مباحث النبوة عن العبد الصالح سليم بن عتر وهو من التابعين، وتوفي سنة خمس وسبعين، الإمام الفقيه، كان أيضاً قاضي بلاد مصر، الإمام الدارقطني يروي عنه هذه الكرامة فيقول: روي عنه أنه كان يختم ثلاث ختمات في ليلة، ثم بعد أن ينتهي من كل ختمة يباشر أهله ويغتسل، ويشرع في الختمة الثانية، إذاً: يغتسل ثلاث مرات، ويتصل بأهله ثلاث مرات، ويختم ثلاث ختمات قبل طلوع الفجر، فلما توفي قالت زوجه: رحمك الله كنت ترضي ربك وأهلك.

تقدم معنا هذا وقلت: إن الأثر موجود في السير في الجزء الرابع صفحة اثنتين وثلاثين ومائة، والمعلق على السير قال: هذه القصة لا يقبلها العقل ولا يصدقها! وأنا أقول: قولك لا يقبله العقل! نحن عندنا في هذا الوقت اختلت الموازين فلا نميز بين الجائز وبين المستحيل، فالمستحيل هو الذي لا يقبله العقل، وهو أن تجمع بين نقيضين أو أن تنفيهما، أما الجائز الممكن، فكما لو قيل لنا: فلان طار في الهواء، فما المانع أن يجعل الله بشراً يطير؟ لكن هذا ما جرت به العادة، فإذا طار يقال: خرقت له العادة في حقه، ما يمكن أن تخرق العقول، وأن يأتي بشيء يتناقض مع العقول، ولو جعله الله يطير كالطائر لكان أمراً طبيعياً.

فقوله: لا يقبله العقل، هذا كلام من لا يعلم وظيفة العقل، ولا معنى العقل، ولا يعقل ما يقول، لو قال: هذه القصة غريبة تحتاج إلى تحقق للإثبات لهان الأمر؛ لأن الواجب عندنا لا يتصور عدمه، والمستحيل لا يتصور وجوده ووقوعه، والممكن يتصور وجوده وعدمه، فإذا شاء الله أن يوجده بكيفية من الكيفيات فهو على كل شيء قدير، وما حصل لنبينا عليه الصلاة والسلام في حادثة الإسراء والمعراج يعتبر خارقاً للعادة، لا يمكن أن تأتي شرائع الله بما تحيله العقول، إنما تأتي بما تحار فيه العقول ليسلم الإنسان بعجزه للعزيز الغفور سبحانه وتعالى، وستحيل أن يتعارض خلق الله مع شرع الله، فلا يتعارض نقل صحيح مع عقل صريح، إنما يحار العقل، وهذا هو دليل عجزك، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85] ، هذا دليل عجزك، وهذه الحيرة مقصودة ليسلم الإنسان بعجزه لربه سبحانه وتعالى.

فلو قال: هذه غريبة عجيبة، نقول: صدقت غريبة عجيبة ولا شك، وهذه ثلاث ختمات استغربتها، وقد وجد ما هو أكثر، وجد ثماني ختمات، والختمة الطبيعية للحافظ المجد المسرع إذا أراد أن يختم مرة تأخذ منه ست ساعات إلى سبع، هذا للمجد الذي يقرأ حدراً ولا يأخذ نفساً، فثماني ختمات اضربها في سبعة يكون معك ست وخمسون ساعة، واليوم كله أربع وعشرون ساعة، فكيف يمكن هذا؟ هذا نشر الزمان كما قلنا، تحصل البركة في الوقت القليل فيفعل فيه الكثير كما قال الحافظ ابن حجر رضي الله عنه وأرضاه، فاحترموا العقل البشري ولا تمتهنوه.

صيام داود عليه السلام

إخوتي الكرام! نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام عبادته أعلى العبادات، في صيامه وفي صلاته وفي ورعه واحتياطه، ولذلك كان نبينا عليه الصلاة والسلام يشيد بقدره ورفعة شأنه، وكان يخبر عنه بأنه كان أعبد البشر، وأعبد الناس لله جل وعلا، وكلام نبينا عليه الصلاة والسلام هذا ثبت في صحيح مسلم من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه في حديثه الطويل عندما جمع القرآن، فكان يقرؤه في كل ليلة، وكان يصوم الدهر، وبعد ذلك اعتزل زوجته، ونبينا عليه الصلاة والسلام عندما علم قال له في نهاية الأمر: (صم يوماً وأفطر يوماً، قال: أطيق أكثر من ذلك، فقال نبينا عليه الصلاة والسلام: لا أفضل من ذلك، صم صوم داود فإنه كان أعبد الناس).

من دعاء نبي الله داود

وروى الإمام الترمذي في سننه وقال: هذا حديث حسن غريب، ورواه البخاري في التاريخ، والبزار في المسند وأبو يعلى في مسنده وهكذا الطبراني في معجمه الكبير، والإمام الروياني في مسنده، والحاكم في المستدرك عن سيدنا أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه، وإسناد الحديث حسن كما في المجمع في الجزء الثامن صفحة ست ومائتين، وحسنه الإمام الترمذي أيضاً.

ولفظ الحديث: عن سيدنا أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام يقول: كان أعبد البشر، وكان من دعائه: اللهم إني أسألك حبك، وأسألك حب من يحبك، وأسألك حب العمل الذي يبلغني إلى حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي وأهلي ومن الماء البارد )، والحديث لا ينزل عن درجة الحسن كما قلت، وقد صححه الحاكم فتعقبه الذهبي بما وهم فيه، فانتبهوا لوهم الذهبي رحمه الله ورضي عنه.

قال الذهبي في تلخيص المستدرك في الجزء الثاني صفحة ثلاث وثلاثين وأربعمائة: فيه عبد الله بن يزيد الدمشقي ، قال عنه الإمام أحمد : أحاديثه موضوعة، وهذا الكلام قاله الإمام أحمد في عبد الله بن يزيد الدمشقي وهو تابعي، يروي عن واثلة بن الأسقع وأبي أمامة رضي الله عنهم أجمعين كما في المغني للذهبي في الجزء الأول صفحة ثلاث وستين وثلاثمائة، وكما في الميزان ومعه اللسان في الجزء الثالث صفحة ثمان وسبعين وثلاثمائة، أما الراوي في المستدرك فليس هو التابعي الذي يروي عن واثلة وأبي أمامة رضي الله عنهم أجمعين.

الذي معنا في المستدرك هو عبد الله بن ربيعة بن يزيد الدمشقي يروي عن أبي إدريس الخولاني ، وهو من رجال الترمذي، يختلف عن ذاك كما قرر هذا الذهبي نفسه في كتابه الكاشف في الجزء الثاني صفحة ست وسبعين.

وقد حكم الحافظ ابن حجر في التقريب على عبد الله بن ربيعة بن يزيد الدمشقي الذي معنا في رجال الترمذي، فقال: إنه مجهول، والسبب في ذلك أنه لم يرو عنه إلا راو واحد، وقال الحافظ في تهذيب التهذيب في الجزء الخامس صفحة سبع ومائتين: وقد ذكره ابن حبان في الثقات، أي: على طريقته في توثيق من روى عنه راو واحد ولم يعلم فيه جرح، ثم أورد الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب هذا الحديث من طريق الترمذي وقال: رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب.

إذاً: قول الذهبي : فيه عبد الله بن يزيد الدمشقي ، قال عنه الإمام أحمد : أحاديثه موضوعة، هذا وهم، إنما فيه عبد الله بن ربيعة بن يزيد الدمشقي ، نعم فيه جهالة كما قلت، لكن لا يعلم فيه ضعف، فالإمام ابن حبان يوثقه، والإمام الترمذي يحسن الحديث من طريقه رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.

الرد على القول بأن فتنة داود عليه السلام كانت بالنظر

إذاً: إخوتي الكرام! هذا حال نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فكيف تلصق به تلك التهمة الباطلة؟! إنما كانت فتنة نبي الله داود على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه من أجل النظر، نثبت الفتنة له، ثم نؤخر الغلام الأمرد الصبيح وراء ظهورنا، حقيقة هذا لا يتناسب مع خبر نبينا عليه الصلاة والسلام عن نبي الله داود، فهذا أعبد العباد لرب العباد سبحانه وتعالى، وطاعته أفضل الطاعات عند رب الأرض والسماوات، ومن أراد أن يجد ويجتهد فليفعل مثله، ورع عظيم، ونبي كريم، وهو حاكم للمسلمين لا يأكل من بيت المال شيئاً إنما يأكل من عمل يده، فالذي يعف عن المباح الحلال الذي أحله له ذو العزة والجلال، ويكتسب بعد ذلك بيمينه ليكون أتقى لربه، هذا لا يسلم منه الناس في نفوسهم ولا في منكوحهم؟! تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً!

من خصائص نبي الله داود عليه السلام

وكما أثنى نبينا على نبي الله داود، فقد أثنى ربنا المعبود عليه بصفات تكاد أن تكون من باب الخصوصيات له عن غيره من أنبياء الله ورسله على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، فكيف تلصق به تلك الرذيلة؟!

استمع لوصف الله لنبيه داود عليه السلام في سورة ص: اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:17]، والأيد مصدر آد يئيد أيداً بمعنى قوي واشتد، وليست هنا جمع يد، ومنه قول الله: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ [الذاريات:47]، فليست من آيات الصفات، والمعنى بقوة وإحكام.

إذاً: هو ذو القوة في طاعة الله وفي قتال أعداء الله، وتقدم معنا أن صومه أحب الصيام إلى الله، وصلاته أفضل الصلوات عند رب الأرض والسماوات، فيثبت إذا لاقى الأعداء ولا يفر ولا يولي أدباره، وبعد ذلك عنده عزم وحزم في العمل، فيأكل من كد يمينه، ولا يأخذ شيئاً من بيت مال المسلمين، وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:17]، أي: كثير الرجوع إلى الله عز وجل.

وانتبه لما أغدق الله عليه من الخيرات والبركات وسخر له من المعجزات: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ [ص:18]، خصوصيات كان في أول النهار، وفي آخره يجلس فيقرأ الزبور وهو صاحب الصوت العذب الشجي، فالجبال والطيور تسبح معه بصوت يسمع ويفهم، إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ [ص:18]، وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [ص:19]، أي: تسبح معه، وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ [ص:20]، أي: قويناه، وجعلنا له هيبة في رعيته، وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ص:20]، والذي يعتدي على أعراض الناس هذا غير حكيم، بل هو سفيه.

أما هذا النبي المبارك فهو نبي كريم ذو جد واجتهاد في طاعة رب العالمين، فما عبد مخلوق ربه بعبادة أعلى من عبادة نبي الله داود، ولذلك شهد له نبينا المحمود عليه الصلاة والسلام أن عبادته أكمل العبادات وأعلاها، ثبت في مسند الإمام أحمد ، والحديث في الصحيحين والسنن الأربعة، فهو في الكتب الستة، ورواه ابن حبان في صحيحه، وكذا ابن خزيمة في صحيحه، والإمام الدارمي في سننه والحميدي في مسنده والطحاوي في شرح معاني الآثار وفي مشكل الآثار، ورواه شيخ الإسلام عبد الرزاق في المصنف، والبيهقي في السنن الكبرى، وأبو نعيم في الحلية رضي الله عنهم أجمعين.

ولفظ الحديث من رواية سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الصيام صيام نبي الله داود)، وفي رواية: (أحب الصيام إلى الله صيام نبي الله داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وأحب الصلاة، إلى الله صلاة نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام)، وهي صلاة الليل التي يخلو الإنسان فيها مع ربه سبحانه وتعالى، قال: (كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه)، الليل ستة أسداس، ثلاثة أسداس وهي النصف ينامها، وسدسان وهي الثلث يقومه، فيقوم إذاً سدساً من الثلث الأخير، وسدس يكون فيه نائماً، فهذه أحب الصلاة إلى الله.

وحقيقةً! فيها مزيد عزم وحزم وجد واجتهاد، وفيها راحة للبدن، عندما ينام الإنسان نصف الليل يستريح، فيقوم للعبادة بنشاط، وحينما يبقى إلى الفجر ساعة ونصف أو ساعتان ينام ليتنشط لصلاة الفجر، ولئلا يظهر في وجهه الصفرة التي تعتري من يقومون السدس الأخير دون نوم، فإذاً: فيها جد واجتهاد، مع أن فيها زيادة تعب، فهو لو نام الثلثين واستيقظ الثلث الأخير ليتهجد ويصلي الفجر كان أيسر عليه، بينما هنا نام واستيقظ، ثم نام ثم استيقظ، وهذا يحتاج لمراقبة الله في كل لحظة وضبط للوقت.

إخوتي الكرام! لو ضبطنا الآن الليل بعد صلاة العشاء الآخرة، ولنفرض أننا ننتهي من الصلاة الساعة الثامنة، ونحن الآن في أوقات الليل فيها قصير والنهار طويل، ولذلك الشتاء غنيمة المؤمن، قصر النهار فصامه، وطال الليل فقامه، فلو قدرنا أنه في الثامنة يؤذن العشاء، فنحن نصلي الثامنة والنصف وننتهي التاسعة، ولو قدرنا الوقت من التاسعة إلى الثالثة فجراً فعندنا ست ساعات، نم ثلاث ساعات إلى الساعة الثانية عشرة، واستيقظ ساعتين من الثانية عشرة إلى الثانية ثم تنام إلى الثالثة، وتستيقظ مرة أخرى، فيصبح الترتيب هكذا، وهذا فعل نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

والصفة الثالثة: ( وكان لا يفر إذا لاقى) إذاً: صلاته خير الصلوات، وصيامه خير الصيام، وجهاده أكمل الجهاد، إذا لاقى أعداء الله لا يفر، ويثبت ولا يولي الدبر، فهل مثل هذا يجري منه ما ينزه أحدنا نفسه عنه؟!

وقد كان هذا النبي الكريم عليه السلام على جانب من الورع عظيم ومراقبة لله الكريم، روى الإمام البخاري في صحيحه، وهكذا البيهقي في شعب الإيمان وفي السنن الكبرى، والأثر في شرح السنة للإمام البغوي، ورواه أبو نعيم في الحلية، والحديث صحيح فهو في البخاري من رواية سيدنا المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده)، سبحان ربى العظيم! نبي وحاكم له شأن، ولو لم يكن نبياً فبيت المال تحت رعايته ويستحق منه نفقة، ولا يأخذ من بيت المال درهماً، إنما يعيش من عمل يده، فنبوته لا يريد عليها أجراً، وحكمه ورعايته وإمرته لا يأخذ عليها مكافأة ولا شيئاً، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده.

فبعد هذا الورع عما يحل له, هل يتوقع منه أن يتطلع إلى ما لا يحل له؟!

أنا والله أعجب للعقول التافهة كيف تلوك الشبه المنكرة نحو أنبياء الله البررة على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه!

فقوله: (كان يأكل من عمل يده)، ثابت في حديث المقدام، وثابت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ومنقبة أخرى لهذا النبي رواها الإمام أحمد في المسند والبخاري في صحيحه وابن حبان في صحيحه أيضاً، والبيهقي في السنن الكبرى، والإمام البغوي في شرح السنة، والحديث من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، عن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: (خفف على نبي الله داود القرآن)، والمراد من القرآن هنا القراءة، وهي قراءة الزبور الذي أنزله الله عليه: وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا [النساء:163]، ثبت في مقدمة صحيح مسلم من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، انظروا الأثر في الجزء الأول صفحة ثمانين مع شرح الإمام النووي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال موقوفاً عليه: إن في البحر شياطين أوثقها نبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام يوشك أن تخرج فتقرأ على الناس قرآناً! أي: هذياناً وكلاماً باطلاً تزعم أنه قرآن نزل على النبي عليه الصلاة والسلام، يموهون على الناس ويقولون: هذا قرآن، وهذا سيكون عند انتشار الجهل وضياع العلم وظهور الفتن، والمقصود أن القراءة يقال لها: قرآن، قرأ يقرأ قراءة وقرآناً.

وهنا خفف على نبي الله داود عليه السلام القرآن، يعني القراءة والتلاوة، فكان يأمر بدوابه أن تسرج فيقرؤه -أي: الزبور- من أوله إلى آخره، قيل: إنه مائة وعشرون سورة، خفف عليه، أي: بورك له في وقته، وأعطاه الله نشاطاً بحيث يقرأ الزبور من أوله إلى آخره قبل أن تسرج الدواب، وإسراج الدواب لا يأخذ أكثر من ربع ساعة، ولا يأكل إلا من عمل يده، وهذه تكملة لنص الحديث: (خفف على نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام القرآن، فكان يأمر بدوابه أن تسرج فيقرؤه قبل أن تسرج، ولا يأكل إلا من عمل يده).

قال الحافظ ابن حجر في الفتح في الجزء السادس صفحة وخمس وخمسين وأربعمائة: في هذا الحديث دليل على أن البركة قد تقع في الزمن اليسير حتى يقع فيه العمل الكثير، وهذا إن صدر من نبي قالوا: له معجزة، وإن صدر من ولي يقال: له كرامة، وهذا يسميه أئمتنا بـ(نشر الزمان)، يقولون: الزمان كأنه نشر وتطاول في حقي، فساعة مرت علي وعليك، لكن أنا قرأت فيها المصحف بكامله، وأنت ما أنهيت جزأين، نشر الله الزمان ليبارك لي أما أنت فبقي الزمان العادي يجرى عليك وما حصلت فيه البركة، وهنا لو أرادوا أن يفعلوا مثل فعل نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام لما أمكنهم.

ثم قال الحافظ ابن حجر ناقلاً عن كتاب التبيان في آداب حملة القرآن للإمام النووي ، وانظروا التبيان في صفحة سبع وأربعين، قال ابن حجر : قال الإمام النووي : وأكثر ما بلغنا عن عباد هذه الأمة وصلحائها أنهم كانوا يختمون أربع ختمات في الليل، وأربع ختمات في النهار، يعني: هذه ذكرت مع معجزة نبي الله داود على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، لنحترم عقولنا ونقف عند حدنا، ونعلم أن هذا ليس بمستحيل، إذا وقع لنبي على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه فهو جائز شرعاً، كرامة ومعجزة، ويمكن أن يقع لولي، كرامة أيضاً، لكن يقال لها في حق النبي: معجزة تمييزاً لها عن كرامات الصالحين.




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] 4048 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] 3981 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] 3907 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] 3795 استماع
شرح الترمذي - مقدمات [8] 3787 استماع
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] 3772 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] 3575 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] 3486 استماع
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] 3467 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [59] 3417 استماع